مجدي دعيبس، الوزر المالح

الحرب الحب
في رواية “الوزر المالح” لمجدي دعيبس
د. نجم عبدالله كاظم
( 1 )
كما هو شأن الكثير من الروايات التاريخية، وكل روايات التخييل التاريخي، حين تأتي رواية الأردني مجدي دعيبس “الوزر المالح”([1])، وهي تستحضر حقبة تاريخية بعينها، فإنها إنما تريد أن تعبّر عن جانب من الحاضر، وتحديداً كما قد تعبر عن هذا الملاحظة التي تتقدمها، إذ تقول:
“رواية عن الحب والحرب…. عاشت شخصياتها وجرت أحداثها في عالم يشبه عالمنا إلى حد بعيد، حتى يكاد يكون هو ذاته”- الرواية، ص5.
وهكذا هي حين نقول هذا، فإن هذا لا يعني أنها ستعبّر بالضرورة عن إنسان تلك الحقبة التاريخية التي تعود إليها، بل ربما عن إنسان الحاضر، خصوصاً وأن الرواية تقّدم مجموعة من الشخصيات، وهي تعيش حالات الحب والحرب. تجري أحداث الرواية خلال الحرب العالمية الأولى، وانطلاقاً من زاوية طرفين فيها، الإنكليز والعثمانيين، بينما تأتي زاوية أو وجهة نظر الطرف الثالث الحاضر حينها، نعني العرب، موزعة ما بين الطرفين، تماماً كما كانوا على أرض الواقع، حين توزعوا بين الجبهتين، مختارين أو مجبرين، في ظل خداع الإنكليز لهم بوعود كاذبة.
تبدأ الرواية بفصل بعنوان (الجنرال.. اللنبي)، وهو يقدم نفسه إلينا:
“اسمي إدموند هنري هاينمان ألن بي. وُلدتُ في الثالث والعشرين من شهر نيسان لعام ألف وثمانمائة وواحد وستين، ودُفنت في كاتدرائية ويستمنستر في الرابع عشر من أيار لعام ألف وتسعمائة وستة وثلاثين. نعم غبت عن عالم الأحياء منذ زمن. لا أعرف في اي زمن أنتم الآن. ولكن لمن لم يقرأ التاريخ أنا جنرال بريطاني لعبت دوراً بارزاً في هزيمة الأتراك في الحرب العظمى في العقد الثاني من القرن…. لست متأكداً أيجب أن أقول الحالي أم السابق.”- الرواية، ص7.
و(أللنبي) هنا يقدم لنا سرداً لأحداث الحرب العالمية الأولى في الشرق الأوسط، التي كان هو أحد قادتها من الجانب البريطاني ضد الأتراك، وكيف تسلم القيادة وكيف دعم لورنس والشريف حسين، وضمن ذلك تتسلل آراء قليلة من وجهة نظر (اللنبي) الحقيقي أو الشخصية. لكن الخطّ الروائي الذي ينشأ في أجواء الحرب العالمية الأولى التي تقدمها هذه الشخصية، لا يبدأ إلا في الفصل الثاني. ويأتي مقدماً هذا بضمير المتكلم وعلى لسان الضابط التركي (سليم آكرات) في شرقي الأردن، وكما هو عموم الرواية المقدمة بهذا الضمير ولكن على ألسنة شخصيات مختلفة، عربية مثل (الجاويش مصطفى) الذي يعمل تحت أمرة (سليم) والمختار (أنور)؛ والتركية مثل (سليم آكرات)؛ والإنكليزية مثل (الجنرال أللنبي)، لتقدم الرواية عالمها وشخصياتها ومجريات أحداثها من زوايا نظر مختلفة. الرواية، بعبارة أخرىن متعددة الرواة، الذين مجموع رواياتهم هي التي تُكمل سرد قصتها. ومع هذا، نحن لا نرى الحادثة الواحدة، إلا في مواضع محدودة، من زوايا مختلفة باختلاف هؤلاء الرواة. وتبعاً لذلك جاءت الرواية في جزء كبير منها متعددة الأبطال: الضابط التركي (سليم بركات)، والجاويش (مصطفى) الذي يعمل تحت إمرته، و(مريم) التي ستسلب لب الضابط من أول نظرة، وإلى حد ما (يحيى) أخو (مريم)، و(عودة) الذي يحبها، لينفرد (سليم) بالبطولة في جزء متأخر منها.

( 2 )
وإذا لم يكن لمسار الرواية، ولا أقول للرواية، من حاجة سردية لبعض هؤلاء الراوين، مثل (أللنبي)، مما قد يبدو زائداً، فإنه يترسخ لنا، أول وهلة، زيادةً في تفاصيل لا تبدو من حاجة لها، مثل تفاصيل ما يرويه الجنرال، والكثير من وصوفات المكان من قرية ومبنى وبيت، وضمن ذلك، مثلاً، مقر الضابط (بركات) قرب قرية ( إربد) والذي هو دار الحكومة، التابع للدولة العثمانية. فوق ذلك نجد شخصية، مثل (سليم) في نهاية اليوم وقبل أن يخلد إلى النوم، يتذكر قريته في (كلِّس) جنوب تركيا، وطفولته، وأجواء الحرب فيها. ومثل هذا ينسحب على المختار (أنور) الذي تقدمه الرواية، وهو يستلقي وحيداً، مستذكراً أيامه مع زوجته (فضية) الميتة من زمن، وجارتهم في صباه (حليمة) الجميلة، وكان زوجها الأخرس، وكما يصفه، تافهاً وليس من ميزة فيه غير أن أباه كان ميسور الحال. نقول قد يبدو لنا جل هذا زائداً ولا يقدم للرواية شيئاً، قبل أن ينشكف لنا في النتيجة، ما قد يغيب عن أي قارئ مما سنأتي عليه بعد قليل. والحقيقة تكاد كل شخصية تفعل مثل هذا، فتستفيض في الكلام والتأمل واسترجاع ماضيها وذكرياتها، تتيح لنا فهم هذه الشخصية، أو على الأقل تعرفنا بها، كما هو حال الجنرال (أللنبي)، والضابط (سليم)، والجاوييش (مصطفى)، والمختار (أنور)، وآخرين. فمن الطريف وبعد رصدنا لما رأيناها زيادات أو، على الأقل، إطالات، نكتشف حين ننتهي من الرواية، أن كل هذا في الحقيقة أسهم في خلق الأجواء العامة والبيئة الحاضنة للشخصيات والأحداث وتطورها، والتي ما كانت الرواية لتكون مقنعة، بشخصياتها وأحداثها، بدونها. وحين يتعلق هذا ببعض الشخصيات، على وجه الخصوص، فإننا سنقتنع بعد حين بما قد لا يكون في البداية مقنعاً، كما هو حال الملازم (سليم) بشكل خاص. والحقيقة أن مثل هذا، نعني حين يأتي ما قد لا يبدو مقنعاً، ليقنعنا بعد ذلك، يتكرر في الرواية دون أن يبدو متكلّفاً. من ذلك مثلاً يُفاجئ (سليم) المختارَ بأنه يريد أن يعفو (يحيى) من الجندية بحجة إعالة أهله، ولكن المفاجأة تزول بعض الشيء حين ينكشف لنا مع (المختار) أن ذلك مقابل موافقة أهله على تزويج (سليم) ابنتهم (مريم) التي، تخليصاً لأخيها من الجندية والحرب، توافق، مع ميلها المعروف إلى (عودة) صديق أخيها، وفوق هذا أن الكثير سيترتب على ذلك الزواج ليصبّ في تطور مسار الرواية. يتم الزواج فعلاً، وتلتحق بـ(سليم) زوجة له، مع الرعب الذي ينتابها في ضوء ما هو شائع عن الأتراك من سوء تعاملهم مع العرب، بما في ذلك إساءة الأزواج الأتراك لزوجاتهم العربيات إذ يتعاملون معهن وكأنهن عبدات. لكن القادم يكشف، وتدريجياً، عن أن (سليم) إنسان مسالم وحساس وطيب والأهم يحب (مريم) بل لا يقترب منها جنسياً لغير ما سبب واضح بل كأنه تعبير عن أدب وتهذيب وحب. وكأن كل ذلك يأتي ليشكل خطّاً موازياً، ولكن على طرف نقيض، لخط الحرب والقسوة.

( 3 )
مع مسار متخيّل خط الرواية، يتجه مسار الواقعة التارخية، الحرب، نحو كفة الغرب، وفي المنطقة نحو الإنكليز، على حساب الترك والدولة العثمانية، فتنتهي بانتصار الحلفاء على الدولة العثمانية، لتنكشف لنا، في ظل ذلك، صورة لـ(سليم) كانت متوارية خلف ارتباطه، كونه تركياً، بالحرب والعنف وما يرتبط بهما من تعالٍ وسوء معاملة العرب، هذه الصورة الجديدة هي صورة الشجاع والمحب لـ(مريم)، لتستحق شخصيته بذلك أنْ صارت الرواية رواية (سليم ومريم). فلأنه لم يتحمل الهزيمة، وربما أيضاً خوفاً على (مريم) أكثر منه خوفاً على نفسه، من انتقام عرب المنطقة ، وليس جبناً، كما قد يبدو أول وهلة، يخلع (سليم) ملابسه العسكرية ويهرب بـ(مريم) باتجاه الشام فتركيا. وخلال ذلك تنكشف لـ(مريم)، ومن خلالها غالباً لنا، حقيقة شخصيته إنساناً رقيقاً مضحّياً، والأهم محباً لها وحريصاً على أن لا يصيبها أي مكروه. وخلال هذه المسيرة وإذ يتناوب السرد هو و(مريم)، تنثال المشاعر والأحاسيس، بفعل انفراد كل منهما بالآخر وعزلته عن الآخرين، والصعوبات والأخطار التي يواجهانها، مع تخلل الحب السلوك والمشاعر على حد سواء، خصوصاً حين يكون كل حرص (سليم) هو أن لا تتأذى (مريم)، وهو ما يتفجر أكثر حين تصاب بالحمى فيرتعب خوفاً عليها، إلى أن يصلا إلى بيتهم في إحدى القرى التركية، ليجد أن أباه قد مات، وزوج أخته (صفية) قتل في الحرب وله منها طفل اسمه (سليم). ترى أمه الانكسار والحزن عليه واضحين، ليس نتيجة خسارة الحرب فقط، بل لوصول (مريم) معه مريضة ومحمومة.
في نهاية الرواية، وفي ظل كل هذه الأوزار التي تجثم على صدره. ومع نقل (صفية) إشاعة في القرية تقول إن (سليم) فر من الجيش وترك الجنود وحدهم، يأتي الوزر الأثقل حين تموت (مريم) فينهار (سليم)، ليكتمل بذلك الخط الرومانسي الذي هيمن على الرواية في جزئها الأخير، والذي تشكل من حب (سليم) بشكل خاص لـ(مريم) وهو الخط الذي منح الرواية نكهة حلوة ومقنعة، واستطاع الكاتب أن يجعله (حلاوة) الرواية، إذا جاز لنا التعبير.([2])


[1]) مجدي دعيبس: الوزر المالح، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2018.
[2]) للتصويب: في التعريف بإبراهيم باشا، في هامش ص24، يُخطئ المؤلف بوضع تاريخ (1931-1940)، فالمقصود هو بالطبع (1831-1840)، والأدقّ بظني هو (1831-1839).

عن fatimahassann23

شاهد أيضاً

دراسة عن دروب وحشية

تشكلات البناء السردي في رواية دروب وحشية للناقد نجم عبد الله كاظم أنفال_كاظم جريدة اوروك …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *