صخب هادئ في غابة سلمان الجبوري العذراء

صخب هادئ
في “غابة” سلمان الجبوري

د. نجم عبدالله كاظم
(1)
حين رحت أتصفح ديوان “الغابة العذراء” للشاعر الرقيق سلمان الجبوري(1)، لم أكن أفكر في الكتابة عنه. فأنا، في انشغالي بالسرد والسرديات، قليل الكتابة عن الشعر. ولكنني سرعان ما وجدت نفسي أنخرط في ما يشبه الانشغال الغامض به ومتجاوباً بحسّية غير عادية مع القصيدة تلو الأخرى حتى وصلت إلى قصيدة “إشراقات” تحديداً فأحسست بها، في بساطتها وغنائيتها وصدق تجربتها الواضحة، تناجي قلمي:
وأفجُّ غبارَ الماضي
وأفجُّ عبابَ الستّين:
قد أصل لأدنى السبوره
أمسك طبشوره
تتكون أولى أجزاء الصوره
**
ويظل معلمنا عبد الهادي
وتظل السبوره
لكن صليب الحرب المعقوف
يسقط في الوحل فيشرق لون الصوره الديوان، ص11- 13.
وإذ تنفتح هذه القصيدة على ثنائية (الماضي الجميل) و(الحاضر القاسي)، فإنها تستجيب لما نراه شفرتين قد يعبّر عنهما عنوان واحدة من القصائد، تلك هي “صخب هادئ”. فبرأينا أن الديوان محكوم بهما وتشكلان المفتاح إلى قصائد الديوان كلها ومن ورائها إلى تجربة الشاعر الانفعالية الواعية وغير الواعية. والواقع أن ثنائيات عديدة من المفردات والأفكار في الديوان، تنكشف لنا حين ننطلق في قراءته من الوعي بهاتين الشفرتين: الصخب والهدوء؛ والواقع والحلم؛ وقسوة الواقع- بعنفه وما يتولد عن ذلك من إحساس بالاغتراب والتوحد، في مقابل إشراقات حُلمية خافتة من التفاؤل والغبطة؛ وضغوطات الحاضر الجاثمة علينا مقابل ورديات الماضي الذي يأتي ولا يأتي، على حد تعبير الشاعر عبد الوهاب البياتي.
وفي العودة إلى عنوان “صخب هادئ” السابق، التي قد نراها معبّرةً عن الديوان كله، أكثر مما يعبر عنه عنوان الديوان، قد نستجيب للسيمياء لنجد في عناوين القصائد ما يتعدى المعاني العادية أو حتى الدلالات المباشرة. ولنأخذ العنوان السابق مثالاً، نعتقد أننا سنجده من خلال القراءة السيميائية، كاشفا أولاً عن البعد الذي تريد القصيدة أن تتملكنا من خلاله، ومانحاً إيانا مفتاحاً لمغاليق بقية القصائد، ومهيِّئاً للديوان أخيراً الرابط أو الثيمة المركزية التي نفترض أن أي عمل يمتلكها. فالملمح السيميائي الأول الذي يتمثل لنا يكمن في مفردة (صخب)، و”الصخب محرّكة شدة الصوت… وتصاخبوا تصايحوا وتضاربوا”(2)، وهو ما يعبر تماماً عن الواقع الذي سيأبى أن يغادر قصيدة الجبوري. والملمح السيميائي الثاني يتمثل في مفردة (هادئ)، و”هدأ كمَنَع هدأ هدوءاً سكن”، وبما يعني نقيض الأولى وهو يعبر عن دواخل الإنسان، الشاعر أو إنسان الشاعر، نعني العراقي تحديداً، التي تأبى هي الأخرى إلا أن تكون الصوت الآخر. وهنا من المثير أن لا يتوازن النصف الثاني من العنوان مع النصف الأول لتكون المفردة (هدوء) وليكون العنوان بها “صخب وهدوء” مثلاً، فهذا ما كان ليقدم المعنى نفسه، التي نرى أن العنوان يؤديه الآن. فمع حقيقة الهيمنة المفترضة للهدوء في دواخل الإنسان، فليس لهذا الهدوء أن يثبت إزاء صخب الخارج ليكون العنوان “الصخب الهادئ” بذلك معبراً عن الحالة الحياتية والانفعالية، التي ليس لصاحبها، مهما فعل أو حاول، تفكيراً أو تخيّلاً أو حلماً أو لجوءاً إلى هدوء دواخله، أن يتحرر منها متى ما انفتح وعيه على الواقع:
صحوٌ في روحي يتناهى
فأدندنُ؛
أرفع صوتي
يلكزني جاري
هل تحلمُ..؟ صهْ
الحارس خلف الباب
أصحو..
تسودّ الصوره
ويموع الحلم.. فأدخل في جلدي الديوان، ص94- 95.
(2)
ولم يكن للذات، في ضوء الواقع، إلا لتعبر أولاً عن الأحاسيس العميقة الصادقة بالضيق بالحصار الخارجي الذي نعرفه. لكن الديوان لم يكشف عن طبيعة هذا الخارج صراحةً إلا في النادر، ببساطة لأن الشاعر، كما ربما أي واحد، ليس بحاجة لتسميته بهذا الصراحة. كما أن عدم التسمية انطلاقاً من وجوده المعاش في كل جزيئة من حياة العراقي يحفظ بُعْده من أن يُستهلك، خارج الحالة الانفعالية الشعرية لكي تكون مؤثرة في القارئ، فيصل إلى التسليم بما كان أو كائن أو قد يكون، وهو ما يجتاحه ويجتاحنا متى ما خرج من دواخله أو من أحلامه وأوهامه إلى ذلك الواقع الخارجي. وهكذا نحن نحسه مع إحساس الشاعر وإنسانه، أقوى مما هو محسوس حقيقةً من العراقي الذي تلظى بقسوته، وكأن الشاعر في ذلك يمارس عملية تطهير، تؤدي في النتيجة إلى أن يكون للفرد موقف فاعل إزاءه:
فارتجّتْ أركان الجنة..
وارتجّتْ أوصالي
فإذا الماء يخاصرني
ويحاصرني
ويغطيني ثانيةً حشفٌ سدّ مسامي
وطغى الماءُ.. تجاوز أنفي
فتشبّثتُ بلا شيء
نشبتُ الأظفارَ بقلب الماء
كادت تتمزق حنجرتي
وطفوتُ..
طفوتُ رويداً لكنْ في الأحلام
وركبتُ على موج الأوهام الديوان، ص17.
ولذا فحتى الحصار الذي نعرفه، والذي صار كأنه عاشقٌ للعراقيين ليجثم عليهم أكثر من عقد من السنين، ولا يغادرهم إلاّ إلى ما هو أسوأ مما نعيشه الآن لم يعد حصاراً خارجياً، بل ترجّعت في دواخل العراقيين مآسيه. وهكذا هيمن على (أغاني) الشاعر الإحساس بالوحدة حقيقةً ومجازاً، والاغتراب وافتقاد أنس الإنسان، ليقترب عالم إنسانه من أن يكون قبراً، حتى حين يتشبث بأمل الخروج إلى العالم:
لكي أسمع لغط الباعة..
أصوات الناس..
دبيب حياة الشارع
فهو يُصدم حين:
يخنقني الليل
يُطبق فوق الروح؛
فليت الغرف.. القبر بلا جدرانْ الديوان، ص40.
ولأنه يبقى يسعى وربما يقاوم، على الأقل من خلال الحلم والأمل وخلق العوالم الداخلية الخاصة له إزاء الواقع المأساوي، تأتي عموم القصائد أصداء عالمين: الواقع المأساوي الذي نعيشه جميعاً الآن، وعالم دواخل الإنسان التي تحاول أن تصارع وتقاوم التنكيل والحزن والموت لتبقى بمنجىً عن ذلك. وفي كل الأحوال، وحتى حين تنجح الذات جزئياً في ذلك، وتحضر دواخل الإنسان فاعلةً متأملة وراغبة، فإنها سرعان ما تنسحب أمام الواقع الذي ما استطاعت قصيدة الجبوري مغادرته. وحين تبدو هذه المغادرة ممكنة أحياناً، فإنها تكون عادة في استحضار ما يفتقده الشاعر أو إنسان شعره بديلاً غير الحقيقي، الذي يتمثّل في الآخر والعلاقة به:
حين خضنا معاً بمياه الكلامْ
كان منفعلاً معي.
وشراكُ التوجس قائمةٌ
غير أن المحبة رائقةٌ.. والزمامْ
لم يكن فالتاً من يدينا
ولا تتم هذه العلاقة بالآخر إلا عبر الـ(كان)، بعد أن حضرت تقاطعات الحاضر في قسوته ووحشية إناسه:
قلتُ.. لا
لا تكن منبراً للغُلاة
لا تكنْ..
وتدفّق سيلٌ جعل الفُسحةَ
ما بيننا قنفذاً،
وترَ العزف ما بيننا شركاً شائكاً
قمرَ الحرف ما بيننا بالمحاقْ
ثم كان الفراق الديوان، ص 27- 28
(3)
وتعلّقاً بالماضي الفاعل بديلاً عن الحاضر، فإن من بين المشتركات ما بين عموم قصائد الديوان، تبرز ترجيعات الماضي الأزلية، فالصداقة، والمحبة، والطفولة، والذكريات، وصدى السنين كلها تتردد في فيها، ولكن من خلال افتقاد صاحب القصيدة أو صاحب الثيمة المفترض للسابق زماناً ومكاناً. والواقع أن الماضي مكوّن رئيس في أي إبداع لأنه يرتبط بالحب والحنان الارتباط الذي يثير الأشجان، وهو أقل في الشعر منه في الأجناس الأخرى، لكن الماضي مكون حقيقي في قصيدة الجبوري، من خلال كونه مفجراً لمكامن الأشياء. إن الذكرى وصدى السنين، على حد تعبير فيروز، يترجّع من بين قصائد الديوان، أو من بين أبيات القصيدة الواحدة، بل ربما من بين أحرف الكلمات. ومع تردد صدى الأيام والسنين والذكريات، تتردد الأحاسيس بين فرحة العثور على المفقود إنساناً حبيباً أو شيئاً عزيزاً الذي تترجع ذكراه، وحقيقة الظن والإحباط مما أن لا يكون هذا الذي قد يراه أو يلقاه حقيقة، بل وهم.
ولهذا كان لجوء الشاعر أو إنسان شعره إلى الأحلام وأحلام اليقظة دوماً ليخلق فيها لنفسه صفاء الوضع والأجواء، ومعها تأتي أيضاً لعبة الوهم والإيهام التي بها تتحقق نوع من السعادة التي قد تجلل بعض القصائد لنتوهم نحن مع وهمها، ففيها يتحقق، تخيّلاً بالطبع مع ما يريد الشاعر أو إنسانه أو نريد، خصوصاً في عودة المفقود مع واقع حضور ثيمة الفقد والمفقود دوماً، واستحضار مَن وما مضى. يعزّز هذا كله هيمنة الإحساس بالفقد على القصيدة، لينفرض ما مرّ من لحظات السعادة مع التطلع الطبيعي إلى عودة المفقود أو استعادته تخيلاً وحلماً وإيهاماً حين لا يتحقق واقعاً، أو افتقاد الصحاب بين فرحة العثور على من نبحث عنه والإحباط من أن لا يكون. إذ أنى للشاعر ولنا أن نتجنب صدمة الحقيقة القاسية التي تأبى، حين تأتي كما هو شأنها مع كل حلم وحلم يقظة، إلا أن تسرق حلمنا بالعودة إلى الواقع. ولكن ليس قبل أن تتسلل الرؤى المتفائلة: النور والربيع والإنسان المفتقد والرومانسية الجميلة والصور شبه التشكيلية. ولكن، مرة أخرى، أنى لهذا أن يدوم وهو حلم أو خيال؟فهو سرعان ما يفنى أو ينمحق، فتكون نهاية الخطى والطرق في القصائد عادةً صدمة كونها تقوم على الأحلام، حيث فيها فقط ما يتمناه الشاعر، أو الإنسان الذي تمثّله. وهي بظننا صدمة الواقع، سواء صرحت القصيدة بذلك أم لم تُصرّح به.
وفي ظل تهيُّؤ أن يحلم أو يتخيل من جهة ما يريد، وماذا للإنسان الفاقد أن يريد أو يتمنى غير السعادة بعودة المفقود واستعادة المكان والزمان؟ يكون التشبّث العبثي، ولكن المقرون بالتفاؤل والأمل:
وأمسكت معصمه بيدي
تلفَّتُ:
-أنت منْ؟ وماذا تريد؟
قلتُ:
-عذراً ظننتُك يا سيدي والدي!!
-أبوك أنا؟ وأنت بعمري؟
يا لهذا الجنون
وخلّص معصمه غاضباً من يدي
وغادرني..
مسرعاً..
في الزحام الديوان، ص36.
فرض الواقع الكالح على الشاعر ثنائية السعادة والمأساة، أو الفرح والحزن، أو الأبيض والأسود. فإذ تحضر المأساة والحزن والأسود على أرض الواقع ، تحضر السعادة والفرح والأبيض، لتكون هي البديل، في محاولة لإقصاء الحسرة التي يعيشها الشاعر كما يعيشها العراقي. وحتى حين نكون متأكدين بأن هذا الذي نراه أو نجده ليس حقيقياً، فإننا نستمرئ اللعبة اللذيذة في خداع أنفسنا، وهل من شيء أحلى من الأحلام والتخيلات حين تأتي كما نريدها؟، فهي على الأقل تعيّشنا حلمياً بالذي نريده أو نتمناه.
وتعلقاً بالواقع الذي تنطلق منه قصيدة سلمان الجبوري، فإنه واقع كالح وربما أسود وحزين ومخيف، بل مرعب، فحيث يجب أن يكون الضوء يكون الظلام، وحيث يجب أن يكون الفرح يكون الحزن، وحيث يجب أن يكون عالم الربيع والحب والإنسان، تحضر الكآبة والكراهية والوحوش، كما تتمثل ذلك قصيدة “الشاحنة” التي قد تكون واحدة من أكثر قصائد الديوان تلخيصاً له ولقصته، إذا جاز التعبير:
كانت الحدائق رائعةٌ
والورود تطير روائحها؛
تملأ الأرضَ.

كل شيء يمور حياةً وشاحنةٌ عسكريه
تضمّ ثلاثين تقمعهُم ثلّةٌ من وحوش
تدور بهم.. فالشوارع واجمةٌ الديوان، ص43
ومرة أخرى، وكما كان الواقع وراء هروب الشاعر أو إنسان شعره إلى الأحلام وأحلام اليقظة، يكون هنا وراء هروبهما إلى الماضي، في قصائد تحاول أن تُحدث في جدار الظلمة- حيث الموت والوحشة والخوف- كوة.
التعبير عن أي من ذلك يتمّ عبر الذاتية الجميلة وخصوصياتها عند الشاعر، والتي تنهال علينا من أعماق النفس الإنسانية- نفس الشاعر أو الإنسان العراقي تحديداً أو الإنسان المطلق- بالتعبيرالطاغي مع الخارج أحياناً، والمتردد في التعبير إزاء سلطة الخارج القاسية أحيانا أخرى. وبين طيات ذلك أو عبره تسلل الغنائية لا إلى قصائد الهيمنة ذاتية، بل حتى إلى قصائد أخرى، ولكن دون أن تجلب معها، هذه المرة، ذاتيتها إلا لكي تصبها في العلاقة بالآخر في توهج النفس الإنساني.
(4)
وتلاؤماً مع موضوعات القصائد وأطرها الزمانية بشكل خاص، تأتي إيقاعيتها وكأنها تدفق للأحاسيس، وترجمةً لترجيعات المشاعر، خصوصاً حين تتعامل مع المثير من الموضوعات الخاصة. وهنا، وتعلّقاً بهذا وربما بأشياء أخرى، نجد بعضها يذكرنا بقصائد يوسف الصائغ التي تمتلك خصوصيات الإيقاع، والموضوعات، والارتباط بالماضي والذكريات، مع توظيف ذلك كله في خطاب شعري معين. ولعل واحدة مما نراها يمثّل ذلك تماماً عند الصائغ قصيدته الشهيرة “المعلّم” التي نحس وكأن أصداءها تتجاوب معنا في تخيلنا نقف إلى جانب (سبورة) سلمان الجبوري في قصيدته “إشراقات”:
يقرأ عبد الهادي بعد سنين أولى الأشعارْ
يبكي فرحاً..
يحضنني.. ويصححُ لي..
وأبي يجهش فرحاً.. واليوم
إذ يتفرط عنقود الستين
أذكر عبد الهادي.. وأبي
والسبورةَ والطبشورْ
فيسابقني دمعي مثل وميض البلورْ الديوان، ص11- 13.
ـــــــــــــ
1) سلمان الجبوري: الغابة العذراء، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 2007.
2) القاموس المحيط للفيروز آبادي، مادتي (صخب) و(هدأ).

عن fatimahassann23

شاهد أيضاً

دراسة عن دروب وحشية

تشكلات البناء السردي في رواية دروب وحشية للناقد نجم عبد الله كاظم أنفال_كاظم جريدة اوروك …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *