الإحساس بالفقد في رواية ميسلون هادي
“العالم ناقصاً واحد”*
منشور
د. نجم عبدالله كاظم
1
لكل كاتب موضوعة أو فكرة أو ميدان يكون في تعامله معه أشبه بالأسير أو المهووس ، وتبعاً لذلك فهو لا يكاد يتجاوزه في كل عمل يكتبه . ولعل بعضاً من هذا هو ما يسمى “الجوهر المتكرر. للإنسان أو الشاعر أو الكاتب ، فكر أساسية يحاول ، كلما يكتب ، أن يعيدها أو ينميها أو يضيف إليها جوانب أخرى” (1) على حدّ تعبير جبرا إبراهيم جبرا، ومعروف أن ديستويفسكي فعل ذلك ، وإن كان ما نعنيه هنا أوسع من هذا . ومتعلق بذلك إلى حد كبير قول سارتر عن فوكنر إنه “حبيس الزمن أو أسيره ” ، وقول ناقد آخر عن همنغوي إنه ” تابع أو عبد لتجاربه الحياتية” … وهكذا هو شأن غالبية الكتّاب ، خاصة الذين يكونون قد حققوا تكوُّنهم الذي يُعرفون به ، إذ تتلبسهم تلك الأفكار والموضوعات حين يعيشون حالة الخلق . الكاتبة التي ندرس روايتها هنا تُسلِّم بشكل واضح بما يقودها إليه إحساسها ، أو لنقل هي تسلم لإحساسها هذا حين تكتب عملها ، وتنقاد إليه أكثر مما ينقاد هذا الإحساس إليها . فميسلون هادي تكتب دوما انطلاقاً مما تحسه تجاه مَنْ وما مِنْ حولها ، وتجاه ما يأتي الناس به وما يقع لهم وللأشياء من حوادث ووقائع وعلاقات ومشاعر وأنماط تفكير .. ولهذا فإن قصصها تأتي عادة فيما يشبه الزفرات وترددات الأنفاس وهمسات الروح غير المسموعة من الآخرين ، لأنها عبارة عن أصداء في داخلها لما يجري أو يتمثل أمامها مادياً أو خيالياً . ولعل روايتها التي بين أيدينا ” العالم ناقصاً واحد ” هي من أكثر تجاربها تجسيداً لهذا ، مع أنها ، ولربما يبدو هذا مفارقة ، تدور حول أكثر الأشياء واقعية وبعداً أحياناً – وظاهرياً على الأقل- عن التأمل والأفكار والأحاسيس والإيحاءات التي يجدها قلمها الأنسب للانقياد إلى الكتابة . فالرواية تدور حول أكثر الوقائع والأحداث جسامة وعنفاً ووحشية وبعداً عن صفاء النفس ونقاء الروح ، نعني الحرب ، لكن الكاتبة ، مع هذا كله ، تبقى عند الضفاف عينها التي نعرف أنها تحبها .
ومركب الكاتبة التي يبقيها عند هذه الضفاف ، مهما ابتعدت عنها أحياناً ، هو إحساسها ، فإنها تتحرك وفق حركة هذا الإحساس أو الأحاسيس التي تنطلق منها كتاباتها . وهكذا فان القارئ ليمكنه أن يلمس وراء حركة الشخصيات وأفعالها وكلامها ، أحاسيس تتلبسها دائما لتكون وراء صيرورة العمل كله أو كيفيته : إحساس بالزمن وبالخوف وبالحب وبالظلم وبالأمل وبالفقد … لتكون في النتيجة مفتاح القارئ للتلقي والاستجابة ، ومفتاح الناقد للتلقّي والتحليل . لقد كان الإحساس بالخوف وراء قصص مثل “الشخص الثالث” ، والإحساس بالأمل والفقد وراء قصص مثل “الذي عاد” ، والإحساس بالحب وراء قصص مثل “العيون السحرية” … وهي بعض من أبرز قصص الكاتبة (2) . وليس صعباً على القارئ اكتشاف أن الإحساس بالفقد هو وراء روايتها ” العالم ناقصاً واحد” . ولا يختلف عن هذا التشخيص ، إن لم يعززه قولنا إن الفقد أو الإحساس به هو ثيمة العمل . أبوان يتلقيان من قروي كردي نبأ استشهاد ولدهما الطيار (علي) ، بعد إسقاط طائرته المروحية في شمال العراق ، وسرعان ما نعرف أن ذلك ، كما أن مجريات الرواية كلها ، يجري في أعقاب وقف إطلاق النار في حرب الخليج ، كما يدل على ذلك بوضوح كلام القروي المُبلغ عن الاستشهاد :
“تعذر علي المجيء مباشرة بعد الحادث ، ولكن عندما أعلنت أمريكا وقف إطلاق النار كان أول شيء فكرت به هو المجيء إليكم وإخباركم بالأمر” – الرواية ، ص15 .
تنطفئ أو تكاد شعلة الحياة في الأبوين إذ يكتسحهما الحزن والإحساس بالفقد اكتساحاً ، لكن مع إحساس الأب بالذات وعدم رغبته في تصديق الفقد ، يبدأ ، بعد ذلك بأيام ،باختلاق أمل في أن يكون الابن حياً ، فينبض في داخله خافتاً في البداية ، ليقوى بعد ذلك إلى حد الإيمان به أحيانا ، خصوصاً بعد أن يبرز احتمال أن يكون الشهيد طياراً آخر كان برفقة ابنه ، لأن القروي الكردي كان قد استند في تحديد هوية الشهيد على سترة طيار ومجموعة أغراض خاصة ، بضمنها هوية الابن وصورته ومصحفه ، كانت قد تُركت على القبر.
من الواضح أن الرواية إذ تتناول الحرب ، فإنها لا تتناولها بأسلحتها وغاراتها أو بفعلها القتالي ، بل بما سببته للإنسان جسداً وروحاً من فواجع ، متجنبة في الوقت نفسه الخوض في جدل السياسة وجدل مشروعية الحرب أو لا مشروعيتها ، وإن كنا نعتقد أنها بطريقة ما قد عبرت عن لا مشروعيتها ، على الأقل من زاوية أنها حرب . والواقع أن هذا لهو أبقى ما يمكن لكتاب أدب الحرب أن يحققوه في كتاباتهم ، وما يخفق غالبيتهم فيه عادة ، وخصوصاً حين ينجرون إلى الانحياز إلى أحد طرفي الحرب ، وضمن ذلك إلى إبراز قوة طرف وبراءة الطرف الآخر . القاصة تتجنب هذا كله وتجعل همها الأساس هو المأساة التي تسببها الحرب للإنسان ، حتى وإن لم يحمل سلاحاً ، وتحديداً – في الرواية – خلال فقد الأحبة والإحساس بالفقد الذي يكتسح أبطالها ، وخاصة الأب – الشخصية الرئيسية – وهي إذ تفعل ذلك ، فإنها تنجح في تحريك الوتر الإنساني في موضوعها ، ولكن دون التضحية بالهم الفني الذي يتلبسها بشكل واضح، خصوصاً حين تتفادى بذكاء المباشرة التي كثيراً ما تتسلل ، أن لم تقتحم صراحة ، كتابات الحرب ، “فالكاتبة تلمّح ولا تصرح ، وتناور ولا تباشر على مستوى القصة الواحدة ، وعلى مستوى الفقرة الواحدة ، بل على مستوى الجملة الواحدة “(3) في كل ما كتبته سابقاً ، وفي روايتها الأولى هذه.
وإذا لم يكن مما يخدم كتاباتنا النقدية ، وفقاً لذلك ، الخروج من النص إلى ما انطلق منه ، نعني الواقع أو الحرب تحديداً ، فإننا نضطر أحياناً إلى فعل ذلك ، ولكن لنمسك بهذا الذي تناولته القصة أو الرواية . فمهما اختلفت الرؤى لما حدث في العراق والخليج العربي في بداية التسعينات ، فإن ذلك لا يغير من حقيقة القسوة التي اتسمت بها الحرب وامتداداتها اللاإنسانية ، التي لم يعد الكثيرون يختلفون في أنها لم يحدث لها مثيل في التاريخ ، خاصة في تدميرها المتواصل للإنسان ، وهذا هو الجرح الأعمق والأكثر تأثيراً في جسد الإنسان العراقي وروحه. في الحقيقة هذا هو ما حاولت التعبير عنه بعض الأعمال الروائية التي ظهرت بعد الحرب ، ولكنها غالباً لم تستطع أن تبرزه بوصفه همها المحوري ، كما فعلت ميسلون هادي في “العالم ناقصاً واحد” . لقد قدمت الكاتبة فيها إحساسها بمأساة الحياة بشكل عام ، من خلال مأساوية فترة بعينها من حياة الإنسان العراقي وكأنها تحذر في ذلك مما توعد به الرئيس الأمريكي بوش العراقيين حين قال بلا إنسانية مطلقة “الضربة اليوم والموت غداً” .فإذا كان “الإنسان هو موضوع القصص” ، كما يقول سارتر ، فإن الإنسان العراقي هو موضوع هذه الرواية ، والذي تقدمة من خلال جرح الفقد والإحساس به ، وهو إحساس يعبر عن نفسه في كل حركة وفي كل تصرف صغير أو كبير يأتي به الأبوان ، وخاصة الأب ، وفي كل كلمة ينبسان بها ، بل في كل ما يريانه ويسمعانه أو يتخيلانه:
“صوت ضعيف كالذبذبة راح يتردد في رأس الأب بلا هوادة :
“- علاوي .. علاوي .. علاوي
“صوت كأنه صوته ، ولكنه لا يخرج من فمه وانما ينطلق من بئر السلم لإيقاظ النائم الذي فوق .. ثم صمت وجيز وتنطلق الذبذبة مرة أخرى” – الرواية ، ص 21 .
2
إن الحسية ، التي تهيمن على الرواية عبر انصهار السارد بالشخصية وبالحدث والفكرة ، بل بالكلمة – خاصة حين تكتسب هذه الكلمة إشاريتها ، تمكنها من اختراق تلك الفجوة التي يصعب تفاديها عادة بين النص والقارئ ، ليكون القارئ في القصة : في سير أحداثها ؛ وفي داخل شخصياتها الرئيسة ؛ وفي مشاعرها؛ وفي وعيها ولا وعيها ، حتى ليحس القارئ وهو يقرأ أنًّ ما يجري للشخصية يجري له :
“لا يعرف بعدها كيف تسرب ذلك الصبي ابن جارهم المحامي بين تلك المجموعة ليمسه من كتفه ويسأله بهدوء وحياء شديدين : عمّو صحيح علاوي مات ؟
“رفع الأب نظره باتجاه الصبي والدموع تتشكل في عينيه لأول مرة منذ أن سمع بالخبر وقال له بصوت مخنوق : إي بابا .. مات . ثم انهار في بكاء مرير وانفجرت أبواب الحزن شظايا تناثرت في كل مكان” – الرواية ، ص 22 .
وإذ يتشكل تدريجاً ، ولكن بسرعة متناسبة مع تكثيف الرواية القصيرة ، إحساس الأب -الشخصية الرئيسية – بالابن وفقده ، فإن الإحساس يكون مفتاح الرواية أو أحد مفاتيحها الرئيسة . الرواية جاءت مشاعر أو أحاسيس أكثر منها أحداثاً ، وحتى الأحداث حين ترد فإنها ترد عبر أحاسيس الشخصيتين الرئيسيتين ، وخاصة الأب . وهكذا مضموناً وتقنية لا يكون من أهمية لأي حدث الاّ عبر أهميته للشخصيتين وعبر إحساسهما به ، فحتى بكاء طفل الجيران الذي يكون عادياً من أية وجهة نظر ، لا يكون كذلك حين ينتقل إلينا ، ولا أقول وينقل إلينا عبر سماع أم الفقيد له وهو يأتيها من الخارج ، وعبر ردة فعلها عليه :
“ثم نهضت من مكانها وركضت إلى الباب المسدود لتفتحه وهي ترددّ بلا انقطاع : إسم الله يُمَّة ..اسم الله الرحمن .. اسم الله الرحمن .. ماتت أمك ، يوم .. ماتت أمك ، يوم .
“كان بكاء الطفل قد أصبح أكثر حرقة ولوعة ويشي بظلم كبير لأنه متروك للفراغ والوحدة خارج بيته .. متروك للخوف العظيم الذي لا يرحم” – الرواية ، ص 66 .
فإحساس الأم بابنها الذي لم يعد إليها ، وبالفقد ، هو الذي يحركها ، وهو الذي في ضوء تأثيره تأتي بفعلها وردة فعلها . والواقع أن هذا ينجر على كل ما من حول الشخصيتين الرئيسيتين من أشياء ووقائع مهمة أو تافهة . هنا يجب أن لا ننسى أنّ هذا لم يكن بسبب طبيعة الرواية وشخصياتها وموضوعها فحسب ، بل هو أيضاً وقبل ذلك ، من طبيعة أسلوب الكاتبة ورقة إحساسها المترجم بوضوح إلى إيقاع تتمثل في الكلمات ومعانيها وإشاراتها وما هو خلفها ، تدعم ذلك كله قدرة على مراقبة الناس والأشياء بعينين دقيقتين “تحسنان مراقبة الآخرين والحدس بأفكارهم وبما يجيش في عوالمهم الداخلية من مشاعر وهواجس تنعكس على ملامحهم وتصرفاتهم ، فتوحي بها الكاتبة بقرائن حيناً ، وتصفها بحياد أو معززة بانطباع حيناً آخر” (4) . ولربما صحيح أيضاً أن لكون الكاتبة امرأة دوراً في تميُّز التعبير عن قضية الرواية كلها ، ذلك أن التركيز على جانب المعاناة الإنسانية والوجع الفردي ، نجده غالباً في الأعمال النسوية التي تناولت تجربة الحرب”(5) .
وانطلاقاً من هذا التعامل الفردي والإنساني الصادق وغير الاعتيادي للكاتبة مع موضوعها يتحقق التقمص الذي ينتقل إلينا عبر سرد الراوي أو الراوية وإن كان ذلك عبر صيغة الغائب الذي رُويت به الرواية كلها باستثناء فصلين من فصولها الخمسة عشر ، للشخصية ولمشاعرها وإحساسها أو بالأحرى لإحساسها بالفقد تحديداً . وإن هذا ليجعلنا نزعم أن الكاتبة لا بد أن تكون قد عاشت حالة بطلها أو بطليها بدرجة أو بأخرى . ومع أن هذا ليس بأمر غير عادي في تجارب الكتاّب ، فإن ميسلون هادي توظفه بوعي أدركناه من قبل في كثير من كتاباتها بحيث أنك لتلمس دائماً وأنت تقرأ أعمالها وكأن الكاتبة هي البطلة أو البطل . صحيح “أن الروائي يبني أشخاصه ، شاء أم أبى ، علم بذلك أم جهله ، انطلاقا من عناصر مأخوذة من حياته الخاصة ، وأن أبطاله ما هم إلا أقنعة يروي من ورائها قصته ويحلم من خلالها بنفسه “(6) ، كما يقول ميشل بوتور ، لكن كاتبتنا لا تفعل ذلك فحسب ، بل هي تجعل من هذه العناصر حية وهي تكتب قصتها ، وهو الأمر الذي يؤدي ، حين يوظف ويستمر بإتقان بحيث لا يمسخ أو يتكلف الشخصيات ، إلى أن ينتقل إحساساً وتقمصّاً وانصهاراً إلى القارئ . ولعل مما يزيد من هذا في تجربة ميسلون في هذه الرواية أنه يتعلق بفقد العزيز ، وفي ظل ظروف غير عادية وظفتها الكاتبة إذ عاشتها حقيقة بالتأكيد هذه المرة ، وتتمثل في تجربة الإنسان العراقي في العقدين الأخيرين . وهنا نجد أنفسنا ننقاد ، مع أننا لا نريد كما قلنا من قبل أن نخرج من النص إلى ما انطلق منه النص ، إلى الإقرار برأي تودوروف إذ يقول :”للعمل الأدبي في مستواه الأعم مظهران ، فهو قصة وخطاب في الوقت نفسه ، وبمعنى أن يثير في الذهن واقعاً وأحداثا قد تكون وقعت وشخصيات روائية تختلط من هذه الوجهة بشخصيات الحياة الفعلية .. فهناك سارد يحكي القصة ، أمامه يوجد قارئ يدركها ، وعلى هذا المستوى ليست الأحداث التي يتم نقلها هي التي تهم ، وإنما الكيفية التي بها أطلعنا السارد على تلك الأحداث “(7). ولكن تبقى لهذه الكيفية التي يطلعنا بها السارد على قصته ، علاقة بدرجة ما بالأهمية التي لا بد أن تكون للقصة نفسها ، مهما كانت محدودية هذه الأهمية ضمن العمل الأدبي ، وهو ما يبدو واضحاً في رواية ميسلون هادي التي فرضت الكيفية التي قدمت بها أحداثها علينا لتثيرنا فنعيشها في العمل الإبداعي ، بل لنبحث ونفكّر في أصولها من حولنا ، وهو ما تمثل عملياً في ردود فعل العديد من القراء في أعقاب صدور الرواية مباشرة ، خصوصاً حين وجدوا أنها تحكي قصتهم . فلأن الكاتبة أتقنت الكيفية التي نقلت فيها إلينا إحساس الأب بالفقد ، واستحضار الفقيد عبر ذلك ليكون قريباً منا كما هو قريب على أبيه – أو أبوية – ولأنّ قليلين منا ، نحن العراقيين ، من لم يفقد عزيزاً سواء أكان ذلك في الحرب العراقية الإيرانية أو في حرب الخليج ، فإنها قد لا تكون مفاجأة لنا أن نجد الكثير من القراء يتصورون ، وقد يتقنون في دواخلهم ، أنّ فقيد الرواية هو فقيدهم . والحقيقة أن عدداً من هؤلاء ، كما علمت ، قد عبر للكاتبة عن ذلك . وبظني أن لتقنية الإيحاء وإبعادها للرواية بالضرورة عن المباشرة ، التي كثيراً ما تسللت إلى قصص وروايات الحرب ، دوراً في تعميق هذا الإحساس لدى القراء ، والكاتبة ، برأي البعض من أبرز من استخدم هذه التقنية ، يقول سامي مهدي : “عندي أن ميسلون هادي تنجح في ذلك نجاحاً واضحاً في أغلب الأحيان ، وبخاصة حين يكون موضوع القصة قضية كبيرة ، قضية إنسانية وجودية ، كقضية الحياة والموت”(8) .
هذه القدرة على استثمار ما يسميه سامي مهدي (تقنية الإيحاء) ، وهيمنة ما نسميه نحن بالحسية في السرد ، وما يتبع ذلك من نقل حس الكاتبة أو السارد أو الشخصية الروائية نفسها إلى القارئ واشراك القارئ عملياً فيه وإدخاله في عالم الرواية ، وما أداه ذلك كله في النتيجة من التجاوب غير الشائع من القراء ، يذكرنا بتجربة طريفة لكاتبة بولونية . فحين نشرت سوزان شيفر روايتها (ألبا) في سنة 1975 ، أي بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية بثلاثين سنة بدأت تتسلم رسائل واتصالات هاتفية من أناس يسألونها معلومات عن بعض أقربائهم المفقودين منذ تلك الحرب ، بل هي تلقت مرة مكالمة من امرأة استرالية كانت مقتنعة ، من خلال ما قرأته في رواية شيفر ، من أن التي تتكلم عنها الرواية أختها المفقودة ، وعليه فقد كانت تحاول أن تعرف مكانها . وكان على الكاتبة أن تبذل جهوداً غير عادية لتقنع القارئة بخطئها .
واقع الأمر أن رواية “العالم ناقصاً واحد” هي ليست قصة الشخصيات المتخيلة – ونقول المتخيلة مهما كان لها من أصول في الواقع – نعني الأبوين المفجوعين والابن الفقيد فحسب ، بل هي قصة العراقيين الذين يعيشون ويعانون الماسأة . فالمؤلفة حين اختارت عيِّنتها ، إذا اعتبرنا ذلك اختياراً ، أو حين تخيلت شخصياتها إذا اعتبرناها تخيّلاً ، فإنها اختارت أو استحضرت بتخيلها ، كل العراقيين الذين فقدوا أعزَّة شهداء أو أسرى أو مفقودين ، ومع الفقد انزرع فيهم إحساس بالفقد ، وفي كثير من الأحيان مع بصيص أمل في أن يكون أولئك المفقودون أحياء ويعودوا إليهم يوماً لينتهي بعودتهم عذابهم :
“كنت بمفردي واثقاً من أن ما جرى ويجري سينتهي .. وأن معجزة ستحدث لتصحيح الخطأ . كنت أحاول وحدي اقتفاء أثر عطر يتضوع بعد أن رحل صاحبه .. كان البيت يبدأ استعداده ليوم جديد مملوء بأولئك الغرباء {المعزّين} … يوم بلا صمت ، وبلا زقزقة العصافير .. بلا صباح .. بلا ليل .. بلا عليّ .. بلا أي شيء” – الرواية ، ص 71 .
3
بقي أن نتوقف قليلاً عند جانب مهم في الرواية تتصل بموضوعها أولاً ، وبتقنيتها السردية ثانياً ، تلك هي مكانة الزمن فيها . فلم تكن الرواية لتكتسب هذه القوة في التأثير وتماسك البناء ضمن خط طويل جداً في ثقله على شخصياتها ، كما أرادت الكاتبة له أن يكون ، وقصير جداً سردياً كونه جاء مكثفاً فكان رواية قصيرة ، بحيث لا تحس وأنت تقرأ انتقالات السرد بين محطاتها الزمنية بعبثية فصل أو فقرة أو حتى سطر واحد . لقد بنيت الرواية على هذه المحطات الزمنية التي ، حتى حين تبدو شبه مكرره ، ترسخ المرة بعد المرة التأثير الذي تنشده الكاتبة ، خاصة فيما يتعلق بنقل الإحساس بالفقد الذي يتراكم عبر ذلك التكرار – أو شبهه – المبهظ للشخصية ، فليس أكثر من الزمن إثارة للذكريات والأخيلة والأحاسيس ولواعج النفس . لذا ليس غريباً أن تبدأ الرواية ، ومن أسطرها الأولى بالزمن ، والكاتبة تريد من البداية خلق الأجواء الخاصة لمجرياتها :
“الساعة تقارب الثالثة فجراً ، ولم يكن قد غمض للأب جفن حتى تلك اللحظة”- الرواية ، ص 5 .
ليؤشر ذلك ، ومثله على امتداد الرواية ، الارتباط الذي أرادته الكاتبة أو الذي فرض نفسه عليها ، بين الزمن والحدث والشخصية ، أو إحساس هذه الشخصية بالفقد تحديداً . والملفت للنظر أن عشرة أو أحد عشر فصلاً من فصول الرواية الخمسة عشر تبدأ بإشارة صريحة أو ضمنية إلى زمن تعززها أجواء خاصة ، أو لنقل إن الإشارات هي التي تعزز الأجواء ، فتسهم بذلك في تهيئتها للحدث وللمشاعر والأحاسيس التي ستجتاح الشخصية ، وأحياناً لتداعيها ، وبما يلائم أزمتها ومعاناتها وأوضاعها النفسية الخاصة . وتعلقاً بهذا لم يكن ميل الكاتبة إلى الليل تحديداً ميلاً اعتباطياً أو شكلياً، بل هي فعلت ذلك امتداداً لتجربتها السابقة التي غالباً ما امتلكت خصوصيتي الموضوع أو الأفكار والأجواء ، وكلاهما تجد الكاتبة في الليل وما يقترن به من ضياء وظلام وأصوات وسكون ، لوازم رئيسة لهما . ويعزز هذا شغف الكاتبة بالأصوات والروائح ، إذ تستكمل بهما تحقيق التأثير الذي تريده لقصصها تعلّقاً خصوصيتَي الموضوع والأجواء :
“تسقط الأصوات في الليل لتؤكد الصمت بدلاً من أن تبدده ، وتتسلل الأضواء الخافتة من فتحات الستائر وفراغات السلّم لتؤكد الظلمة بدلاً من أن تمحوها .. أصوات لا أول لها ولا أخر تكون في لحظة من اللحظات غير موجودة لأنها لا تسمع ولكنها تتضح فجأة ..” – الرواية ، ص 27 .
والواقع أن الرواية تكاد تكون كلها عبارة عن مسيرة بطليها في ليل طويل يبدأ من السطر الأول حين يتلقى الأب النبا المفجع باستشهاد ولده الطيار ، ومروراً بمعاناة الفجيعة المتواصلة ومحاولة التكيف معها ، أسيراً بدون جدوى ، ثم بزوغ الأمل غير المريح ، بل المتعب في أن يكون الابن أسيراً ، مع تمنّ خجول في أن يكون الطيار ، الذي كان برفقته والمفترض أنه أسير ، هو الشهيد . ولأنه ليس من نتيجة أو نهاية حاسمة ومنظورة لمسيرة الليل هذه ، والتي هي مسيرة أولئك الذين يمثلهم الأب أو الأبوان ، نعني العراقيين في ظل المأساة والظلم المستمرين ، فإن الخوف والحزن من جهة والتشبث بالأمل المتعب من جهة ثانية يبقيان حتى نهاية الرواية ، معبرَّاً عنهما بانفتاح القبر ، في وعي الأب:
“لماذا افترض الرجل الذي سلم له سترة ابنه وبداخلها هويته وقرآنه وأوراقه بأنها تعود إلى الطيار الذي دُفن وليس للطيار الآخر الذي أسر ؟
“هكذا انبثق الخاطر في رأس الأب من جديد.. وهكذا زلزلت هذه الفكرة كيانه مرة أخرى لتطبع لها موطئ قدم للأمل الحي الممكن.. هكذا انفتح القبر من جديد، وسيظل فاغراً فمه في رأس الأب إلى الأبد .” -الرواية /ص 72.
الهوامش:
1 – د. نجم عبدالله كاظم: الرواية في العراق 1965 – 1980 وتأثير الرواية الأمريكية فيها ، دار الشؤون الثقافية العامة ، بغداد 1987 ، ص 275 .
2 – أصدرت الكاتبة من قبل المجاميع القصصية الآتية : الشخص الثالث (بغداد 1983) ، الفراشة (بغداد 1986) ؛ أشياء لم تحدث (القاهرة 1991) ؛ رجل خلف الباب (بغداد 1996).
3 – سامي مهدي: “العالم ناقصاً واحد” وتقنية الإيحاء ، جريدة القادسية (بغداد) 7/8/1996.
4 – المصدر السابق .
5 – نزية أبو نضال: “العالم ناقصاً واحد” للروائية العراقية ميسلون هادي ..الجانب الآخر من الحرب ، جريدة الدستور (عمان) ، 2/8/1996 .
6 – ميشال بوتور: بحوث في الرواية الجديدة ، ترجمة فريد أنطونيوس ، بيروت1971 ، ص 154 .
7 – تودوروف : مقولات السرد الأدبي ، ترجمة الحسين سحبان وفؤاد صفا ، مجلة آفاق (الرباط) ، ع 8 – 9 ، 1988 ، ص 64.
8 – سامي مهدي : المصدر السابق .
- صدرت الرواية في طبعها الأولى عن دار الشؤون الثقافية ، بغداد ، 1996 . وأُعيد نشرها عن دار أسامة ، عمّان ، 1999 ، وهي التي رجعنا إليها في دراستنا .