“يواقيت الأرض” لميسلون هادي
البطل المهزوم في عصر المحنة
منشور
د. نجم عبدالله كاظم
(1)
لقد صار مألوفاً جداً أن يستجيب كاتب القصة القصيرة لإغراء عالم الرواية الجميل فيكتب فيه ، إذ مهما قيل عن جمالية القصة القصيرة وغناها ، ومهما وجد كاتبها من التصاق وقدرة على الإبداع فيها ، ومهما استطاعت التعبير عن روح كاتبها وأفكاره ، ومهما هيّأت له من بيئة للأوهام والإيهام والانطلاق في عوالم الواقع والخيال ، فإن سحر عالم آخر غالباً ما يبقى الأكثر إغراءً وتشغيلاً لكل مكنونات الذات المبدعة .. ذلك هو عالم الرواية . القاصة ميسلون هادي لا تخرج عمن تعرضوا لهذا الإغراء واستجابوا له. فبعد أن أصدرت الكاتبة ست مجاميع قصصية أثبتت حضوراً غير عادي في عالم القصة القصيرة ، وكتبت رواية قصيرة هي “العالم ناقصاً واحد” تحرشت فيها بالرواية أكثر مما دخلتها وحققت فيها نجاحاً غير عادي ، تَمثَّل في استجابةٍ كبيرة نسبياُ من القراء لها أولاً ، وطبعها طبعتين خلال ثلاث سنوات ثانياً(1) ، وظهور العديد من الدراسات عنها ثالثاً . وكان من الطبيعي أن يشكل هذا الذي حققته هذه التجربة الأولى مع عالم الرواية دعوة للكاتبة للسير في هذا الطريق الجديد ، فكانت تجربتها الثانية في هذا المجال ، التي لم تتجاوز فيها التحرش بعالم الرواية وربما الدخول الخجول فيه الذي عبرت عنه تجربتها الأولى فحسب ، بل هي جاءت بشكل اقتحام تام لهذا الفن ، فكانت رواية “يواقيت الأرض”(2) التي نسمح لأنفسنا أن نقول إنها واحدة من الانجازات المتميزة في مسيرة الرواية العراقية .. ومن هنا كانت وقفتنا عندها في هذه الدراسة .
مع أن الرواية تبدأ بداية وصفية تركز فيها الكاتبة على رسم المكان فإنها في الحقيقة ، وهذا هو الأهم برأيي ، تهيئ الجو الذي تريده خصوصاً أنها ستنطلق من هنا .. من الحيز المكاني ليكون واحداً من بؤر الرواية ، انطلاقاً من أنه يشكل للبطل المنفى الاختياري الأول ، والمحطة الأولى في مسيرته نحو المجهول . وتعلقاُ بالمكان بشكل خاص فإن الرواية تبدأ إذن بالعالم المادي أو المحسوس لتنطلق منه إلى ما ستدور فيه وحوله الرواية من عوالم وخاصة في دواخل إنسانية أو عبرها . ومعرفة ذلك لا تتأخر علينا ، إذ أن هذا العالم المادي المتمثل في المكان يُقَدَّم لنا منظوراً إليه من البطل وعبر شباك في مكان ما سرعان ما يتضح أنه شقة ، وكأن الكاتبة تريد أن تقول إن الرواية وحكايتها وأفكارها هي هذا الذي سيصلنا من هذه الشقة أو من خلال صاحبها وعبر شباك هو بشكل ما الكوة التي ينظر منها حقيقة ومجازاً البطل ، ونحن معه أو من خلاله ، إلى العالم والناس . وتتضح الأمور أكثر حين نعرف أن بطلنا هو عراقي في مدينة عربية خارج العراق . ولعل المكان مرة أخرى ، وبهذه الصفة – مدينة عربية – يكشف من هنا ، وبعكس ما قد يلمح ظاهرياً ، أهمية ، خاصة أن الرواية تأتي لتعالج موضوع هذا العراقي في زمن ما عاد هذا العراقي يمتلك حتى وطنه . ولذا لنا أن نفهم أن لا تكون الرواية هي هذا العالم الخارجي المادي المنظور إليه من البطل فقط ، بل هي هذا العالم الخارجي وعوالم البطل الداخلية . وأهمية هذه الدواخل تكمن أولاً في أنها بمثابة مرجل العراقي الذي يتلقى مصادر المعاناة والأزمات والأحاسيس التي صاغتها على أرض الواقع ظروف حرب وحصار لم يشهد التاريخ لهما مثيلاً أولاً ، وأنها ثانياً عنصر فاعل في الحدث ، وهي ثالثاً التي ننظر من خلالها إلى العالم الخارجي كما أشرنا فيؤثر هذا العالم بأحاسيسه ومشاعره ووجهات نظره ثالثاً . والأهم تعلقاً بعالم الرواية الذي تقع فيه الأحداث ونكاد نتحرك نحن قراءً فيه ، فإن الرواية أرادت أن تقول هذا هو الإطار الذي يعيش فيه البطل بوصفه عراقياً في زمن رديء وغير عادي في أزمان البشر .
(2)
بعد مواجهة العالم المادي كما رأينا ، تبدأ الرواية بالعودة بنا إلى ما سمتها الكاتبة مدينة الجذور ، عبر الاسترجاعات التي سنرى أنها تشكل واحدة من تقنيات الرواية الرئيسة . ومن الواضح أن المقصود بمدينة الجذور هو الوطن ، بدليل أننا لنجد أنفسنا مع البطل هناك قبل هجرته مكاناً وأهلاً وجذوراً ، في وقت بدا وكأن هذا الوطن ، أو بتعبير أدق انتماء البطل إليه ، ممثلاً بالناس أو المجتمع قد بدأ ينفلت منه تدريجياً دون أن يقوى مع وعيه بما يجري على التشبث به . وهو الإحساس الذي كان قد بدأ فعلاً يتسرطن في دواخله . ولعل من أوائل ما جسده ذلك أن بدأ يتصاعد في دواخل بطلنا :
“كان قد أصبح جِدّاً منذ وقت قصير .. أو طويل .. بل قصير .. وقبل ذلك بسنوات كان قد فاجأه شاب طويل القامة عريض المنكبين بأن قال له : تفضل عمو .
“كم بدت الكلمة نشازاً . انعقد الجلد بين حاجبيه ثم ضحك .. ولكن الشاب لم يضحك .. ولم يعرف هذا الرجل الواقف أمامه لماذا ضحك . وهو من مواليد الأربعينات .. وذلك كان يجعله شاباً ذات يوم يغبطه الآخرون من مواليد الثلاثينات أو العشرينات على شبابه .. فما الذي حصل لكي يناديه ذلك الشاب بعمّي ويقول له بكلمة واحدة كم هو جيل آخر .. عتيق وعجوز ومتهدم .. كأنه قادم من زمان العصمانلي او عصر الديناصورات ؟ جعله ذلك يحتار حيرة شديدة طالت عدة سنوات أمعن خلالها النظر إلى ملامحه في كل مرة يطل بها على نفسه في المرآة .. ليعثر على ذلك الشيء المنقرض ، الذي جعله الشاب الرزين عريض المنكبين يناديه بكلمة عمّي ، واضعاً بكلمة واحدة وفي لحظة واحدة ، لن ينساها ناجي عبد السلام مطلقاً ، حداً بين جيله ، جيل ذلك الشاب المغرور بنفسه ، وجيلاً آخر ربما ظن الشاب أن الروبية كانت تستعمل فيه بدلاً من الدينار” – الرواية ، ص 13.
منذ ذلك الحين يبدأ هاجس العمر يتصاعد في داخله ليغرز فيه نصل المعاناة الأبدية للإنسان . ولكن سرعان ما تنبض فيه أيضاً (بطولة) غريبة لمواجهة الاستسلام والانتفاض على هذا الواقع/ الغول، إذ هو ما تعوّد أن يستسلم لشيء أبداً ، لا لتقدم عمر ولا لما يفرضه هذا التقدم من تغييرات على الإنسان . ولعله أراد أن يجد شيئاً من ذلك الذي افترض أن الناس من أمثال ذلك الشاب ربما يرونه على وجهه ، “ولكن أبداً لم يعثر ناجي على أثر ..
“وكلما نظر إلى المرآة وأمعن النظر دون الاهتداء إلى أثر ، اشتدت حيرته أكثر : فأين هو ذلك الشيء الذي يراه الآخرون [فيه] ولا يراه هو؟ ولماذا تترك السنوات التي عاشها هو أثراً يراه الآخرون ولا يراه هو ؟” – الرواية ، ص14 .
فهل كان في مواجهته وانتفاضته يخاتل فيتجاوز بإرادته أو من حيث لا يقر وعيه به من ضرائب الواقع والزمن والآخرين؟ ربما هو كان يفعل شيئاً من ذلك ، ولكن يبقى فعله مع هذا نوعاً من الرفض المقاومة لما يستسلم له الآخرون ، لأنه يختلف عنهم ، على الأقل هذا ما يحسّه :
“هو الذي كان يظن أن الشيخوخة نهاية كالموت .. حالة يوجد فيها الآخرون حسب .. وهو الذي لم يضع في يوم من الأيام نفسه سبعاً بين السباع ولا قرداً بين القرود ، بل كان طائراً من الفرح تمرّد لوحده خارج السرب وظل طائراً يغرد ويغرد حتى تساوت تعاريف الفصول” – الرواية ، ص 16 .
إن دافع الهجرة لديه قد بدا خاصاً ، ولكنّه قد كان في وجه آخر منه عاماً ، ليكون شأن البطل في ذلك شأن جلّ العراقيين في (عصر المحنة) كما شاء بعض النقاد مصيباً إلى حد بعيد أن يسمّي هذا الزمن تعبيراً عن معاناة شاملة لكل العراقيين مما لم يجربوه في حياتهم المعاصرة ، وربما لم يجربه أي من أجيال أسلافهم عبر تاريخ العراق الطويل . وقد جاء التعبير عن هذه المعاناة بوعيهم وإرادتهم عبر محاولات التغلب المختلفة على ما تمارسه فيهم المحنة أحياناً بأشكال ردود أفعال مختلفة ينقادون إليها رغماً عنهم . (ناجي عبد السلام) هو نموذج ميسلون المعبر عن هذه المحنة وعن الموقف منها ، وبجانبيها الواعي وغير الواعي ، كما يمكن أن نستقرئ ذلك في عموم مسيرة الخلاص/ المأساة التي يسيرها على امتداد الرواية . “إن سلسلة من الإحباطات واجهها (ناجي) جعلته يفرّ أخيراً من ساحة المواجهة الجحيميّة في بلاد الجذور بحثاً عن فردوس مفقود في بلاد الطيور .. وبعض هذه الإحباطات فردي الطابع وبعضها الآخر ذو طابع عام ، الأمر الذي يجعل (ناجي) بطلاً مأزوماً صممته الروائية ليعبّر عن محنة جيل كامل”(3) .
(3)
وهكذا كانت مسيرة (ناجي عبد السلام) تنطوي على المجهول أكثر من المعلوم ، هي مسيرة البنية الروائية التي جاءت في بطئها في البداية ، كما أشرنا ، متوائمة مع عالم البطل المأزوم بدءاً ، وهو يواجهنا في عزلته في ديار الغربة ، ورجوعاً إلى البدء الفعلي للخط الحدثي الذي يبدأ يرتسم لنا تدريجياً والمتمثل فعلياً بانطلاق الرحلة من بغداد إلى عمّان ، وهي الرحلة التي صارت لملايين العراقيين خلاصاً وطريقاً نحو المجهول في الوقت نفسه (4) ، وهي كذلك حتى لـ (ناجي) ، أما ما يسميها بـ(بلاد الطيور) التي يقصدها في رحلته فإنْ هي إلا في ذهنه أو خياله . وإذ تعالج الرواية ذلك وفي ظل هذا النفَس الذي سيهمن عليها ، نعني إيقاعها السردي البطيء في تراجيديته والعنيف في جوهره ودلالته ، فإن ذلك لا يُلغى الخط الحدثي الذي ربما لا تبدو الرواية في البداية ستعتمده . فبعد هذه البداية البطيئة وشبه الأفقية يبدأ هذا الخط وبتسارع سردي وتراجيدي متأنًّ يتشكل ، حتى وهو يستغني عن الأحداث التقليدية ، ليبني لنا رواية شجن وحدّة وعاطفة ، وهو ما يفسر لنا لِمَ نجد أنفسنا نتفاعل وننفعل مع كل جزيئة منها ، خاصة أن هذا البدء الهادئ والتصاعد البطيء المتوائمين مع وضع البطل المأزوم هو من وضع العراقيين الذي يعرف المطلعون أن حياتهم قد صارت فعلاً في زمن الحصار القاسي ذات إيقاع بطيء موجع . لقد كان الناس في معاناتهم من هذا الوضع ينتظرون أن ينتهي بينما كان اليأس من حيث يعلمون أو لا يعلمون ، يتسلل إلى نفوس غالبيتهم ، ليصل إلى درجة فقدوا معها الحماس والحس بالحياة في بلدهم . هذه التقنية السردية إذ جاءت بما يشبه الترجمة لواقع الإنسان عنيت به الرواية ، فإنها أقحمتنا في الأزمة العامة من خلال الأزمة الناجية – نسبة إلى بطلها (ناجي عبد السلام) – الداخلية ، ولذا ليس غريباً أن نقول إن هذه الأزمة (الناجية ) الداخلية هي الرواية ذاتها . وتبعاً لذلك من الطبيعي ونحن نقرأ ونتابع خط الرواية الدرامي ، أن تكون دوماً في دواخل البطل ، أو في خارجه ، ولكن بارتباط هذا الخارج بفوران الداخل غالباً . فإذ نكون ضمن الدواخل في الحالة الأولى فإننا ننظر إلى العالم الخارجي ونقوّمه ونتابع أحداثه ، وربما نتحاور مع معطياته من خلال دواخل البطل هذه الملأى بتراكمات التأريخ والحياة المائجة دوماً . فعلى عكس ما قد يبدو عليه عالم البطل الداخلي ، وتحديداً في حاضره من سكون أو بطء حركة ، فإنه في حقيقته مائج بشتى الانفعالات والأحاسيس بل الصخب من جهة ، وبأصداء الذات في قتامتها ووحدتها ودورانها حول نفسها من جهة ثانية . وربما من هنا لم يكن لذات البطل الذي يُفترَض أنه انعزالي متوحد ، إلا أن يتفجّر بين الفينة والأخرى عبر تعاملات مع الخارج والآخرين غير عادية وربما غير سوية . وهكذا وبالرغم مما تصر عليه ظاهرياً هذه الذات من البقاء عند حدود عالمها هذا ورفضٍ للتواصل مع الخارج ، فإنها تقوم في الواقع بمثل هذا التواصل والتفاعل مع الآخر عالماً وأناساً وأحداثاً حتى وإن كان سلبياً ، سواء أكان ذلك شكلياً حين يتم بالنظر عبر الشباك أو مع الماضي عبر التداعي والاسترجاع ، أم عملياً عبر الفعل ، حتى في سلبيته . إن البطل في اتصاله بالعالم الخارجي – الذي لا يستطيع التراجع عنه – بالنظر عبر الشباك ، أو استدعاء هذا العالم عبر التداعي والاستذكار ، يجد متنفسه وتواصله الوحيد تقريباً الذي مهما تغرّب واغترب وانعزل عن اجتماعية إنسانيته فإنها لا بد من أن تعبّر عن نفسها أحياناً ، يضاف إلى ذلك المناسبات القليلة التي يخرج فيها فعلياً إلى العالم ، وهو ذاته يقع في الماضي القريب جداً مما يمكن أن نعده ضمن الحاضر .. وهذا كله لا يكاد يشكل شيئاً إزاء الأصل الذي هو بخلاف ذلك كما رأينا . إذن فعالم البطل الداخلي ، ورغم ما قد يبدو عليه أحياناً من سكون أو بطء حركة أو خدر ، هو في حقيقته عالم مائج بشتى الانفعالات والأحاسيس والصخب من جهة ، وممتلئ بالقتامة والليل والوحدة والدوران حول الذات من جهة ثانية ، بحيث أنه ، وهو بهذا الغنى من منظور فني ، لا ينكشف حقيقةً على العالم الخارجي ولا (يتفاعل) معه سلبياً حين يكون من خلال عينيه ، نعني بالنظر ، وحتى في هذه الحالة فإن هذا العالم الخارجي لا يشكل غالباً ، ظاهرياً على الأقل ، شيئاً له . هو إذن في اتصاله الظاهري هذا بالخارج ومحاوراته الشكلية والعبثية إنما يؤشّر الانفصال ما بين الفرد ممثلاً هنا به وبخصوصياته ، والآخرين بعوالمهم حين يضطر إلى التعامل معها. فلماذا يحدث هذا له ؟ ولماذا لا يمكن له أن يتواصل مع العالم والناس كما يُفترض بأي فرد في مجتمع ؟ هل هي أزمة الفرد بفعل مسببات ذاتية ظرفية ، بمعنى أنها أزمة ظرف أو مكان أو زمان معين يحيط به ؟ أم هي أزمة البشر في علاقاتهم ببعضهم في كل زمان ومكان ؟ أم هي أزمة إنسان العصر ؟ أم هي مع أزمة الإنسان العراقي تحديداً في زمن رديء قسا فيه عليه الآخرون ؟ برأينا هو الأخير ، ولكن مع تراكمات أو إضافات ما تنطوي عليه الأخرى . وهكذا صار الانفصال عن الآخرين ، اضطراراً أو اختياراً ، إحدى المهيمنات الرئيسة على البطل ، وهو ما يعقّد عليه تواصله معهم حين يكون هذا التواصل ضرورياً ويكون هو – كما قلنا – مضطراً إلى التعامل معهم لتكتمل دائرة الأزمة في هيمنتها على نفسيته وتفكيره بالهيمنة على سلوكه ، فهو يبدأ في مدينة الزهور الصناعية وبعد سنة ونصف من إقامته فيها بالتفكير بصوت عال الأمر الذي يقوده أحياناً إلى التلفظ بكلام أو سؤال أحد عن شيء مرات ظاناً أنه أنما يقول ذلك لمرة واحدة ، مما يوقعه بمطبّات وسوء فهم ومشاكل مع الآخرين الذين قد يعرف بعضهم ، “ولكن خبازاً حديث العهد بالفرن الذي يعمل فيه سمع سؤالاً من تلك الأسئلة التي يطرحها ناجي عبد السلام على الآخرين بصوت عال في حين يعتقد أنه يرددها مع نفسه بلا صوت ، فصرخ به صرخة جهراء وهو يجيبه للمرة الثالثة :
“نعم يا أخي .. طازج .. طازج .. طازج ..
“اعتبر ناجي تلك الصرخة ضربة موجعة لكبريائه فأمسك بخناق الخباز وضربه على وجهه بكيس أسود فيه كيلوان من خيار التعروزي ، فرد الفران ذلك الهجوم عنه بأن ضرب ناجي عبد السلام بمعيار من معايير الوزن يزن أربعة كيلوغرامات لو كان قد أصابه في رأسه لأرداه قتيلاً في الحال” – الرواية ، ص 96 .
(4)
حين رأينا من زاوية نظر معينة أن الأزمة التي عُنيت بها “يواقيت الأرض” هي أزمة الإنسان الفرد مطلقاً أكثر منها أزمة إنسان بعينه ، العراقي مثلاً ، ممثلاً بالطبع وفي الحالين في ناجي عبد السلام ، فإن هذه الأزمة تشتد أكثر وتتفجر بفعل بيئة وظروف خاصة هي بيئة العراق في ظل الحرب والحصار والأزمات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية التي هيمنت على حياة العراقي في العقدين الأخيرين من القرن الماضي . من هنا كان لنا أن نفهم ما نحسه من قلق البطل وألمه ومعاناته ، وكل ذلك يضاف إليه الغربة والإحساس بالغربة التي إذ تأخذ شكلها المباشر من كون البطل خارج وطنه ، فإنها تتعمق في جوهرها أكثر من ذلك ، لأنها في الواقع غربتان أو غربة ببعدين : الغربة النفسية الداخلية التي ينطلق بطلنا من الوطن وقد تجذّرت فيه .. هي أزمة العراقي في بلده ثمرةً لظروفه القاسية وغير العادية . أما الأزمة الثانية فهي تبدأ تنمو في داخله من لحظة تحرك الحافلة به من بغداد ، لأنه في الواقع ينطلق نحو المجهول بانعدام الغاية الواضحة المحددة التي يبغيها ، والنتيجة تكون حين يتعزز ذلك كله في الشخص الذي نراه في شقته في (مدينة الزهور الاصطناعية) موصوفاً بالرجل الغريب التي يواجهنا بها في بداية الرواية . وهو بفعل غربته الأولى وما قادته إليه من انعزال عن العالم لا يسعى إلى الاندماج في عالم غربته الثانية – المدينة العربية ، وإذا ما قاده ظرف ما أو حاجة لا يمكن تجاوزها إلى أن يتعامل معه فإنه سرعان ما يجد الطرق مسدودة ، أو هذا ما يُخيل له ويحسه على الأقل . وكان من الطبيعي ، من إحدى وجهات النظر التي قد نستقرئها ، وما دامت الطرق في وطن بطلنا قد سُدّت أمامه قبلاً ، أن تُسَد طرق اليوم أمامه ما دامت لا تؤدي إلى الوطن ، فما من وطن بديل عن الوطن . إن البطل لم يكن ليدرك ذلك بالطبع وهو يقدم على خطوة المغادرة ، وإلا ما كان ليفعل ذلك .. ولذا وليكون فعل المغادرة مقنعاً تمرره الكاتبة بالظروف التي نعرف أن جل العراقيين مروا فيها في ظل الحروب والحصار ، مضافاً إليها غرقه في أحلام تعويضية بديلاً عن الواقع القاسي ليصل بإقناع إلى الدرجة التي صار يفكر في تحقيقها فيسير شبه مغمض العينين عن حقيقة ما تقوده إليه الطرق الجديدة بعد أن يكون قد سلكها لأول مرة حالماً . وهكذا ، وبخلاف ما يراه العقل في الظرف الاعتيادي ، ينطلق بحثاً عن وطن بديل ، وإن لم يتحدد تماماً أين وكيف ؟ وما كان له أن يفعل ما فعله وقد استلبه الحلم على حد تيقنه من أنه ليس بناجٍ من وجعه إلا بالوصول إلى غاية حلمه ، خصوصاً أن ما يريده شيء بسيط ، فهو لا يبحث عن عمر جديد ولا عن ثروة أو مملكة ، بل عن النجاة من تراجيدية الحياة في الوطن وتحقيق السلام له . ولم يكن ليشك بالطبع ، في إقدامه ، في أنه ناجٍ من أتون المحنة – لاحظ أن اسمه ناجي – ومستعيد للسلام الذي فقده في وطنه – لاحظ أن اسمه الثنائي هو ناجي عبد السلام – فذلك بلا شك هو ما كان مقصوداً في لاوعيه وهو يفعل ما يفعله – لاحظ أن كامل اسمه هو ناجي عبد السلام مقصود – فهل سيتحقق له ذلك يا ترى ؟ مسيرة الرواية ونهايتها ستجيبان على ذلك . لكن شيئاً من هذه الإجابة تبدأ بإشارات دالة وغير مباشرة من أولى لحظات إطلالة ناجي علينا من خلال الشباك في بداية الرواية ، وهي تعني بشكل أو بآخر أولى لحظات الغربة الصريحة عن الوطن ومواجهة الواقع الجديد :
“نقل الرجل الغريب عينيه من تلك النافذة إلى نافذة أخرى تطل على الشارع .. فاختفت الحديقة وحل محلها عابر سبيل طارت كوفيته في الهواء العاصف وظلت تطير وتسقط في أكثر من مكان والرجل يركض وراءها ولا يستطيع الإمساك بها . صغيرات تضاحكن وهن يتابعنه يصارع الهواء الشديد للوصول على كوفيته التي تركض أمامه على الطريق ، ولكنه لم يتمكن من ذلك إلا بعد أن سحب الهاتف الخلوي أخيراً من على أذنه ووضعه في جيب دشداشته فتحررت يداه ورفع كوفيته من الأرض ليضعها فوق رأسه مرة أخرى .
“كان الرجل الغريب لا يزال واقفاً أمام نافذة غرفة المعيشة ينظر إلى عابر السبيل وقد أصبح على ضفة الشارع الأخرى ولكن لا أحد يرفع نظره من الشارع إلى النافذة وينظر إلى الرجل الغريب” – الرواية ، ص 8-9 .
فهل ستكون أحلام (ناجي) أحلاماً مجردة ، أم هي كما ربما أراد أن يعبر عنها مشهد الكوفية التي طارت في “الهواء العاصف” ؟ يبدو الأمر أقسى من ذلك ، بدليل أنه ما عاد له من وجود إنساني حقيقي يعترف به الآخرون من حوله من حيث رؤيته والتعامل معه والاعتراف بهويته هو (ناجي عبد السلام مقصود) . وقمة التعبير عن ذلك عندنا هو أنه بمجرد أن غادر العراق ما عاد ناجياً بل ما عاد إلا (الرجل) أو (الرجل الغريب) كما تسميه الرواية ، وكأن هذه السمة ليست بالطارئة ، بل هي منه وفيه وله .. وهكذا فهو سيبقى بعد ذلك غريباً وحيداً جسدياً ، ومتوحداً نفسياً وعازفاً بقصديّة واضحة عن التواصل مع العالم الجديد – وهو يكتفي بالتعرف على العالم الخارجي بالاطلاع العام والسطحي عليه بشقيه المحلي القريب المحيط به عبر شباكي الشقة ، والعام البعيد أو الكوني عبر جهاز التحكم بالتلفزيون عن بعد .. وهكذا تتحدد لنا الخطوط الأساسية لحياة ما بعد الهجرة والتي تكون فنياً خط الرواية الذي يسير بالطبع عبر مسار الحاضر ، وهي الحياة البديلة عن حياة ما قبل الهجرة التي نتلقاها بشكل لقطات وأحداث وحوارات وعبر التداعي والفلاش باك لتصوغ من خلال عمل وعينا شبه التلقائي مسار الماضي . وكثيراً ما يفرض ذلك تقابلات ما بين الماضي والحاضر ، وبين أحداث الماضي وأحداث الحاضر ، وما بين أفكار الماضي وأفكار الحاضر ، وبين (ناجي عبد السلام) الماضي، و(نادي عبد السلام) الحاضر .
(5)
يرى بعض النقاد أن العملية الفنية الإبداعية لا تتم إلا إذا مرت بثلاثة أبعاد أو دوائر هي : “الدائرة الأولى : دائرة البعد الذاتي ، والدائرة الثانية : دائرة البعد الاجتماعي ، والدائرة الثالثة : دائرة البعد الإنساني الحضاري”(6) . ومن الواضح أن عمل ميسلون هادي يمر فعلاً بهذه الدوائر سواء أكانت عبر موضوعها ومعالجاتها ، وتحديداً من خلال بطلها . فربما نكرر جزئياً فقط بعض ما سبق أن خرجنا به إذا ما قلنا إن هم (ناجي) هو هم مركّب في نوعه وطبيعته ، وفي أسبابه ، ومستوياته . فهو هم ذاتي أو شخصي مرتبط بما عرفناه عن البطل ، واجتماعي مع ملامح عراقية غالبة وممتزجة بعربية وإلى حد ما إنسانية تخرجه من الخصوصية إلى العمومية . بعبارة أخرى إذا كان للهم الذاتي أو لنقل البعد الذاتي لهذا الهم هيمنة واضحة ومبررة ، فإنه هو نفسه يخرج عن ذاتيته من خلال مسببات من خارج الذات تفعل فعلها في تأزّمه . هذا كله بالطبع أمر طبيعي ، فالرواية من الناحية الحدثية البنائية إنما هي رواية بطلها (ناجي عبد السلام مقصود) ، ولكن هذا مزروع في واقع ونابع منه أيضاَ ، وبالتالي لم يكن ليقدر على تجاوزه ، ذلك هو واقع وطن وأمة .. وهكذا كان من جهة أخرى البعد الوطني أو المحلي ، نعني العراقي ، والبعد القومي العربي ، بكل ما نعرفه عنهما من خارج الرواية ومما قدمته الرواية ذاتها عبر لقطات هي أقرب إلى الضربات الموجعة عادةًً حتى في كوميديتها البنائية منها إلى اللقطات التي نعرفها في الأعمال القصصية والروائية والسينمائية . وهذا الهم الوطني يأتي في ظلال العصر الكوني المتمثلة بالعولمة والفضاء والفضائيات وغيرها ليشكل ما تبدو هموماً أو على الأقل ظلال هموم جديدة مهدد البطل بها . فهو يأتي في عولمته أو كونيّته ليخترق كل ذات لا عبر احتقار الشعوب جميعاً فحسب ، بل عبر احتقار ذات الفرد الواحد وإنسانيته وإرادته وطموحاته . وإذا كان التأسيس لهذه الهيمنة المحتقرة للشعوب والأفراد قد بدأ في ستينات القرن الماضي ليواجه حركات التحرر وثورات الشعوب وانتفاضة الإنسان في كل مكان على واقعه ، فإن جو ذلك قد اشترك في التأسيس لنوع الشخصية التي يمثلها في الرواية (ناجي عبد السلام) . كل ذلك يصل إلينا من خلال تداعيات البطل واستذكاراته على امتداد الرواية لكل ذلك الذي اختفى أو بهت أو قُمع مما أحبه ووجد نفسه وإنسانيته وهويته فيه ، ولكل ذلك الذي بديلاً جاء أو قويَ أو فُرض سواء أكان على مستواه فرداً أم على مستوى الوطن والأمة والمنطقة ، أم على مستوى العالم (لمجنون) :
” إذا كانت الديدان في رأسه قد أصبحت مثل أقدام العولمة تركض على كوكب الأرض في كل اتجاه دون مراعاة لإرادات الشعوب .. فإن التصميم في روحه أصبح مثل حركات التحرر في دول العالم الثالث ذوت وشاخت وأصبحت تشفق على الديدان من القتل وتدعو إلى التصالح معها والتسامح والتعايش ونبذ الصراع إلى الحوار … ولم يكن ثمة داع لأن يجيل بصره هنا وهناك باحثاً عن صهريج أو صندوق أسود ، فأين يمكن أن يجد المرء مكاناً يرتاح فيه أكثر أماناً من المكان الذي ينام فيه ويحلم” – الرواية ، ص 70 .
بقي أن كل ذلك يترآى لنا غالباً مصبوغاً بهمّ أو تأزم إنساني وجودي لا يصيب عادة إلا أكثر الناس حساسية ، وهو ما تتسم به عادة شخصيات ميسلون هادي ، وما نراه في شخصية بطلنا وما هو ربما شائع في الشحصية العراقية عموماً ، وبذلك يكون البعد الآخر للهم . وتعلقاً بحساسية هذه الشخصية من جهة وتركيبة الهم من جهة ثانية ، نشأت افترقات ، كوميدية في بنائها الفني وتراجيدية في معانيها ودلالاتها ، في الفهم والرأي والأحاسيس والسلوك ما بين (ناجي) والآخرين الذين كانوا قد تمثلوا ابتداءً في زوجته ، فعندما تتعارض الأطراف – الشخصيات ، الفرد ، الرجل والمرأة … إلخ – تكون الكوميديا ولكنها مأسوية :
“ولم تجد زوجته شيئاً مهماً تتحدث به إليه بعد أن تمنى لها عيداً سعيداً سوى أن تخبره بأنها قد عادت لتوها من المقبرة وأنها تنوي شراء قطعة أرض فيها تعدها لكي تكون مقبرة للعائلة بعد أن أعجبها المكان ووجدته ظليلاً بأشجار اليوكالبتوس وفيه ممرات فسيحة تقسم المقبرة إلى مربعات متساوية وتفصل كل مربع عن الآخر بأسيجة مناسبة” – الرواية ، ص 80 .
لم تتمثل انتفاضة (ناجي) على الواقع المأساوي في وطنه ، كما هو شأن الأعداد الهائلة من العراقيين ، في تغيير هذا الواقع بل في استبدال هذا الواقع بالهرب والانطلاق إلى خارج حدود الوطن . ومع أنه لم يكن لأحد بالطبع الحق في لومه ، أو لوم أمثاله من العراقيين بعد أن ضاق الخناق عليهم ، فإن ترجمة هذه الانطلاقة قد جاءت كا أرادت الرواية أن تخبرنا انطلاقة واقع في مكان ما يغري بإيجاد الحياة المفتقدة والسعادة التي نضبت في الوطن وبالأمل بوطن بديل . ولكن هذه الانطلاقة في الواقع كانت انطلاقة نحو المجهول ، كما رأينا ، وبما تعني أنه استبدل همّاً أو أزمة بأخرى هي أزمه الغربة ، فإذ يكون المجهول لك أن تتوقع من حيث النتائج احتمال المصائب والكوارث والنهايات المأساوية . ومن الطبيعي ، وهذا مهم جداً هنا ، وفي رؤية الرواية والروائية أن يعني هذا على المستوى الدلالي إدانة ضمنية لهذا الفعل ، هجرة الوطن والبحث عن وطن بديل عبر التوجه نحو المجهول . وصمن هذه الدلالة نبدأ باستقراء مؤشرات ما قد يأتي به هذا الفعل (الذي كثيراً ما يُدان) وبشكل مبكر نسبياً من مسيرة الرواية . فسرعان ما تبدأ ذكريات المعاناة في الوطن من كوارث الواقع – بدءاً بإحدى حربين ومروراً بالثانية وانتهاءً بالحصار – يخفت وقعها ولكنه لا يزول في نفس (ناجي) لتحل محلها معاناة جديدة .. معاناة الوحدة والغربة وتعمق حالة الانفصام عن الآخرين ، وكل ذلك في ظل أجواء المأساة الوطنية والقومية التي يأتي وقعها عبر شباك إطلالته على العالم المحيط به متمثلاً في التظاهرات ، وعبر التلفزيون والمحطات الفضائية والرموت كنترول متمثلاً في مأساوية حال العرب . ولا يكون غريباً حينئذٍ أن يبدأ بمفارقة مأسوية ساخرة بتذكر يكاد يقترب من أن يكون افتقاداً لكل ما ذهب أو اختفى أو قُمع في الماضي ، والمعاناة بدلاً من ذلك مما جاء وقويَ أو أخذ يُقمع ، سواء أكان على المستوى الفردي ، كما رأينا نماذج منه سابقاً ، أم على مستوى الوطن والأمة ، أم على مستوى العالم المجنون . ويبدو كأن ذلك وما ستأتي به الأقدار حكمٌ عليه منذ أن غادر “مدينة الجذور” وجاء إلى مدينة “الزهور الصناعية” – والتسميتان من الرواية – فليس من المعقول أن تعوض الزهرة الصناعية عن الجذر أو تكون بديلاً لها ، فتلك الأصل وهذه المصطنع ، وهناك العطاء وهنا العقم ، وهناك الغنى المكنون وهنا الخواء المكشوف .
(6)
واضح تماماً أن الرواية رواية شخصية ، وتبعاً لذلك فإن ما تقدمه أو تريد أن تعبر عنه أو توحي به أو تثيره فينا إنما يكون من خلال هذه الشخصية ، ولهذا ولأن حاضر الشخصية كما تتجسد لنا وتتحرك وتتكلم تقصر عن أن تقول كل شيء . فقد أطلقت الكاتبة هذه الشخصية ، تخيلاً مرة ، استذكاراً أخرى ، ثم ، وهذه هي الأهم ، تداعياً مرة ثالثة ، ليكتمل الكشف ويتم القول ، وكل هذه إنما هي وسائل تقنية استخدمتها الكاتبة في نسج الرواية وبنائها وضمن تيار الوعي الذي طالما اعتمدته في كتاباتها القصصية والروائية . ومعروف بالطبع أننا في روايات تيار الوعي ، مثل رويات جمس جويس ووليم فوكنر وفرجينيا وولف وبعض أعمال جبرا إبراهيم جبرا وفؤاد التكرلي ، لا نجد بالضرورة تاريخاً أو مساراً حدثياً وفق منطق الزمان والمكان ، بل لقطات ومشاهد وصوراً نبني منها ، كما ربما تريد الكاتبة أو كما تريده الرواية أو أبطالها ، الخط الحدثي ، وكل ذلك وفقاً لمكانة كل من هذه اللقطات والمشاهد والصور من التأريخ الذي تنتمي إليه الرواية بمفرداتها الحدثية . وانطلاقاً من أن هناك فراغات – على حد تعبير بعض أصحاب نظريات التلقي(5) – في هذاه الرواية وفي خطها الحدثي ، فإن ملء هذه الفراغات تكون من شأن القارئ ووفقاً لقراءته وأفق توقعاته ، لتحقيق المعنى الذي يكون مصدر متعة القارئ ، وهي متعة لا تتناقض مع مأساوية النص الذي يبقى أصل التلقي بالطبع ، مع كل ما تقول فيه نظريات التلقي من دور للقارئ ، إذ هو دور لا يلغي دور النص بل يعززه . فكما يرى إيزر ، “أن عملية القراءة تسير في اتجاهين متبادلين ، من النص إلى القارئ ، ومن القارئ إلى النص ، فبقدر ما يقدم النص إلى القارئ يضفي القارئ على النص أبعاداً جديدة قد لا يكون لها وجود في النص”(6) . إن الموضوع أو لنقل المعنى الأدبي للنص الذي بين أيدينا إنما يتكون لنا أو نشترك نحن في تكوينه من خلال الدلالات في رواية “يواقيت الأرض” تأتي على ثلاثة مستويات ، فهي أولاً التي لا ينتهي تدفقها من هذا النص . هذه الدلالات قد تقدمها الرواية واضحةً أحياناً وبما لا يحتاج إلى استقراء متكلّف أو إعمال فكر ، وهي ثانياً قد تحتاج إلى تعامل خاص مصحوب بالغور خلف السطور وفي وضع اليد على (الفراغات) للاستجابة لها بما تقده أفق توقعاتنا ، وفي كلا الحالين قد تكون الدلالات مومأً إليها من النص بشكل أو بآخر ولكن ، لا مصرّحاً بها . يبقى المستوى أو الحالة الثالثة التي تُصنع فيها الدلالات ، وهي برأينا وبسبب طبيعة “يواقيت الأرض” خاصة وكتابات ميسلون هادي عامة ، الأهم والأكثر تأثيراً والأبقى بعد الانتهاء من قراءة الرواية ، هذه الحالة هي التي لا تكون إلا عبر حوارية ما بيننا قراءً ونقاداً والنص فنملأ أولاً فراغات النص التي لا يمكن لأي نص قصصي وروائي إلا ويشتمل عليها ما دام هو ليس واقعاً حقيقياً ، ونربط ثانياً ما بين أجزاء وكلمات وعبارات ، ربما بشيء من التعامل البنيوي ، تتوزع على امتداد النص الروائي وعلى امتداد المديات التي نفهمها أو تُقَّدم لنا في الحالتين السابقتين من حالات أو أنواع الدلالات ، لننطلق ثالثاً منا نحن بأفق توقعاتنا وبقراءاتنا السابقة وبثقافاتنا وتجاربنا ومعارفنا وما خبرناه من الحياة عموماً والحياة التي تعامل النص معها بأناسها وتاريخها ووقائعها ومضاحكها ومباكيها … سواء كان ذلك عبر التماهي الذي لا يستطيع أن يتملص منه أو يتجنبه إن لم نقل إننا بالضرورة سنسعى إليه . ولعل ثراء الفترة التي تنطلق الكاتبة منها في كتابة روايتها أحداثاً ووقائع وتعدد خطابات ، وما شهدته المنطقة عراقياً وعربياً وشرقاً أوسطياً بل عالمياً – حين جاء العالم كله إلينا بالدواعي المختلفة المعروفة – من غرائب الأمور ووحشيتها ولا إنسانيتها وبطولات حقيقية وزائفة .. وما إلى ذلك ما هيأ لمثل هذه القراءات وما قد تقود إليه من تلقي إيماءات وفهم دلالات وتماهٍ وصنع معنى .
إن مركزية البطل التي تجعل من الرواية ، بالتصنيف النقدي ، رواية شخصية إذن لم تكن مركزية شكلية ، بل هي فنية وموضوعية وتعبيرية وثيمية ، إن صح التعبير . وعليه كان لنا أن نتلقى جلّ معنى هذا العمل الأدبي ، الذي يتم عادة من خلال حوارية القارئ – النص ، من خلال متابعة البطل نفسه بشكل رئيس في كينونته وطبيعته وسلوكه وفعله وكلامه وتداعياته ، وعبر ذلك كله من خلال علاقته بكل شيء في عالم الرواية واقعاً وفعلاً وحاضراً وماضياً . في هذا السياق ترتسم صورة البطل من بعدين : الأول ماضيه ، وهو ماض بعيد ، أيام الستينات والسبعينات ونكسة 67 ووفاة جمال عبد الناصر وما تلا ذلك مباشرة ؛ وماضٍ متوسط ، الثمانينات والحرب العراقية الإيرانية واصطباغ شوارع بغداد والعراق بسواد لافتات الشهداء ؛ وماضٍ قريب ، أيام التسعينات السوداء بحربها المقيتة والحصار غير الإنساني للعراق ، أي ما قبل مغادرة الوطن والمغادرة نفسها وما بعدها مباشرة وتحديداً مدة سنة قبل أن نقابل (ناجي) في غرفته في “مدينة الزهور الصناعية” . أما البعد الثاني الذي به ترتسم صورة البطل فهو الحاضر ، في غرفته وبعض خروجاته منها ، على محدوديتها فعلياً وهي خروجات يلجأ إليها في وحدته واغترابه وانفصامه عن الآخرين إذ تضطره إليها الحياة كما تضطر أي إنسان مهما استغنى عن العالم أو استغنى العالم عنه ومهما تقوقع في وحدة مختارة أو مفروضة .
عبر ذلك كله تقول الرواية ما تريد قوله أو نستقرئ نحن القراء منها ما قد نختلف فيه فيما بيننا ما دمنا نتعامل مع عمل إبداعي أولاً ونتعامل ، من خلال ذلك أو في خلفيته ، مع بعض قضايا المنطقة والعالم والإنسانية ثانياً . وفي كل هذه لا يمكن أن نتفق غالباً إلاّ في الثوابت والخطوط العامة ، ونعتقد أن هذا لهو من جماليات العمل الإبداعي .
تعلقاً بالأسلوب ، ولكن ليس بعيداً عن كل ما قلناه عن الرواية موضوعاً وحدثاً وبطلاً وتقنيات ، نقول إن الكاتبة إذ اعتمدت روايتها كما قلنا شخصية مركزية ذات طبيعة خاصة تنقاد لأزمة مهيمنة عليها تصل إلينا بشكل رئيس عبر تداعيات تصوغ الرواية بلغة استطاعت أن تجسد الشخصية كما أرادتها ، وتعبر عن مشاعرها وما تقوم به أو يقع لها . ولعل مقياس نجاح هذا الذي أرادت الكاتبة للغتها أن تفعله للرواية ولبطلتها هو أننا نكاد نحس ونحن نقرأ ونتابع الأحداث ونتأمل الشخصية ونعيش وإياها واقعها وأزمتها أو أزماتها ومشاعرها أن ذلك كله إنما هو لنا أو يقع لنا ، إلى حد الإحساس التأزم أحياناً . وليس هذا الذي نرصده على لغة ميسلون هادي بجديد ، بل أنها عُرفت بها بين عموم القصاصين والروائيين العرب ، فهي ، كما يقول سامي مهدي ، “لغة نظيفة مقتصدة دقيقة ، إشارية إن صح التعبير ، سريعة الإيقاع ، لا ترهل فيها ولا حذلقة ولا ادعاء ، ولكنها شفافة ، وموحية ، ومعبرة ، برغم بساطتها … وتسند هذه اللغة عينان يقظتان ذكيتان تحسنان الالتقاط والرصد والغوص إلى جواهر الأشياء وجلاءها ، مثلما تحسنان مراقبة الآخرين والحدس بأفكارهم وبما يجيش في عوالمهم الداخلية من مشاعر وهواجس”(7) . وكل ذلك يتمثل في نجاح لغة الكاتبة في التعبير عمّا تريد التعبير عنه معنىً وإحساساً وفي شاعريتها واقتصادها وعذوبتها ، وهو ما يتضح أكثر ما يتضح في القصل الخامس عشر الذي هو واحد من أجمل فصول الرواية إن لم يكن أجملها ، فمن طريف ما نلاحظه على لغة الرواية بشكل عام وفي هذا الفصل بشكل خاص هو أنها تتسامى حين تمزج السخرية بالمأساة ، مع إبقاء الجدية هدفاً . هي بتعبير آخر لغة تنزف دماً ودمعاً تألماً على الواقع الذي تعبر عنه وحالة الشخصيات الإنسانية في هذا الواقع التي تتعامل معهم ، وخاصة بطلتها .
الهوامش :
(1)صدرت “العالم ناقصاً واحد” في طبعتها الأولى عن دار الشؤون الثقافية ، بغداد ، 1996 ؛ وفي طبعتها الثانية عن دار أسامة للنشر ، عمان ، 1999 .
(2)صدرت الرواية عن دار الشروق للنشر ، عمان ، 2001 .
(3)د. حسين سرمك حسن : ميسلون هادي وأدب عصر المحنة ، دار الشروق للنشر والتوزيع ، عمان ، 2004 ، ص 26 .
(4)شكّل طريق بغداد – عمّان البري للعراقيين طريقاً متعدد المعاني والدلالات .
(5)نبيلة ابراهيم ، القارئ في النص” نظرية التأثير والاتصال” مجلة (فصول ) القاهرة ، ع1، م5 ،1984، ص 32.
(6)د. عبد الرحمن ياغي : أبعاد العملية الأدبية ، ص70 ، عن عبدالله رضوان : “الاتجاهات النطرية في النقد الأدبي الأردني .. تجربة في التقعيد النظري للنقد الأدبي” ، في كتاب : حركة النقد الأدبي في الأردن ، أوراق ملتقى عمان الثقافي الثالث 22- 20 آب 1994 ، ص 39 .
(7)د. نجم عبدالله كاظم : الفراشة والعنكبوت ، دراسات في أدب ميسلون هادي القصصي والروائي ، دار الشروق ، عمّان ، 2005 ، ص 150 -151 .
(8)المصدر السابق ، ص 102.