العلاقات الأدبية، والتأثير والتأثر
في الدراسات الأدبية المقارنة
أ د. نجم عبدالله كاظم
أستاذ الأدب المقارن والحديث
كلية الآداب – جامعة بغداد
(1)
يقول الناقد هاري ليفن: “يمكن مقارنة دارس الأدب الذي لا يقوم بالمقارنة بعازف كمان يأنف عن استعمال القوس، وهو لذلك يقصر أداءه على سلسلة من النقرات على الأوتار”([1]). هذا يعني أن الأدب المقارن الذي يقوم على المقارنة إذا لم يكن منهجاً نقدياً فهو يرفد لنقد بواحدة من أدوات العملية النقدية أو وسائلها، خاصة حين يبغي النقد في تعامله مع العمل الإبداعي سبر أغوار النص والكشف عن عملية الخلق النصي وتحقيق أفضل تلقٍّ لما ينطوي عليه موضوعاً وفناً. والحقيقة نحن لسنا بحاجة ماسة هنا إلى إثبات أهمية الأدب المقارن وضرورة المقارنة، خاصة وقد مضى ما يقارب القرنين على معرفة هذا الفرع الأدبي أو المعرفي “حين أخذ فيلمان منذ عام 1827 يستعمله في محاضراته الرائعة في السوربون”([2])، وقد سماه مجازاً “السرقات الأبدية التي تتبادلها كل الدول”([3])، بينما نبه أمبير إلى الأهمية التاريخية لدراسته إذ قال في محاضراته في السوربون أيضاً، والتي أطلق عليها (تاريخ الآداب المقارنة): “سنقوم… بتلك الدراسات المقارنة التي بدونها لا يكمل تاريخ الأدب”([4]).
وتعلقاً بواحد من موضوعات كتابنا، ونعني (التأثير والتأثر)، نجد من خلال بعض تعريفات (الأدب المقارن) أنه عند المقارنين يكاد يقوم على العملية التأثرية، أياً كانت مرجعيات هؤلاء المقارنين، فلا بأس هنا من التعرض لبعض هذه التعريفات التي تعكس بالطبع مفاهيم أصحابها ومرجعياتهم عن هذا العلم أو الفرع المعرفي. ففان تيغيم يرى الأدب المقارن “دراسة آثار الآداب المختلفة من ناحية علاقاتها بعضها ببعض”([5]). ويقول غويار: “علم الأدب المقارن هو عبارة عن تاريخ العلاقات الأدبية العالمية. وينتعش الأدب المقارن عند الحدود القومية، فيقتفي أثر عمليات تبادل المواضيع والأفكار والكتب أو الأحاسيس بين أدبين أو عدد من الآداب”([6]). وإذ لا يكاد يختلف غويار مع تيغيم في نظرته إلى الأدب المقارن باستثناء أنه ربما كان أكثر توضيحاً، فإن جوزيف شبلي يعرفه تعريفاً عاماً يبتعد بعض الشيء عن تحديد هذا العلم بحدود دقيقة، إذ يقول: هو “دراسة العلاقات المتبادلة ما بين آداب شعوب مختلفة”([7])، بينما بينما يأتي تعريف بيشوا وروسو له أكثر شمولية، وإن لم يخرجا به عن جوهر ما عناه تيغيم وغويار، إذ يقولان: “الأدب المقارن هو فن تقريب الأدب من ميادين التعبير والمعرفة الأخرى بطريقة منهجية، عن طريق البحث عن روابط التشابه والقرابة والتأثير، أو تقريب الوقائع والنصوص الأدبية فيما بينها، متباعدة أو لا في الزمان والمكان، بشرط أن تنتمي إلى عدة لغات أو عدة ثقافات، وأنْ تؤلف جزءاً من تقاليد واحدة، وذلك من أجل وصفها وتذوقها بطريقة أفضل”([8]).
وإذ يوسّع الأمريكي ريماك، في فهمه للأدب المقارن، دائرة هذا الأدب لتشمل مجالات معرفية مختلفة، فإن تعريفه يخلو من الإشارة إلى الصلات والتأثيرات، فيرى أنه “دراسة الأدب بحيث تتعدى حدود القطر الواحد، ودراسة العلاقات القائمة بين الأدب من ناحية، وبين مجالي المعرفة والمعتقدات الأخرى كالفنون، والفلسفة، والتاريخ، والعلوم الاجتماعية، والعلوم البحتة، والأديان، إلخ، من الناحية الأخرى”([9]).أما أبو الأدب المقارن العربي محمد غنيمي هلال فيقول عنه: “إنه يدرس مواطن التلاقي بين الآداب في لغاتها المختلفة، وصلاتها المعقدة، في حاضرها أو ماضيها، وما لهذه الصلات التاريخية من تأثير أو تأثر، أياً كانت مظاهر ذلك التأثير أو التأثر”([10]).
ويقف وراء ما قد نراه من اختلاف بين نظرتين رئيستين إلى الأدب المقارن، تتمثّلان في التعريفات السابقة، الانقسام الذي شهده تاريخ هذا الأدب بين نظرة أعلام ما صارت تُُعرَف من خمسينات القرن الماضي بالمدرسة الأمريكية للأدب المقارن بروادها ريماك وويلك وآخرين، والنظرة السابقة عليها، في أوربا وخاصة فرنسا، والتي صارت تُعرف بالمدرسة الفرنسية وأهم أعلامها فان تيغيم بالطبع، وغويار وآخرون. فجوهر ما فرض هذا الانقسام في الفهم والنظرة إلى الأدب المقارن هو تاريخية المدرسة الفرنسية ونقدية المدرسة الأمريكية، فقد ربط الفرنسيون الدراسة المقارنة وفقاً لهذا بتواريخ الآداب وبالصلات التاريخية والأدبية بين الآداب المدروسة مشدّدين في ذلك على شرط وقوع هذه الصلات فيما بين هذه الآداب أولاً، وأن تكون لغات هذه الآداب مختلفة ثانياً، ووقوع التأثير والتأثر فيما بينها ثالثاً. أما الأمريكيون فقد رأوا الدراسة المقارنة تعنى بإجراء مقارنات ما بين آداب غير مشروط اختلاف لغاتها وبمعزل عن وقوع الصلات والتأثير والتأثر. ففي سياق التفريق بين هاتين المدرستين يقول عبد المطلب صالح: “فمما لا شك فيه أن الأدب المقارن شهد نزاعات بين المدرسة الفرنسية، والمدرسة الأمريكية التي تتمسك بميدان الأدب العام، من دون أن تحفل بالدراسات التاريخية التي تسبق فحصنا للنصوص الأدبية حين تلتقي تيارات أدبية، متمثِّلة إياها، ومانحة إياها ألوان الطابع المحلي في لغات أخرى على النحو الذي تعرفه المدرسة الفرنسية. أما المدرسة الأمريكية فتهتم بالأدب المقارن من حيث أنه موازنات بين حركات فنية أدبية تقابَل فيها المشابهات والاختلافات غير عابئة بأهمية الدراسات التاريخية التي أثبتها البحث وصارت أساساً لتقييم الإبداع الذي يسم العمل الأدبي والفني”([11]). تعلقاً بهذا وبدون الدخول في تفاصيل هذه الاختلافات بين المدرستين أو عموم مدارس الأدب المقارن، وما يقف وراءها من أسباب ومبررات وما تقدمه من أطروحات، نظن أن نظرة عامة إلى التعريفات والمفاهيم، ومنها السابقة، من جهة، وإلى غالبية الدراسات التطبيقية المقارنة على رفوف المكتبات وفي ثنايا الدوريات، تكشف لنا أهمية الصلات، والتأثيرات والتأثّرات في الدراسات المقارنة. وتعلّقاً بهذا نرى من الخطأ فهم أن المدرسة الأمريكية ترفض أو تستبعد الصلات، والتأثير والتأثر من اهتمامها ودراساتها التطبيقية، بل هي لا تشترط ذلك، وبين هذا وذاك فرق.
(2)
إذن تبقى الصلات التاريخية بمختلف أنواعها مهمة في الدراسات المقارنة، فهي إذ تكون شرطاً في المدرسة الفرنسية، بل هي، انطلاقاً من رؤية هذه المدرسة وفلسفتها ومنهجيتها، تتقدم على كل خطوات الدراسة التطبيقية لدى الدارس المقارن، فإنها في ضوء نصية المدرسة الأمريكية ونقديتها، لا تنتفي أو لا يكون إلغاؤها بالطبع شرطاً للدراسة المقارنة في هذه المدرسة. وعليه، ولما كانت غالبية الدراسات المقارنة العربية تحديداً تستلهم وتهتدي بالمدرسة الفرنسية، بينما لا تسفّه الدراسات الأخرى ولا أصحابها مقومات تلك المدرسة، فإن أهمية الصلات التاريخية ما بين الآداب القومية تبقى مهمة في الأدب والدراسة الأدبية عموماً. وما دامت الصلات بهذه الأهمية، ولأنها لا يمكن إلا أن تنتج تشابهات ما بين الآداب نتيجة حتمية التأثير والتأثر اللذين يقعان بينها أياً كانت مستوياتهما ودرجاتهما وأنواعهما، فقد برزت بالضرورة أهمية هذه التشابهات والتأثيرات والتأثرات، وتبعاً لذلك أهمية رصدها، وبما يعني أن النص، الذي تهتم به المدرسة الأمريكية، يبقى لدى المدرسة الفرنسية أيضاً هو المهم، كما يتمثل ذلك في اهتمامها بواقعة التأثير والتأثر. “فإثبات الصلة التاريخية ليس أمراً مقصوداً لذاته، فهذا من شأن مؤرخ الأدب، بل هو نقطة انطلاق نحو النصوص الأدبية لفرز ما داخلها من عناصر أجنبية عن لغاتها، وصولاً إلى تمييز الأصالة الفنية التي هي ألصق بالشكل منها بالمحتوى”([12]). وهكذا نفهم مبرر قول محمد غنيمي هلال، خاصة إذا تساءلنا عن كيفية رصد التأثير والتأثر قبلاً:
“وأول ما يلفت نظر الباحث ويدفعه إلى استطلاع معالم الصلات الأدبية هو التشابه في النصوص لكاتبين أو لعدد من الكتاب في آداب مختلفة، تشابهاً يحمل على الظن بأن هناك صلات تاريخية بين هؤلاء الكتاب. ومن هنا يجب الكشف عن تلك الصلات وتحديدها، ويبحث أولاً في تاريخ تأليف نصين لمعرفة إمكانية التبادل الزمني بين المجالين، وقد يغني عن كل ذلك نص واضح من المؤلف، يعترف فيه أنه حاكى أو تأثر أو أُعجب بأفكار الكاتب الأجنبي. ويكون هذا الاعتراف مفتاح البحث المثمر الأكيد. وإذا لم يكن هناك نص صريح نستدل به على التأثر الأدبي، وجب التثبّت من معرفة قرائن أخرى لإثبات الصلات التاريخية بين الأدباء، فقد يكون التشابه بين النصين خادعاً [كما سنأتي إلى شيء من هذا بعد قليل] فيُظن أنه وليد التأثر الأدبي، وما هو في الواقع إلا نتيجة لملابسات متشابهة أوحت بنفس المعاني للكاتبين بدون قيام صلة أدبية بينهما، أو وليد حركة فكرية أو اجتماعية عامة… بل قد يكون التشابه الأدبي نتيجة مصادفة، أو من المواضع المشتركة بين القرائح الإنسانية. وقد يكون من المهم تمييز الأسباب المختلفة التي أدت إلى التشابه بين الكتّاب في الآداب المختلفة، غير أن الوقوف عند مجرد التشابه، دون أن تكون هناك صلة تاريخية، ليست له أهمية في الدراسات المقارنة”([13]).
وإذا كان البحث في (التأثير والتأثر) يقود غالباً إلى البحث في (التأثر) أو الانطلاق منه، فإن هذا يقودنا إلى أن نتساءل، على الأقل نقدياً وبحثياً، ومع كل ما قد يبدو عليه هذا المصطلح أو المفهوم من وضوح([14])، ما (التأثر)؟ وانطلاقاً من الوضوح العام للمصطلح، فإن مجدي وهبة يتجاوز الشرح الاعتيادي للكمة إلى ما يعنيه عملياً تعلقاً بالأدب والآداب والأدباء والنصوص الأدبية فيقول: “أما كلمة (تأثير) فهي كلمة تدل على علاقة مباشرة، وتدل على أن نصاً معيناً لم يُكتب ما لم يكن صاحبه قد اطلع قبل كتابته على نص غيره. ومن الصعب جداً إثبات مثل هذه العلاقة التي تنطوي على سببية واضحة المعالم”([15]). أما وضع اليد على التأثر، أو التأثير والتأثر فهو يحتاج بالطبع إلى معرفة طبيعة هذه العملية وعالمها- إن صح التعبير، أو حدودها، ومعرفة هذا العالم أو هذه الحدود ربما ترشدنا إليه أو إليها معرفة عناصر عملية التأثير والتأثر، والتي يعبر عنها الدكتور داود سلوم تحت مصطلح (الانتقال) الذي اتخذه عنواناً لفصل في أحد كتبه، بالقول:
“لا شك أن أية دراسة في الأدب المقارن لا بد أن تخضع لأحد مناهجه التي تتناول دراسة الموضوعات أو النماذج أو الأفكار والتيارات، وكل هذه المناهج لا بد لها أن تعتمد ثلاثة حدود، وهي: (المرسِل) من الأدب المؤثر، وقد يكون كتاباً أو تياراً أو نوعاً أو كاتباً أو فكرة؛ و(الآخذ)، ويُقصَد بذلك الأدب المتأثر أو الأديب أو الكتاب أو التيار الذي وقع عليه التأثير؛ ثم (الوسيط) وهو الذي قام بذلك العمل، أي قام بالنقل من أمة إلى أمة، ومن أدب إلى أدب، وقد يكون المترجم أو مدرسة فكرية أو جماعة مستوطنة أو ما شابه، وللسفر وللدوريات الأدبية أثر في ذلك النقل أيضاً”([16]).
من الواضح أن البحث في التأثير والتأثر يتعلق بكل هذه العناصر، كونها تشمل الجهة المؤثرة، والجهة المتأثرة ونوعية الأثر، والوسائط التي تنتقل الآثار عبرها أو بواسطتها من المؤثر إلى المتأثر. ومع صعوبة الفصل كلياً أثناء إجراء مثل هذا البحث ما بين العناصر، فإنه عادةً ما يبدأ عملياً إلا في الجانب المتأثر، وتحديداً في النصوص المفترض أو المتوقع أن تكون قد تأثرت بغيرها، وإذا كان هذا يعني الخوض في البحث عن الأصول الأبية، فيجب أن نعرف “أن مسألة الأصول الأدبية مسألة صعبة دائماً، فحتى إذا ما كان على الأديب أن يقول بأن كتبه قد صارت إلى ما صارت عليه، لأنه كان قد قرأ وأُعجب بكتب أخرى بالذات… فإننا لا نستطيع أن نكون متأكدين، بل متشككين في إمكانية الحسم في حقيقة هذه التصريحات”([17]). أما أول ما نبحث عنه أو نسعى إلى رصده في هذه النصوص فهو التشابه الذي يمكن أن تنطوي عليه مع نصوص في أدب أو آداب أخرى. يقول فان تيغيم: “وتقرير المشابهات والاختلافات بين كتابين أو مشهدين أو موضوعين أو صفحتين من لغتين أو أكثر، إنما هو نقطة البدء الضرورية التي تتيح لنا اكتشاف تأثر أو اقتباس أو غير ذلك، وتتيح لنا بالتالي أن نفسر أثراً بأثر (تفسيراً جزئياً)”([18]). وهنا يجب أن يهيمن على الدارس المقارن التأني في التعامل مع التشابه وعدم التسرّع في اعتباره نتيجة أخذ النص المدروس من النص الذي يكون قد سبقه زمنياً بالطبع، في الأدب الآخر، ذلك “أن وجود تشابهات في عملين ما، وما أكثرها، لا يعني بالضرورة تأثير أحدهما في الآخر. والواقع أن الاعتماد على حقيقة أو ظاهرة منفردة، كهذه التشابهات، للتدليل على وجود التأثير لا بد أن يكون خطأ منهجياً كثيراً ما يستتبع نتائج خاطئة، دون أن يعني، بالتأكيد، أن اعتماد هذه التشابهات بحد ذاتها خطأ في الدراسات المقارنة، لكن المهم أن تُقرَن بدلائل ومؤشرات ساندة أخرى، أو أن تكون هي ذاتها ساندة لمؤشرات رئيسة أخرى”([19]). فإذ قد يكون التشابه نتيجة التأثر فعلاً، فإنه من الممكن أيضاً أن يكون مما يسببه تناول الموضوعات العامة الشائعة التي لا قد لا يؤدي تناول أكثر من أديب لها إلى اختلاف فيما بينهم، وتعلقاً بذلك قد التشابه نتيجة توارد الخواطر. وانطلاقاً من هذه الاحتمالية وجدنا من خلال دراساتنا المقارنة الكثيرة نسبياً أن التشابهات من حيث التثبت من كونها نتيجة تأثر، تتوزع، اعتماداً على طبيعة التشابه ووضوحه ونوعيته، وعلى القرائن الأخرى الساندة أو المؤيدة، والتي سنأتي إليها فيما بعد، على الأنواع الآتية:
الأول: تشابه يمكن الحسم في كونه نتيجة تأثر.
الثاني: تشابه يمكن الحسم في أنه ليس نتيجة تأثر.
الثالث: تشابه يمكن الترجيح في أنه نتيجة تأثر، أو هو ليس نتيجة ذلك.
أما ما يجعل التشابهات من هذا النوع أو ذلك فإنه يعتمد على التشابهات ذاتها من جهة، وعلى ما نسميه قرائن اللقاء والتأثر المساندة من جهة ثانية. فمن حيث التشابهات يحدد ذلك، أولاً، أن تكون جوهرية في العمل الأدبي، أو تكون ضمن ما يقوم هذا العمل موضوعاً وفناً عليها، وثانياً، أن تتعدد نماذج التشابه أو الأوجه التي يلتقي فيها العمل مع العمل الآخر، وثالثاً، أن لا تكون هذا التشابهات من الأمور العامة. أما من حيث قرائن اللقاء والتأثر المساندة، فإن ما يؤكد كون التشابه نتيجة التأثير والتأثر فهو، أولاً، تحقق اللقاء التاريخ- الأدبي بين الأدبين المعنيين أو الأديبين أو التيارين المعنيين، وثانياً، مدى انتشار الأدب أو العمل الثاني في بلد الأدب أو العمل الثاني، وثالثاً، اطلاع أدباء الأدب الأول أو صاحب العمل الأول على الأدب أو العمل الثاني. أما هذه القرائن والعوامل المساعدة والمساندة تتعدد وتتنوع، ومنها بشكل أساس:
1-إثبات الصلات بين الأديب أو الأدب المفترض تأثرهما، والأديب أو الأدباء أو الأدب المفترض تأثيرها.
2-معرفة المصادر كتباً وغيرها التي يكون الأديب المفترض تأثره بها قد عرفها وقرأها.
3-التعرف على مدى معرفة اللغة أو اللغات الأجنبية.
4-وتعلقاً بذلك كله تبرز أهمية سِيَر الأدباء المدروسين وكتاباتهم والمقابلات والحوارات التي تجرى معهم، وتصريحاتهم.
(3)
والآن ماذا يعني (التأثر) تعلقاً بمكانة العمل الأدبي المتأثر وأصالته، ومكانة صاحب العمل؟ وقبل الخوض في هذا نجد أنفسنا ننقاد إلى ظاهرة في الوطن العربي، وتحديداً بين أدبائه وإلى حد ما بعض نقاده ودارسي أدبه، لعلنا لا نجدها في الغرب، تلك هي ما أسميناه في إحدى دراسات هذا الكتاب بـ( حساسية الأديب من تلقي القول بتأثره بغيره). فقد شاع كثيراً بين أدبائنا كباراً وصغاراً تلقي القول بتأثرهم بأدباء أجانب بحساسية مفرطة، وبردود فعل سلبية قد تكون شديدة، وكثيراً ما انعكس في الممارسة النقدية التطبيقية، وفي عموم النشاط الثقافي العربي، وهي حساسية تأتّت بشكل خاص من سوء فهم التأثير والتأثر. فإنه “لمن السهولة للمتتبع أن يرصد في خضم هذا النشاط الثقافي، على كل مستوياته وأشكاله ما نسميه خلطاً وسوء فهمٍ لظاهرة التأثير والتأثر في الإبداع وللقول بهما في النقد، وهو الخلط وسوء الفهم الذي يمكن تصنيفه كظاهرة في وجهين، هو في الوجه الأول انعكاس لما نسميها حساسية المبدع إزاء القول بتأثره بغيره، بل الرد على القول أو التشخيص بانفعال وعصبية أحياناً، وربما بإثارة الصخب. أما الوجه الثاني فهو التطبيق المقارن الذي يعكس الفهم الخاطئ، ولا نبالغ إذا ما قلنا الساذج أحياناً، لما يعنيه التأثير والتأثر، والجهل الذي يبدو أحياناً كبيراً بالأدب المقارن بشكل عام، وهو ما قاد نقاداً وأدباء، أو بعض من يعدون أنفسهم أو يعدهم آخرون أدباء أو نقاداً، إلى أن يفهموا القول بتأثر الأديب بآخر على أنه سرقة، وقاد آخرين إلى أن يروا التأثر الواقع فعلاً في نصوص أو مؤلفات كاتب ما على أنه سرقة، وعليه فإن تلك النصوص والمؤلفات تفقد، في رأيهم الخاطئ، أصالتها أو جودتها. وقاد هذا الفهم فريقاً ثالثاً إلى الربط بين أي تشابهين في عملين أو في أعمال لأديبين على أنه اقتباس أو ربما سرقة أو، إذا ما حاول هذا الفريق الثالث من الأدباء والنقاد التظاهر بالموضوعية، فإنهم قد يشخصونه على أنه تأثر حين لا يكون في حقيقته شيئاً من هذا”. وهكذا لم يعد غريباً أن يقود فهم هؤلاء للتأثّر وكأنه سرقة، بعض الأدباء إلى تلقّي القول بتأثرهم بحساسية ويجعلهم يحسون أن مثل هذا القول يمس مواهبهم وشخصياتهم وخصوصياتهم. لقد فات هؤلاء جميعاً أن التأثر إنما هو من الأشياء والظواهر التي يمارسها الإنسان أو تُمارس عليه في كل يوم وفي مختلف مجالات الحياة. “فطبيعي جداً أن يتأثر الابن بأبيه، والصديق بصديقه، والمحب بمحبوبه، والقارئ أديباً أو غير أديب بالأديب الذي يقرأ له ويحبه أو يميل إليه. ومع هذا فحساسية تلقي القول بمثل هذا التأثير التأثر يطبع الكثيرين. ولأن مثل هذه الحساسية تنطبق بشكل خاص من الاعتقاد الخاطئ بأن مثل هذا إنما ينتقص من الموهبة والشخصية والخصوصية، ومن مقدرة الفرد المعني على الإنجاز الإبداعي والتميز، فإن هذه الحساسية تطبع الأدباء المتمرسين والشباب والناشئة أيضاً”. والواقع أن التأثر يختلط، أو على الأقل يستدعي عدة مفاهيم ومصطلحات أخرى ليكون ضمنها في الكلام والوعي واللاوعي والدراسة والفهم..إلخ، وقد أشرنا إلى بعض ما يقود إلى سوء الفهم منها وبالتالي الحساسية التي قد تكون مفرطة أحياناً من الأدباء. هذه المفاهيم والمصطلحات هي، إضافة إلى التأثر: التقليد، والاقتباس، والسرقة، التضمين، والتناص، والاستشهاد، والمحاكاة. وإذا كان الخلط لا يرد إلا نادراً ما بين التأثر وغالبية هذه المصطلحات، فإنه يقع بشكل مثير فعلاً بين التأثر والتقليد بشكل خاص، ومن هنا ينبه بعض المقارنين إلى ذلك، فيقول بعضهم:” وظاهرة التقليد يجب أن تُميَّز من ظاهرة التأثير، فالتأثير الذي يُتلقّى بطريقة واعية إلى حد قليل أو كثير: تسرب بطيء، تمثيل زيارة [كذا] ملهمة في الخيال، إشراق في القلب- لا يمثل بحال مظهراً قاعدياً مطرداً، بعكس التقليد الذي… يمثل في أحد جوانبه ظاهرة لها أسبابها الاجتماعية، وفي جانب آخر سرقة وأخذاً”([20]). وإذا كان التأثر أمراً طبيعياً فإنه يعكس بالضرورة أمراً طبيعياً آخر يسم الإنسان في علاقاته وتطوره أو في رغبته في أن يتطور ويكون أفضل، ذلك هو الإفادة من الآخر. وفي الأدب يتحقق هذا مع كل أديب وفي كل عمل أدبي. وهنا يبرز التساؤل المشروع الآتي: ألا يمس هذا أصالة العمل؟ فنقول: لا، فما دام التأثر يبقى عند حدود كونه تأثراً، ولا يصير تقليدا فهو لا يمس الخصوصية، وعليه فالإفادة، وتبعاً لذلك التأثر، لا يمسان الأصالة، خصوصاً أن الأديب المتأثر، كما هو حال كل متأثر لا يتأثر بالنص كما لو أنه كائن حيادي وموضوعي، بقدر تأثره بقراءته هو لذلك النص، بمعنى أنه يأخذ منه ويعطيه، وقد يحاوره، ليصل إلى رسالته أو معناه.
(4)
إذا كانت الدراسات المقارنة تقوم في الغالب إذن على التأثير والتأثر، ولما كان التأثير والتأثر بين الآداب القومية المختلفة، كما رأينا، أمراً طبيعياً تبعاً لطبيعية العلاقات ما بين البشر، وضمنهم فئة الأدباء، كان من الطبيعي أن تظهر نتائج التأثير والتأثر في نتاجات هذه الفئة من البشر، نعني في كل مناحي ميدان الأدب. وإذا ما تجاوزنا بعض من تعدى بالأدب المقارن حدود الأدب، كما رأينا عند ريماك مثلاً، فإن ميدان الأدب المقارن الذي لا خلاف عليه هو الأدب. أما فروعه أو فروع الدراسة الأدبية المقارنة فأهمها([21]):
1-عوامل انتقال الأدب من لغة إلى لغة، والمتمثلة في الكتب والمؤلفين، وإلى حد ما المترجمين.
2-دراسة الأجناس الأدبية، وانتقالها ما بين الآداب القومية المختلفة.
3-دراسة الموضوعات الأدبية.
4-تأثير كاتب ما من أمة ما في أدب أمة أخرى.
5-دراسة مصادر الكاتب. ومثل هذه الدراسة عادة ما تأتي ضمناً.
6-دراسة التيارات الفكرية.
7-دراسة الشخصيات الأدبية المتخيّلة والنماذج البشرية المختلفة.
8-دراسة بلد ما كما يصوره أدب أمة أخرى. ودراسة متعلقات البلد، كأبنائه مثلاً، يقع ضمن هذا الفرع.
وعادة ما تتداخل هذه الفروع ببعضها، وتنبني الدراسة المقارنة الواحدة على أكثر من فرع منها. بقي من الواضح أن محور اهتمام الأدب المقارن بكل فروعها، أو الدراسات المقارنة والتأثير والتأثر، وبشكل خاص في ضوء مفهوم المدرسة الفرنسية، هو بشكل خاص (نحن والآخر)، ليكون المقصود، في الدراسات المقارنة العربية، بـ(نحن) العرب، وبـ(الآخر) كل الأمم عدا العرب، سواء أكانت مثل هذه الدراسات تُعنى بتأثيرنا في الآخر، أم تأثيرنا فيه.
[1] ) هاري ليفن: “مقارنه الأدب”، ترجمة د. صالح الحافظ، مجلة (الثقافة الأجنبية)، بغداد، ع2، 1994، ص3.
[2] ) فان تيغيم: الأدب المقارن، دار الفكر العربي، ص18.
[3] ) محمد غنيمي هلال: الأدب المقارن، دار العودة ودار الثقافة، بيروت، ص11.
[4] ) المصدر السابق.
[5] ) فان تيغيم، مصدر سابق، ص62.
[6] ) ألكساندر ديما، علم الأدب المقارن، ترجمة د. محمد يونس، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 1987، ص60-61.
[7] ) مريوس فرانسوا غويار: الأدب المقارن، ترجمة د. محمد غلال ود. عبد الحليم محمود، لجنة البيان العربي، 1956.
[8] ) كلود بيشوا وأندريه ميشيل روسو: الأدب المقارن، ترجمة رجاء عبد المنعم جبر، مكتبة دار العروبة، الكويت، 1980، ص 195.
[9] ) د. محمد غنيمي هلال: الأدب المقارن، دار الثقافة ودار العودة، بيروت، ص9.
[10] ) رينيه ويلك: مفاهيم نقدية، ترجمة محمد عصفور، عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 1987، ص317.
[11] ) عبد المطلب صالح: “تلاقي الآداب في ضوء الأدب المقارن”، مجلة (الأقلام)، بغداد، ع5، 1987، ص99.
[12] ) عبد المطلب صالح: “مدخل آخر إلى الأدب المقارن.. المحتوى والشكل: تلاقي التأثيرين”، جريدة (الجمهورية)، بغداد، 27/10/1987.
[13] ) محمد غنيمي هلال، مصدر سابق، ص330- 331.
[14] ) هذا تماماً ما يوضح لماذا لم يقم مجدي وهبي مثلاً، في أهم معجم للمصطلحات الأدبية في العربية، بتعريف (التأثير والتأثر)، ويكتفي، مسلّماً بوضوح المصطلح، بعرض أنواعه. وهو ما يتأكد إلى حد ما في الكتاب الآخر للمؤلف، (الأدب المقارن)، الذي نحن بصدد الخوض فيه.
[15] ) مجدي وهبة: الأدب المقارن، مصدر سابق، ص15.
[16] ) د. داود سلوم: دراسات في الأدب المقارن التطبيقي، دائرة الشؤون الثقافية والنشر، بغداد، 1984، ص21.
[17] ) Philip Young: Ernest Hemingway, USA, 1952, p5.
[18] ) فان تيغيم، مصدر سابق، ص20.
[19] ) د. نجم عبدالله كاظم: الرواية في العراق 1965- 1980 وتأثير الرواية الأمريكية فيها، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 1987، ص171.
[20] ) كلود بيشوا وأندريه ميشيل روسو، مصدر سابق، ص78.
[21] ) انظر: محمد غنيمي هلال، مصدر سابق، ص92-102.