الأدب الاردني
والموقف النقدي بين النظرية والتطبيق
د. نجم عبد الله كاظم
عدد ليس بالقليل من الاعمال الابداعية العربية تبقى بمنأى عن التناول النقدي التطبيقي، لتبدو بالتالي عاجزة عن لفت انظار من يتناولها بالنقد والتحليل والتقويم والاستنطاق الذي تفرضه سلطة القارئ على الخطاب الابداعي، لاسباب هي كثيرا ما لا تتعلق بهذه الاعمال نفسها، او بالاجناس الادبية التي تنتمي اليها، بل بالتقد والنقاد والدارسين، ونحن نعد انفسنا منهم وعليه لا نبرئ انفسنا مما نشخصه هنا ما قد تكون مآخذن وهذا الطرف الاخير نفسه – نعني النقد والنقاد والدارسين – هو موضوع مقالنا هذا، وبحدود تعلقه تعلقه بالابداع الادبي الاردني في ظل ظروف دفعت بالاف الكفاءات والامكانات البشرية العراقية، وبمختلف ميادينها العلمية والانسانية، الى التوجه الى الاردن لتعبر عن انفسها وتطبق تنظيراتها وتمارس امكاناتها وتصب تراكمات تجاربها ومعارفها المحاصرة ظلما، فضمن هذه الكفاءات والامكانات نزحت الاقلام لتصب مرادها في صفحات الصحف والمجلات المطابع الاردنية، وتشترك، الى جانب الاقلام الوطنية والعربية الاخرى وخاصة الفلسطينية، مع الاقلام الوطنية (المحلية) في تحريك الحركة الثقافية بشكل خاص، الى اقصى درجات الاستفادة من هذا الواقع المتمثل بهذه الاقلام المعطاء يكون لزاما عليها، برأينها، تصيد السبل والادوات الاكثر افادة لها، وفي ما يخص الميدان النقدي الذي تدور كتابتنا فيه نعتقد ان الخيار ينحصر هنا بشكل خاص بين النظرية والتنظير الادبي اولا والدراسات والنقد التطبيقي ثانيا. وبدءا نجد من الملائم جدا الاستفادة من تجارب الاخرين في حسم هذا الخيار، وبالتحديد التجربة العراقية القريبة من التجربة الادبية والنقدية العراقية من اوجه عدة، مع تجنب ان يكون اختيار أي الجانبين الغاء للجانب الاخر، اذ الجانبان يبقيان مكملين لبعضهما البعض، ولكن هناك دوما المهم والاهم، فكما كانت الحاجة في العراق، ولا تزال هي الى الجانب التطبيقي اكثر منها الى النظرية والتنظير، مع الاستغناء عن هذا الجانب الثاني حين مالت اقلام كثيرة الى هذا الجانب الثاني دونما فائدة حقيقية تقدمها في ذلك للحركة الابداعية العراقية، فان الامر ليبدو قد اخذ بنحو في المدة الاخيرة هذا المنحى في الاردن ايضا. فبداية نقول في هذا الشأن وازاء المراحل التأسيسية التي تمر فيها لان الكثير من الفنون الادبية في الاردن كالقصة والرواية والمسرحية، وبالتحديد الشعر بمستطيع الاستغناء، وقتيا على الاقل وبحدود معقولة، عن التناول النقدي التطبيقي، كون العرب عموما، وبضمنهم الاردنيون، يمتلكون تراثا ضخما منه يتوزع على عمر طويل ترسخت خلاله تقاليد وقيم ونظريات مست وتعمقت كل جانب منه، فان معظم الاجناس الاخرى، خاصة القصصية والروائية، يختلف الامر معها كونها، كما اشرنا، لم نزل في ما يشبه مراحل التبور والتأسيس ولم تكون لها بعد تقاليدها وهويتها، وعليه فهي بذلك تحتاج الى النقد الذي يستنطقها ويقوم تجاربها وربما ياخذ بايدي بعض ممارسي الكتابة فيها ويتلمس واياهم طريقها لتهتدي الى هذه الهوية والتقاليد.
واذ تبرز مثل هذه الحاج الى النقد، والنقد التطبيقي بالذات، اخذت تميل بعض الصفحات الثقافية احيانا وفي السنوات الاخيرة نحو ما يبدو ان مسؤوليها يرون فيه تميزا وربما تحديثا من اغراق في عرض النظريات مع تطبيقها على نصوص محلية، معززين ذلك بتنظيرات تبدو غريبة على هذه النصوص وغير متلائمة معها مستوى وطبيعة، وبالتالي يأتي ذلك كله عقيما في سعيه لدخول الفنون الادبية المحلية ضمن مراحلها الحالية وعطاءاتها النصية او الخطابية المتحققة عمليا، مع ان مثل هذه الجهود قد تقدم جزئيا بعض ما يغني بالطبع، الا انها غالبا تصبح عبئا على الابداع، اذ هي تغتال جل ما كان للنقاد ان يقدموه لهذا الابداع حين ينشغلون في عزوفهم هذا عن النصوص بالتنظير النقدي الذي يتمخض عن نصوص قائمة بذاتها لا تغني النظريات والمفاهيم النظرية غالبا الا بشكل محدود، لان كتابها يكونون غالبا قاصرين عن الوصول الى مستوى اصحاب هذه النظريات والمفاهيم، اذ ان بيئاتهم الثقافية هي افقر ولنقل اقل غنى من بيئاتها الغربية الاهلية، وهي في كل الاحوال لا تقدم لحركة الثقافة والابداع المحلية الا القليل مما هي بحاة عملية اليه في هذه المرحلة. ونحن حين نقول ذلك لا نعني رفض مثل هكذا نصوص نقدية منفصلة تقريبا عن الابداع الذي يفترض ان هذه النصوص النقدية تكتب عنه او في ضوئه او بالانطلاق منه، بل انه لامر ايجابي، خاصة حين تسهم في اغناء ميدان نقد النقد، ولكن ما يقلل من قيمتها مرحليا انها لات سهم – كما قلنا – في اغناء هذا الابداع الا بشكل محدود، مما لا يتلاءم وحاجاته. من هنا كان من حسن حظ هذا الابادع ان الصفحات الثقافية لم تسلم لحد الآن تسليما واسعا لهذا الاتجاه بعد، بل لا يزال الميل الى النقد التطبيقي هو الاكثر حظا. ومن هنا كانت مقالتنا هذه محاولة لتأشير الظاهرة السلبية قبل سيادتها.
ولنكون موضوعيين يجب ان نقول ان دراسات تطبيقية غير قليلة اذ لا تغرق سلبيا في النظرية والتنظير، قد تبالغ في ذلك لتقترب من ان تكون شروحا وعروضا اكثر منها نقدا، فاذا كان التناول النقد التطبيقي نموذجيا في كتابات محمود الريماوي، والى حد ما افنان القاسم ونزيه ابو نضال مثلا، فان تناولات اخرى قد كانت شروحا وعروضا اكثر منها نقدا، كما تمثل ذلك على سبيل المثال في كتابات عزمي خميس ونبيل حداد. بكلمة اخرى نقول اننا اذا كنا نجد، انطلاقا من طبيعة المرحلة التي يمر في ادب الاردني في تأسيساته وانفتاحه على اجناس وماهب وتيارات وتجريبات جديدة نسبيا، ان الحاجة هنا هي الى التناولالنقدي النصياكثر منها الى النظريات والتنظير، فان ذلك لا يعني دعوة الى الانكفاء عن النظرية والاكتفاء بشرح النص وتفسيره والقول بانه جيد، رديء مثلا، بل ان يتلاقح التطبيق والنظرية مع تجنب ما رحنا نتلميس بدء زحفه على حركة النقد من مبالغة في استيراد النظريات وتطبيق ما قد لا يكون النص المحلي ملائما له.
ويبدو ان السبب الرئيسي وراء مثل هذا الزحف، او الميل غير الموضوعي، او لنقل هذه الظاهرة التي لما تزل في اول سعيها للهيمنة، هو انجرار بعض النقاد الى الموجات والتيارات و (الصراعات) الغريبة باستسلامية لا بانتقائية، وبمعزل عن النصوص المحلية التي يتناولونها لا انطلاقا منها ومن طبيعتها ومستوياتها الفنية، غافلين عن حقيقة انها انعكاس او ردود افعال او معالجات لواقع ابداعي او ثقافي وفكري قد لا يكون له ما يماثله محليا، فتبدو بذلك، وهي تنقل الى الواقع الادبي المحلي بهذه الالية، عائمة لا ارضية تتلقاها، فتفقد الفائدة التي يمكن ان تقدمها للثقافة والابداع المحليين، اذن فالنقد الذي يحتاجه الابداع الاردني، وربما الابداع في معظم الاقطار العربية، وخاصة القصصي والروائي منه وفي هذه المرحلة من تطوره تحديدا، هو النقد الذي يضع اللبنات مع المبدعين ويصحح البناء ويرمم الانكسار ويتلمس الطرق الانسب لاشكال الابداع المختلفة، كنقد جبرا ابراهيم جبرا والدتكور علي جواد الطاهر والدكتور ابراهيم خليل وافنان القاسم ومحمود الريماوي وجل النقد الاكاديمي الواعي والموجه، والمغتني بشكل واع ومعقول بالنظرية، بينما يسقط الكثير من النقد الذي ينفصل في تنظيراته المجردة عن النصوص، وذلك الذي يميل بالمقابل الى ان يكون شروحا او عروضا مجردة.
مرة اخرى هل يعني هذا رفضا للنظرية؟ وهل ان تترك النظرية والتنظير؟ نقول: لا بكل تأكيد، فالنظرية مهمة ومهمة جدا للناقد بشكل خاص، ولكن عبر التعريف بها وتطبق بعض طروحاتها ليش بشكل الي ومفتعل، بل بشكل عملي وبحدود ما يتناسب منها مع طبيعة النص المحلي وما يسهم في استنطاقه والكشف عن مستوياته التي قد لا تتمكن من كشفها بدون هذه النظريات وما تطرحه من مفاهيم واساليب ومناهج، فالنظرية تكتسب اهميتها في ضوء ما تقدمه للابداع وفي ضوء ما يمكن تطبيقه منها عليه، والا فما فائدتها اذا لم يكن فيها ما يدعم هذا الابداع من جهة ويسهم في فهم واستيعاب مستوياته من جهة ثانية؟ ومع هذا نكون متجنين على الثقافة والفكر، بل وحتى الابداع، اذا رضينا ان نكون بمعزل عن النظريات والتيارات والمفاهيم والمناهج النقدية الحديثة والجديدة، وقاصرين عن الاطلاع عليها وفهم طروحاتها، ومنهنا مثلا كان دخول البعض الى ميدان النظرية صائبا الى حد بعيد، ولنا في النقاد هشام غصيب وافنان القاسم ومحمود الريماوي وغيرهم قلائم امثلة على ذلك. بكلمة اخرى اذ تكون من الضروري متابعة اخر النظريات والتيارات والمذاهب والمناهج الادبية والفنية والنقدية في العالم، يجب ان يبقى همنا مرحليا لا هذه النظريات لذاتها بل التناول التطبيقي لها يتحقق فعليا في واقع الابداع المحلي مع الاستفادة الى اقصى الحدود المتلائمة مع طبيعة هذا الابداع من تلك النظريات وبما يفيد الجانب التطبيقي لا بما يكون على حسابه، وهنا ما لا يتجسد احيانا يمكن ان نشخصه على انه قصور، ولكنه قصور يمكن تجاوزه ويجب تجاوزه.
شاهد أيضاً
دراسة عن دروب وحشية
تشكلات البناء السردي في رواية دروب وحشية للناقد نجم عبد الله كاظم أنفال_كاظم جريدة اوروك …