الخمسينيون الستينيون
وخصام أجيال
د. نجم عبدالله كاظم
لعلّ أكثر الأجيال الأدبية العربية التي ادّعى أصحابها بأنهم الرواد والمعطاؤون وأصحاب النتاجات الحية والحقيقية هو (جيل الستينيات)، كما هو حالهم في مصر والعراق وإلى حد ما في الشام، خصوصاً في مجال مقارنة أنفسهم بجيل الخمسينيات. ومع ما يدعيه الخمسينيون بالمقابل من أحقية في الريادة والتأسيس والعطاء الفني والأدبي، فإن هذه الدعاوى الخمسينية، إضافة إلى محدوديتها بفعل قلة حضور أعلامها، لموت الكثير منهم، وإلى حيائها النابع من حياء أصحابها، غالباً ما تأتي أصلاً بشكل (مقال) استجابةً لمتطلبات (مقام). أو هي قد تأتي ردا على ادعائات ستينية متجنية، خصوصا ونحن نعرف كم هو كثير كلام الستينيين سواء على مستوى التصريحات والمناقشات الشخصية وضمن المؤتمرات والملتقيات الثقافية، أو على مستوى الكتابة الصحفية، ونحن نعرف كم هم يمتلكون من منابر رسمية أو غير رسمية تتيح لهم فعل ذلك.
واذْ لا نريد هنا أن نناقش منجز أيٍّ من الجيلين ودوره، فإننا نحاول أن نستخلص ما يشبه كشف حساب عام وتصفح أوراق كل منهما، سواء أكان ذلك على مستوى الأقطار الأكثر والأثرى إنتاجاً أدبياً، مصر والشام والعراق، أم على مستوى الأدب العراقي حصراً بوصفه المثال الأكثر وضوحاً لما نتكلم عنه، وصولاً إلى مواجهة صريحة مع واقع ما في هذه الأوراق، متجنبين التفاصيل التي لا تناسب مثل هذه المقالة، والادعاء بأننا نقوّم ذلك كله هنا تقويما نقديا شاملا.
فلنتامل أولا ما وجده كل من الجيلين من أدب الأدباء الذين سبقوهم، وكيف تعاملوا معه وما الذي فعلوه إزاءه؟ ببساطة وجد الخمسينيون، وبتعبير أدق أدباء ما بعد الحرب العالمية الثانية قبلهم آداباً شعرية وقصصية حققت شيئاً كان له شأن قد يكبر في هذا القطر وقد يصغر في ذاك، وقد يكبر في ميدان الشعر ويصغر في ميدان القصة، أوالعكس، لكنه في كل الأحوال قد حقق شيئاً: ترسيخاً لقيم وسمات فنية قديمة، كما هو شأن الشعر، أو ريادة تاريخية، كما هو شأن القصة، أو التفاتاً للمجتمع وللعلاقة بالقارئ واستجابةً لهذا وذاك، كما هو شأن معظم تلك الأشكال الأدبية. أهم ما يتعلق بهذا أن الخمسينيين قد وجدوا هذه النتاجات الأدبية عموماً، وهذه حقيقة نعرفها كما عرفها الخمسينيون، قاصرةً عن الاستجابة لمتطلبات العصر، أو لنقل المرحلة كما، عُرفت بعد الحرب العالمية الثانية بشكل خاص. كما ان بعض تلك النتاجات لم تكن فنياً بمستوى وعي الجيل الخمسيني وجيل تلك المرحلة عموماً. ومن هنا لم يكن لأدباء من أمثال السياب نازك الملائكة والبياتي وطاع صفدي وعبد الملك نوري ويوسف إدريس وفؤاد التكرلي وصلاح عبد الصبور وغيرهم ان يكونوا ضمن نهر الرصافي والزهاوي وشوقي وفؤاد الشايب وذي النون أيوب ومحمد تيمور ومحمود تيمور ومحمود أحمد السيد وعبد الحق فاضل. ولكنهم، وهذا مهم هنا، لم يكونوا لينكروا دور هؤلاء السابقين، فكان بحثهم الدائم عما يطور ذلك الأدب في أفضل نماذجه، وما يحقق لهم الغاية التي كان الهمّ الفني الذي تلبسهم يستهدفها، فكان كشفهم لمنجزات أحدث المدارس، وتجريبهم لأحدث الأساليب التقنية، خصوصاً تلك المتعلقة بتيار الوعي، ومغادرتهم للتوجهات الإصلاحية الإجتماعية في الفن. وهكذا كان عدم التسليم بالموجود، مع عدم إنكار دوره، والإتيان بالبديل، فقدموا عطاءاتهم التي لا يمكن لمنصف أن ينكر دوره، المرحلي في الأقل، في مجال التجديد الشعري وفي تقديم القصص الفنية الأولى.. وفي غير ذلك.
أما الستينيون فقد وجدوا أمامهم تراثاً من النتاج الأدبي قدمته بضعة عقود ماضية من الزمن متوَّجة بجيل الخمسينيات ممثَّلاً في أفضل نماذجه مما كون بناءً كبيراً لم يكن منتظراً من أحد إنكاره أو التقليل من شأنه، وهو ما حاول الكثير من الستينيين أن يفعلوه. يبدو أن الستينيين لم يجدوا بين ما يمتلكونه آنياً من أدوات ما يمكنهم من انجاز ما يضيفونه إلى هذا البناء سبقهم إليه الجيل السابق، فكان أن رفضوا الموجود شكل شبه مطلق من خلال الالتفاف حوله أو الدوران مئة وثمانين درجة بهدف شق طريق آخر يثبتون ذواتهم من خلاله، تاركين في ذلك وجود الموجود تماماً، بل مدعين أحيانا، وخصوصاً في بعض الأقطار مثل العراق، وضمن أجناس أدبية بعينها مثل القصة، أن ليس هناك من شيء يمكن الالتفات إليه، وأن ما قبلهم لا قيمة له، بينما واقع المتحقق فعلياً كان يقول إن جل هؤلاء قد وجدوا أنفسهم عاجزين عن تجاوز هذا المتحقق. ونحن نعرف أنْ تعترف بما موجود وتقرّ بقيمته مع محاولة تجاوزه أو الإضافة عليه غير أن تنكر وجوده، ولذا فهم سرعان ما وجد الستينيون أنفسهم في ما يشبه المتاهات التي لم تقدهم إلا الى متاهات أخرى. فكان أنْ أغرقونا بكمّ هائل من النتاجات التجريدية والتجريبية التي لم تفرز ما له قيمة حقيقية يكتب له البقاء إلا أعمالاً محدودة لا يزال بعضهم يتكئ عليها، بينما كان كل ما هو غيره عبارة عن تجريبات ولعب باللغة وتنويعات تقنية وأسلوبية غير موضوعية.
اذن فالخمسينيون قد وجدوا أساسا، لم ينكروا ما فيه، مع عدم رضاهم عنه، فسعوا إلى البناء عليه وتطويره بما عرفوه من أساليب جديدة، بينما توزع فعل الستينيين إزاء ما وجدوه من بناء بين هدمه وإهماله، وتكلّف بناء (جديد). ربما هذا واحد من نقاط الاختلاف بين الجيلين ومن مسببات الخصومة بينهما. والآن إذا كان من أولى بديهيات المناظرة أو النقاش والجدل أو حتى إدارة الخصومة، أن يكون الخصمان حاضرين، فإننا في الوقت الذي يفترش فيه الستينيون الساحة منذ ما يقارب العقدين، لا نكاد نجد إلا القليل جدا من الخمسينيين، إما بسبب البعد الزمني ووفاة الكثير منهم، أو بسبب اعتزال أو اعتكاف آخرين بسبب التغيرات الاجتماعية والسياسية والفكرية التي شهدها الوطن العربي، وعراق السنوات الاخيرة، مما اثر في استمراريتهم وتواصلهم. وهكذا تهيأ للستينيين الذين بقي وجودهم- البشري على الأقل – حاضراً وفاعلاً أن يدّعوا الريادة والتأسيس والتفرد الفني، من خلال المقارنة غير الموضوعية بين ما فعلوه وما فعله الجيل السابق، معلّين من شأن الذات ومنجزاته ومهمّشين دور الآخر ومنجزه، دون أن يتاح لأولئك الآخرين أن يُسمِعونا صوتهم إلا في النادر. وقد عزز من شأن هذه الظاهرة غير الموضوعية أن جيلاً كاملاً من الدارسين وأساتذة الأدب الناشطين ينتمون عمرياً إلى جيل الستينيات، وبالتالي لم يكن غريبا تحمّسهم اليه، تدعمهم في ذلك سيطرتهم، وظائفَ وهيمنةً وعلاقاتٍ، على معظم وسائل الإعلام ومؤسسات الثقافة والنشر لسنوات طوال. وهذا كله أغلق هذه الوسائل والمؤسسات تقريباً أمام الآخرين، وصادر كل ما هو مختلف مع رؤاهم. ولعل ما يحدث في بعض المجلات والصفحات الثقافية خير ما يجسد ذلك.
ونعود لنقول أخيراً إننا إذ نعرض وجهة نظرنا هذه بانحياز، لا ننكره، لجيل الخمسينيات، لا يمكن لنا أن ننكر أو نصادر دور الستينيين في رفد الأدب العربي عموماً، وفي بعض الأقطار بشكل خاص، ببعض ما يقف إلى جانب المتميز، إضافة الى ما أدى إليه انفتاح أدباء هذا الجيل الواعي أحياناً، على كل ما هو جديد، والحماس لكل ما يخالف السائد والموروث، من تعريف القراء المثقفون بالمدارس والاتجاهات الفنية والنقدية الجديدة مما أبقى، إلى جانب نتاجاتهم الإبداعية نفسها، لهم دورهم في حركة الثقافة والأدب.
جريدة (الرأي)- عمّان، 1994
شاهد أيضاً
دراسة عن دروب وحشية
تشكلات البناء السردي في رواية دروب وحشية للناقد نجم عبد الله كاظم أنفال_كاظم جريدة اوروك …