ضبابيةُ شعرٍ أم ضبابيةُ عالَمٍ؟
قراءة لديوان “هوامشُ كُحُلٍ” لحامد الراوي
أ د. نجم عبدالله كاظم
( 1 )
هل الشاعر، أي شاعر، أكثر قدرة منّا، نحن النقاد، على تلقي الشعر والإحساس به بل تشخيص مكامن الإبداع والروح فيه؟ خطر في بالي هذا السؤال، وأنا أقرأ مقدمة الشاعر جواد الحطاب لديوان “هوامش كُحل”([1]) لحامد الهيتي. ولأن من الصعب الإجابة على هذا السؤال إيجاباً أو سلباً بحسم، نقول ربما هو كذلك، ولكن مع الفارق في أن الشاعر الناقد يعبر عن ذلك بالشعر أو بلغة شعرية أكثر منها بلغة نقدية، كما أنه يتلقى الإحساس أكثر من تلقي المعنى. ومن هنا لم يكن غريباً أن يقول الحطاب في شعر الراوي: “ليس من السهولة أن تكون رأياً نقدياً أو انطباعياً عن شعره؛ ولا يعود الأمر لكونه شاعراً معقّداً أو ممن يخوضون في دهاليز الغموض لأغراض الغموض، لكن من يستطيع أن (يقشّر الصوت.. ليظل الغناء نقياً.. كما نشتهي) هو شاعر مراوغ حقاً.. وبامتياز!!”- الديوان، ص5.
لقد بدا لي، وأنا أقرأ كلمات الشاعر الناقد هذه التي قدم بها ديوان “هوامش كحل”، وكأنه يعيش بين كلمات الديوان وحروفه، وأكثر من هذا في أعماق صاحب هذه الكلمات والحروف، ولكنني لم أكن لأستوعب ما ذهب إليه تماماً قبل أن أقرأ قصائد الديوان لأجد توصيف الحطاب للشاعر حامد الراوي بالقول: “هو شاعر مراوغ.. وبامتياز” منطبقاً تماماً عليه. وعلى أية حال، لم يكن لنا، بالطبع، لنسلم بهذا دون أن نخوض بحور الديوان، وهذا ما سعينا إليه لنخرج منه بهذه القراءة.
( 2 )
وابتداءً حين نقرأ أياً من قصائد الديوان نحس ضبابية، قد تكون هي وراء ما ذهب إليه الحطاب، إذ تبدو وكأنها تمنع القارئ من رؤية مواضع خطواته في عالم هذه القصائد، فيثور في ذهنه، كما ثار في ذهننا مباشرةً تساؤل إن كانت هي ضبابية الشعر فعلاً أم هي ضبابية العالم أو العوالم التي تخترقها القصائد وتتعامل معها؟ والحقيقة أن هذه الضبابية أمرٌ غاية في الغرابة. فصحيح تماماً قول الحطاب في منجز الشاعر الراوي: “في القراءة الأولى لمنجزه؛ تضعك بساطته في (موقف المتمكن) من كشف عالمه، فتأتي إلى قصائده، كما الصياد إذ يأتي إلى غزالة هيأها الفخ لإرضاء غروره… تقرر أن تمر سريعاً بـ(هوامش حكل) حتى إذا توهمتَ الوصول؛ وامتدت يداك إلى الجسد الدافئ… هالك ما ستجد؛ فالعتمة والبرق عديدات، وثمة بنىً.. وأنساق.. وتكوينات؛ فترتد وأنت في موقف لا تُحسد عليه”- ص5-6. ويخيل لي أن وراء هذا أمرين، الأول هو الشاعر نفسه بتجربته وما يعتمل في دواخله، والثاني هو طبيعة الموضوع أو المواضيع التي يتناولها أو التي انطلق منها في قول شعره، وهي جميعاً لها علاقة بالأمر الأول لأنه ما كان لهذا الموضوع أو الموضوعات أن تعبر عن نفسها أو يعبر الشاعر عنها بدون الشخصية الخاصة والذات والتجربة. وهكذا كان أول ما نلمحه، واضحاً، هو غير غير قليل من الحزن تصطبغ به بعض الجمل الشعرية، بل أحياناً، قصائد تامةً:
نطأطِئ أعمارنا واقفين
ونسأل: هل من دليل على موتنا
كي نموت؟
…
نشير إلى نجمة في الخواء
ونطفئها قانتين / الديوان، ص48
ولكن هل هو حزن اليائس؟ لا نظن، فإذا ما بدا بعض ذلك يأساً فإنما هو في الحقيقة تعبير عن مشاعر وأحاسيس إنسانية نمرّ جميعاً بها، وأكثرنا في ذلك هم الشعراء. فعدا ذلك نعتقد أن جملاً شعرية وقصائد أخرى تجيب بـ(لا) لليأس. وفي كل الأحوال، وتمشياً مع الطبيعة الإنسانية من جهة ومع الظرف غير السويّ الذي من الواضح أن الشاعر ينطلق منه، يعيش إنسان الشاعر والقصيدة حيرةً هي حيرة العراقيين في زمن صعب، ولكنه لا يمنع هذا الإنسان من التشبث بأمل قوي، حتى في موته، ما دام يرتبط بالعراق:
أضعنا الطريق إلى موتنا
واختبأنا لكي لا ترانا الحياة
…
أكنتَ ستُلقي السلام على دمعنا
ويبتل ماء الفرات بمعنى: نحبك
إنا نحبك في موتنا يا عراق /ص51
فإنْ هذا إلا هو الطريق، أكان إلى موتنا أم إلى سلام، وليس من طريق إلاه، فحين يكون التحدي لليأس والحزن والألم، تنفتح نافذة أمل ليكون المرور إلى حيث الوصول. وليس هذا بغريب في قصائد الديوان وهو يبدأ بالأمل، والحياة عند الشاعر تَسَعُ الكثير، مهما كان ما ينزل عليها من مطر:
قطرةٌ توجز تاريخ المطر
قطرة واحدة تكفي
لتنساب الينابيع البعيدة
وإذا انفتح المشهد
وامتد المكان
واستثيرت قطرتان
رحل النهر إلى أرض جديدة / ص17
ولأنه ليس لمثل هذا الأمل أن يعني شيئاً إن لم يكن جمعياً، أو على الأقل يقود إلى المجموع، فقد كان أمل الشاعر هو أمل الناس، ليعني هذا بالضرورة الانتماء إليهم. فما من متعة وسعادة وتحقيق آمال بدون مشاركة المجموع وبهم يكون الانتماء إلى الوطن:
حسبي إذا غنى الجميع، ورنموا
أنفاسهم أني أصفق كلما…
حسبي من الوطن الذي أنتمي
إلا إلى أوجاعه معنى (انتمي) / ص71
ولأن الحياة موجودة، فلا بد من أن يكون هناك في الجمع من يرغب فيها، بمعناها الحرفي أو على الأقل بما تعنيه من صالح ومصالح وخيرٍ لإنسان القصائد وللآخرين، كما لا بد أن يكون هناك من يريدها لنفسه فحسب ولا يريدها للآخرين. وهذا هو الصراع الأبدي للإنسان والوجود، وهو ما تمثل في العراق المعاصر الذي واضح تماماً انطلاق الشاعر منه، كما قلنا. ولأن الشاعر يمثل الأنا هنا فهو يريد الحياة، بينما يتوزع الآخرون (هم) بين من يريد الحياة لنفسه دون الآخرين، ومن يريدها له وللآخرين. ولأن الإيمان الإيجابي الذي نقرأه في كلمات الشاعر هو لانتصار الحياة والخير في النهاية، فقد كان إيمان الشاعر بهذا حتى حين يبدو وكأن الشر والأشرار ينتصرون لوهلة، كما يعبّر الشاعر عن ذلك بتفاؤل مبرر ضمناً، في قصيدة (هم):
يتناسلون من الهواء
ويسقطون
على الخواء
ويرحلون
…
كانوا فخاخ الصوت
سكنوا المداد
خالطوا الكلمات
وابتكروا بلاغاتهم
وما سرقوا من الأموات
إلا الموت / ص18-19
( 3 )
ليس خطأ، كما قد يظن البعض، القول إن الشعر هو بدرجة كبيرة، ومهما كان ملتزماً ومعنياً بالآخر والآخرين، فن الذات، فقد كان من الطبيعي أن تتمثل الذات واضحة في شعر شاعر مثل حامد الهيتي انطلق، كما رأينا، من رحم المعاناة التي عاشها كل عراقي، وأُولى كلمات تقرأها له تنمّ عن تزاحم عواطف وفوران وجدان. لكنّ هذه الذات لم يكن هو ليرضى لها أن تعبر عن نفسه بالـ(أنا) فقط، كما في قصيدة الديوان (هوامشُ كُحْلٍ)، بل كان للتعبير، مرة أخرى، عما هو مزروع فيه من انتماء إلى الآخرين والوطن، أن يزاحم الأنا أو، على الأقل يتماهى معها. وهكذا كان طبيعياً، في ظل هذا، أن تلتقي الذات والموضوع، والـ(أنا) والآخر، و(نحن) والـ(هُم)، والمصلحة والوطن، والداخل والعالم، كما عبرت عن ذلك معظم قصائد الديوان، وهل أجمل أو أنسب من العشق والحب والوصل مع المرأة والوطن للتعبير عن هذا؟:
ينبوعها وانا.. فمن يشكو الظمأ
حسبي من الكلمات أن أتلعثما
حسبي من الخمر العتيقة ريحها
لا روحها، لألوح ظلاً مبهماً
حسبي إذا غنى الجميع، ورنموا
أنفاسهم أني أصفق كلما…
حسبي من الوطن الذي لا أنتمي
إلا إلى أوجاعه معنى (انتمي) / ص71
وفي ظل حتمية مثل هذا اللقاء أو اللقاءات، لم يكن ليمنع هذا اللقاء بالضرورة شيء:
لا شيء.. يمنع عمري المسكون
باللعنات والطعنات أن يتبرعما
لا شيء يمنع هذه الكف البرية
وهي تومئ أن تلامس زمزمها / ص72
إن الشاعر في كل ذلك صاحبُ جملةٍ شعرية تستدعيك إليها أكثر من أن تأتي إليك، وحين تلتقيها للعمل على الوصول بها، وفق أفق التلقي واستحضار المسكوت عنه، إلى معنى محدد ومحسوم فإنك قد لا توفّق. ولكن هذا لا يعني أنها لم تفعل شيئاً بل هي سرعان ما تفور في داخلك وكأنك الشاعر، وفي لحظات بعينها من قراءتك تحسها تنبع معانيَ وأفكاراً وتفاعلاتِ احاسيسَ تمسكها مرة وتنفلت منك مرة أخرى، ولكنها أبداً لا تتركك، بل هي تجعلك، على الأقل، في حيرةِ توزُّعٍ بين بساطة كلمات ومراوغةِ معانٍ وتنازعِ أفكارٍ وأحاسيس، وكل ذلك يخلق لك نوع خالص من البهجة.
وإذ بدأنا مقالنا برأي الشاعر جواد الحطاب عن الشاعر وشعره والديوان، نختمه بما يبدو مكملاً لرأيه حين يقول: "خيال متدفق تذكيه ثقافة عريضة؛ فترى القصائد تتراكض ما بين (الأصولية الشعرية) و(الحداثة) من دون أن تتعثر أو تنكفئ لأن جمهورها- ببساطة- العشاق والمجانين". ولكن إنْ كنا قد بدأنا متفقين مع الشاعر الناقد، فإننا ننتهي مختلفين في جزئية مهمة وهي قوله بأن جمهور القصائد من العشاق والمجانين، إذ نرى أن جمهورها كل القراء بمن فيهم العشاق والمجانين، ببساطة لأن الفكر والتأمل، الوجدان والتيه، تنطوي عليهما كل قصيدة إن لم نقل كل بيت وفقرة شعرية، كما نأمل أن يكون بعض ما مرّ من مقالنا قد عبر بعضه.
[1] ) حامد الهيتي: هوامش كُحْلٍ، مجموعة شعرية، دار ميزوبوتاميا ومكتبة ودار عدنان، بغداد، 2013.