فؤاد التكرلي: الرجع البعيد
نص دراستي في كتاب “الرواية في العراق وتأثير الرواية الأمريكية فيها
إذا كانت رواية “الرجع البعيد” الصادرة سنة 1980 واحدة من أضخم الأعمال العراقية، فإنها تحتل، في الوقت نفسه، مكانة مرموقة جداً في تاريخ الأدب القصصي والروائي في العراق. وإذ هي تتويج لمسيرة فؤاد التكرلي القصصية والروائية، فإنها أيضاً، برأينا، تتويج لنتاجات هذا التاريخ.
تنطلق الرواية مما يمكن أن نشخصها بأنها بيئة الأجواء غير الاعتيادية لعراق أوائل الستينيات، وعلى وجه التحديد سنتي 1962 و1963، التي اتسمت بالصراعات العنيفة والدموية أحياناً، فيما بين القوى الوطنية نفسها، وبين هذه القوى من جهة، والقوى الرجعية والمحافظة من جهة أخرى. ففي ظل أجواء كهذه تعيش عائلة “الرجع البعيد” ضامة النماذج المتنوعة التي اختارها الكاتب.. لدواخلها الخاصة، التي هي ليست بمعزل، بكل تأكيد، عن العالم الخارجي الذي تعيش فيه الشخصيات فتتأثر به وقد تؤثر فيه. من هنا كان لهذه العائلة، التي هي في انحدارها وانتمائها من البرجوازية الصغيرة، صاحبة الدور الرئيس في أحداث عقود متتالية من تاريخ العراق الحديث، أن تعكس حياة أوائل الستينيات في القطر، من خلال أزمات أفراد وصراعاتهم المختلفة. ومع أن هذه العائلة لا علاقة لها بالأزمات السياسية والاجتماعية لتلك الحياة بشكل مباشر، فهي تبقى نموذجاً لمجتمع ذلك الزمن ولأزماته السياسية والاجتماعية. وفي كل الأحوال نحن لا نتفق، رغم كل ما قلنا، مع ما يذهب إليه القاص موسى كريدي حين يقول في استقرائه العميق للرواية:
“وخلاصة الرأي أن (الرجع البعيد) تدور حول عائلة عراقية تمثل صورة ما للدولة العراقية وما يمكن أن تعانيه من مشكلات وأزمات، وما يمكن أن تماثله من وجود فوضى ضاربة، واختلال في القيم الفكرية والسياسية لعموم البلد في فترة أوائل الستينات”().
عندنا أن من أوائل الصعوبات التي تواجه الناقد المحلل لرواية “الرجع البعيد” هي تحديد موضوعتها. لعلنا نستطيع القول إنها أزمة الإنسان في حياته، أو أزمات الإنسان فرداً وعالماً خاصاً أولاً، وفي علاقته بالأفراد الآخرين ثانياً. على أية حال، إن الحدث المركزي في الرواية هو حادثة اغتصاب (عدنان) غير الاعتيادية وغير المألوفة لخالته (منيرة)، وهي الحادثة التي تدفع هذه الأخيرة إلى ترك بيت أختها في مدينة بعقوبة، لتأتي مع أمها إلى بيت عمتها في بغداد، ليبتدئ بذلك نسيج الرواية بالتكوّن. والواقع أن ردود الفعل والاستجابات الفكرية والذهنية والعملية لأفراد عائلة (منيرة) تجاه مقدَم الفتاة ووجودها في البيت، وعلاقاتهم معها ترسم، من ناحية الحدث والبناء ونسيج الرواية، الحبكة في خطوطها الأساس، وأحيانا المتفرعة– الحبكات الفرعية. كما أن هذه الاستجابات وردود الأفعال المختلفة تُبرز أيضاً، من حيث الموضوع والمعالجة، الأزمات الفردية أو الخاصة للشخصيات الرئيسة، بل حتى الشخصيات الثانوية، وكأن كل ذلك يُراد به أن يرسم عالماً غير عادي مكتظ بالحياة والموت على حد سواء، وبالإنسان ما بينهما. بعبارة أخرى، يمكن القول، وربما نتيجة لذلك كله، إن الرواية تطرح المعضلة الإنسانية، أو معضلة الوجود– ربما ضمن زمن معين وظروف معينة، وربما ضمن الامتداد الزمني المطلق للإنسان في الحياة. وفؤاد التكرلي ينجح، ضمن ذلك، في تحريك عملية المعايشة والإدراك والوعي فينا للصراعات التي تلتف الرواية حولها، وبشكل أساس للصراع الداخلي الناجم بين الإنسان ونفسه حول قضية الوجود، والصراع الناجم عن وجود الهوة غير الطبيعية بين الواقع، المتمثل بحياة مجتمع بالذات ضمن مدة أو مرحلة معينة من مسيرة تطوره، والأفكار منعكسةً، في الرواية، في شخصية المثقف، بشكل خاص، وفكره وإحساساته المتضاربة بما حوله. ويمكن ملاحظة رابط دقيق بين هذين الصراعين أو التأزمين؛ ذلك هو تحسس المثقف، شبه المنعزل عن مجتمعه، لعبثية الحياة، وهو التحسس الذي ربما هو، في بروزه، وليد المرحلة المعينة والظروف الخاصة التي يمر بها المجتمع الذي يعيش فيه. لقد صبغت هذه الصراعات تجارب معظم شخصيات الرواية التي كانت تتخاذل وتستسلم وتسلّم بالنتائج السلبية التي ترتسم أمامها أحياناً، وتكافح بصدق وإيمان بمقدرتها على الخوض والصراع للخروج من الأزمة أحياناً أخرى. لكن النتيجة كانت عموماً، ولدى العديد منها هي (لا شيء)، لا شيء ذو فائدة، ولا شيء يثير الإنسان في هذه الحياة، ولا شيء يستحق الاهتمام به، لأنه، كما تقول إحدى الشخصيات في واحد من أكثر المقولات المكثفة تعبيراً عن رؤية وجودية طالما رأيناها وسنراها مستقبلاً في أعمال التكرلي:
“ماكو شيء مهم… كل شيء يساوي كل شيء، فرويد الله يرحمه مثل أي زبال عراقي بالهويدر الله يرحمه. وكتاب أصل الأنواع يساوي…”- الرواية، ص87().
والى جانب هذه الأحاسيس والنتائج التي يتوصل إليها بعض الشخوص، تنتابهم أحياناً أيضاً أحاسيس بمطاردة أصوات داخلية لهم لا يستطيعون الفكاك أو الهرب منها. ولأنها منهم ومعهم دائماً، فإنهم يستطيعون إهمالها أو استغفالها أو إسكاتها. فهذا (مدحت)، إحدى الشخصيات الرئيسة، يقول لزوج أخته (حسين):
“- شلونك ويه [مع] صوتك الداخلي حسين؟ كل [قل] لي، ما عندك صوت يركض وراك وين ما تروح، يسألك عن كل شيء ويعلّق على كل شيء؟ هذا شنو؟، هذا ليش سويته؟، هذا صح، هذا غلط، هذا نفاق، هذا تعدّي، هذه خربطة، هذه هزيمة؟ صوت لا ينام ولا يتعب، يحجي [يحكي] وياك أثناء ما تحجي، وأثناء ما تسكت. من أنت بوحدك وأنت ويه الناس. عندك هيجي شي حسين؟ عندك؟”- الرواية، ص88.
ويبدو، من هذا النص ومن نصوص أخرى، ومن أزمات الشخصيات، أن العنصر النفسي عامل رئيس في تحديد أزمة الشخصية متمثلاً، بشكل خاص، في الحوارات المتدفقة والحوارات الداخلية. ولعل هذا نتيجة من نتائج القراءات المكثفة للتكرلي لكتابات علم النفس. وهي، عموماً، ترينا أيضاً تأثّر الكاتب بالكتابات الوجودية، مثل أعمال سارتر وكامو، وربما كافكا وفوكنر وهمنغوي، مع أنها ليس ببعيدة عن الواقع الذي استقى منه الكاتب مادته. يقول الدكتور زكريا إبراهيم:
“… أما عند سارتر، فإننا دائماً بصدد مواقف ميتافيزيقية ينكشف من خلالها قلق الإنسان، وعبث الحياة، وصراع الحريات، وجزع الوجود البشري من الموت، وحنينه إلى المطلق.. إلخ. وحين يحاول الفيلسوف الوجودي أن يعبر عن هذه المواقف الميتافيزيقية، فإنه لا يقسرها على الأحداث قسراً، كما أنه لا يسقطها على الشخصيات إسقاطاً، بل هو يضعها في سياقها الواقعي الجزئي، ويدعها تنطق بلغتها الخاصة من خلال اللقطات الموضوعية”().
وإذا كانت القتامة تغلف أغلب الشخصيات في أزماتها، تتساوق معها غالباً مواقف سلبية لها تجاه هذه الأزمات، فمن الممكن ملاحظة أن الأمر يختلف بشكل كبير مع (منيرة) وموقفها من أزمتها التي هي المحرك الرئيس للرواية. إن التأزم الذي تجد (منيرة) نفسها فجأة في خضمّه فُرض عليها كلياً من الخارج، ولم يكن هناك من استعداد طوعي من جانبها، على عكس ما هو الحال مع غيرها من الشخصيات، بل هي، أكثر من ذلك، تميزت عن كل تلك الشخصيات بتحسس واعٍ ومدرك للواقع وللعالم المحيط بها. وفي كل الأحوال، نحن نحس أن الشخصيات جميعاً، بما فيها (منيرة)، تبحث دوماً عن شيء، أو أشياء، قد تكون معروفة لبعضها وقد تكون مجهولة لبعضها الآخر، وربما هي الحالة الغالبة؛ وبالطبع أن تأزمات شخصيات النوع الثاني هو أشد وأمضّ، ولعل ذلك من الأسباب الرئيسة وراء قتامة عوالمها وقتامة الجو العام للرواية.
وبهدف إيصال أفكاره، يعمّق الكاتب الأزمات المختلفة لأبطاله، وتختفي شخصيته بشكل تام في حالتي الشخصيات التي تروي عن نفسها وعن الآخرين بنفسها، باستخدام ضمير المتكلم– (منيرة) و(عبد الكريم)– والشخصيات التي يقص الراوي قصصها أو أزماتها وأفعالها، باستخدام ضمير الغائب– بقية الشخصيات. فنحن نُؤخذ بشكل ماهر وذكي إلى دواخل هذه الشخصيات جميعاً وأزماتها لنكون على وعي تام بصراعاتها الداخلية ومعاناتها. ويجب أن نشير هنا إلى أن صيغة ضمير الغائب هنا هو في الواقع (هو المتكلم)، بمعنى أن المظهر الشكلي لها هو الرواية بضمير الغائب، ولكن الحقيقة هي أن ما يُقدم إنما يُقدم من وجهة نظر متكلم، ومن أعمق دواخل الشخصيات، وكل ذلك من خلال اعتماد شبه كلي لأساليب وتقنيات تيار الوعي، وهو ما كان وراء اختفاء شخصية الكاتب وتقارب الوضعية في كلتا حالتي القص. ولا يُخفى أن فؤاد التكرلي من الكتاب القلائل الذين يتسيدون بحق هذا الاتجاه أو التيار في الأدب القصصي العراقي. وواضح جدا أن تقنيات تيار الوعي جاءت ملائمة جداً لـ”الرجع البعيد” بالذات، فوظف الكاتب ذلك لإغناء عمله وإعطائه أبعاداً أعمق كما هو حاله في كل ما يكتب، مستخدماً بشكل خاص أبرز ألوان تقنيات تيار الوعي هذا، نعني الحوار الداخلي، والى حد ما المناجاة ومونتاج الزمان، إضافةً إلى الأساليب التقليدية المتبعة ضمن هذا التيار نفسه.
بقي أن من المفارقة أن الرواية لم تخلُ من لمحات كلاسيكية، بل ربما أمكن القول إن مثل هذه اللمحات مما يسهل رصده، سواء أكان ذلك في البناء والتقنية أم في السرد، لكن ذلك لم يكن ليبدو عند التكرلي متعارضاً، في أي حال من الأحوال، مع حداثة الرواية وتقنياتها وبنائها، ولا متنافراً مع أي من ذلك، بل، على العكس، لقد جاءت هذه كلها بانسجام تام ينم عن المقدرة غير الاعتيادية للكاتب في الاختيار والتنظيم وقيادة عمله نحو كل ما يناسبه بغض النظر عما إذا كان ما يلجأ إليه أو يستخدمه قديماً أو حديثا، وتقليدياً أو متجدداً.
**
تتوزع “الرجع البعيد” على ثلاثة عشر فصلاً، بينما انقسم الفصل الثاني عشر إلى قسمين، دخل الفصل الثالث عشر بينهما. والفصول موزعة على الشخصيات، عمد الكاتب فيها إلى تقديم أجزاء من الرواية من زوايا نظر مختلفة، من ضمنها زوايا نظر بعض تلك الشخصيات مع بقاء أسلوب الفصول وعوالمها، أو الأجزاء التي تعكسها من عالم الرواية، ضمن دائرة واحدة. ومع أن أربعة فقط من الشخصيات التي خصص لها الكاتب فصولاً يرويها من خلالها أو يتركها ترويها بنفسها– مدحت، وعبد الكريم، ومنيرة، وحسين– هي من الشخصيات الرئيسة، فإن أهمية الشخصيات الأخرى، غير الرئيسة، التي خصص التكرلي لها فصولاً أيضاً، تأتي من خلال كونها شخصياتٍ مراقبة للأحداث وللشخصيات الأخرى. وتكتسب مراقبة هذه الشخصيات بالذات أهمية خاصة، إما لكونها تجسد مراقبة عينين محايدتين إلى حد ما، لكونهما بريئتين كما في فصل (سناء)، أو لكونهما تمثلان مراقبةَ جيل لجيل أو أجيال أخرى. ففي الرواية أربعة أجيال، أو لنقل أربع مجموعات من أعمار الشخصيات، ولكون الصراع متركزا في واحدة منها، نعني جيل (منيرة، وعبد الكريم، ومدحت، وحسين)، فإن الكاتب قد فضل، على ما يبدو، أن لا يترك هذا الجيل يتكلم وحده عن أفراده وأزماته. ولذا فقد أتاح الفرصة للآخرين ليراقبوا ويلاحظوا ويوصلوا إلينا ذلك أحياناً، من خلال وجهات نظرهم. إن هذا قد جعل الرواية تظهر رواية شخصيات، وهو أمر إلى حد بعيد صحيح. وبوجود هذه السمة، إضافة إلى الأجواء الخاصة التي تتحرك فيها هذه الشخصيات، والأزمات والمعاناة التي تنطلق منها في تحركها، وكما تحدثنا عن شيء منها، والى جانب الاستخدام المكثف والارتكازي لتقنيات تيار الوعي، فإن العمل يذكّرنا مرة أخرى برواية وليم فوكنر “الصخب والعنف”، ولاسيما فيما يتعلق بفصل (كوينتن) وشخصيته وأزمته، وذلك ما سندرسه بشيء من التفصيل في المقارنة التطبيقية في القسم الثاني من الكتاب.
لقد جعل الكاتب من (منيرة) الدعامة الأساس والمركزية لروايته، فبنى “الرجع البعيد” حولها، متعاملا مع الشخصيات الأخرى من خلال دواخلها، وعلاقاتها ومدى تأثر هذه الدواخل وأفعالها وسلوكها بتلك الشخصية المركزية، سواء أكان ذلك بشكل مباشر أم غير مباشر. إن العالم الذي وضع التكرلي فيه (منيرة) عالم يموج ويصخب ويحيا ويتداعى ويهدأ ويتوتر من خلال تأثره بعوامل عديدة، يقف وجود هذه الشخصية دوما في مقدمتها. وحتى الزمن، مع حقيقة أنه زمن منطقي وواقعي في سيره إلى الأمام وفق أزليته، وهو في الرواية محدد بحوالي سنة، فإنه يتحدد من جهة أخرى للشخصيات وللأحداث تبعاً لما له من علاقة بـ(منيرة) في حركتها وفعلها، ولاسيما الحدث المركزي– حادثة اغتصابها. إن الزمن، على أية حال، موجود ومحسوس دوماً من الشخصيات، فهو يمثل أحياناً أزمة الشخصية كما عند (مدحت)، وهو يمثل السير نحو اللاشيء، وعبثية الحياة التي لا مفر منها بالنسبة لآخرين مثل (عبد الكريم)، و(حسين). وفي كل الأحوال تسير الحياة، ويسير الزمن، ولكن دون أن يعني أن تأتي الأحداث في مسيرة الروائية وفق تسلسل وقوعها الحقيقي، بل تتقدم أحداث، وتتراجع أخرى، ويؤجَّل بعضها، بينما تُروَى أحداث أخرى أكثر من مرة ومن زوايا نظر مختلفة، أي من خلال أكثر من شخصية أو من هذه الشخصيات مباشرة. وتُذكر هذه الأحداث كلها أو تُرصد أو تُروى تبعا لظروف كل شخصية ومواقفها النفسية وتبعاً لتطور أزمتها الخاصة من جهة، وتبعا لعلاقة ذلك كله بـ(منيرة) بشكل أو بآخر من جهة أخرى. هذا التحريك للأحداث أو روايتها داخل زمن الرواية، أو بعبارة أخرى أن هذا التداخل بين الأزمنة– الماضي والحاضر– الذي يستتبع تداخلاً في الأحداث أحياناً، إنما هو بالتأكيد واحد من تأثيرات كُتّاب تيار الوعي، فوكنر وجويس والروائيين الفرنسيين، ونتيجة لشغف التكرلي بهذا التيار وإجادته الكتابة فيه.
ولكون (منيرة) العصب الرئيس للرواية، ليس بناءً حسب بل مضموناً أيضاً، فإن الحكم على الشخصيات وتحليلها ومحاججة مواقفها ونوازعها وأفعالها وردود أفعالها وأفكارها، في مرحلة أو مراحل بعينها أو في مراحلها جميعاً ضمن وجودها الفاعل على مساحة الرواية، تنطلق كلها من هذه الشخصية المركزية. لقد نجح الكاتب كلياً في تعامله مع (منيرة) والشخصيات الأخرى وفق هذه النظرة، بل هو يوفَّق تماماً في تأكيد الدور المركزي لهذه الشخصية والأهمية الحيوية لمكانتها في عالم الرواية، في التفاتته الذكية والجميلة، وأظنها الفريدة في تجربتنا القصصية والروائية، باستخدام ضمير الشخص الغائب حين يتكلم هو أو تتكلم الشخصيات الأخرى عن (منيرة) دون ذكر الاسم في أحيان كثيرة، كما في الحوارات الداخلية، وفي تداعيات الشخصيات بشكل عام. قد لا يكون ذلك متعمداً من التكرلي، ولكن هذا لا ينفي عمق الدلالة في ذلك، إن لم يؤكدها. فقد عكس هذا الأسلوب المعنى العميق والدلالة الجوهرية لـ(منيرة) عن الشخصيات الأخرى، وأتاح للقارئ نفسه أن يحسها متى ذُكر الذي يشير إليها (هي، ها، الضمير المستتر) على شاكلة الأمثلة الآتية:
“وهكذا، حتى معها، لم أعد أفتح نفسي هذه الأيام”.
“كنت قلقا، تبهظ قلبي الأفكار المضنية المجهولة الأساس. أردت أن أراها أتبادل معها حديثاً منذ أسابيع وكانت تتحاشاني مثلما كنت أفعل…”.
“… ثم انطفأت الأنوار واحداً إثر الآخر، إلا النور الخافت جداً في غرفتها”.
“كنت خائفاً من كل شيء، منها ومن العالم، ومن فعل الحياة، وكانت هي، رغم ذلك، ملجئي الوحيد”- الرواية، على التوالي: ص195، 342، 345، 346.
هي لا تحتاج إلى أن يُشار إليها دوماً بالاسم، لأنها، إضافة إلى كونها محورهم الذي يدورون حوله من حيث يدرون أو لا يدرون، ليست شخصاً اعتيادياً. إنها أكثر من أن تكون مجرد امرأة، تتكلم وتعيش وتمارس الحب…، إنها أكثر من ذلك بكثير بالنسبة لكل شخصية من الشخصيات الرئيسة، وربما الثانوية خافتة الأصوات أيضاً. وهي العامل الفاعل أو المحرك للبيت ككل ولحيواته، فهي حياة أو موت، وبداية أو نهاية، وأمل أو يأس، تبعاً لكل شخصية ولكل طبيعة من طبائعها ولكل أزمة من أزماتها، وتبعاً لكل مرحلة ولكل وجهة نظر، وتبعاً للظروف المختلفة لكل شخصية.
نعرف، من المراحل الأولى من مسار أحداث الرواية، بالوجود غير الاعتيادي لـ(منيرة) في بيت عمتها، وبعد ذلك بقليل– الفصل الثالث– نطّلع، عن طريق استخدام الفلاش باك، على حادثة وصولها المفاجئ إلى هذا البيت، الذي يبدو واضحاً من البداية أنه سيكون، مكاناً، بؤرة الرواية. المهم أن الكاتب يبدأ في هذا الفصل نفسه بالتلميح ضمنياً إلى أن شيئاً ما غير اعتيادي، وربما أكثر من مجرد غير اعتيادي، قد حدث لها قبل مجيئها بزمن غير طويل. تبدأ هذه التلميحات الضمنية والمباشرة تتالى وتتصاعد باطراد لتقوّي الإحساس الذي نستشعره بوجود مثل هذا الحدث أو الحادثة في الفصول التالية (ولاسيما الخامس والسادس). ومع أن هذه الحادثة الغامضة هي العامل المؤثر الرئيس في الشخصية المركزية، بل المؤثر الرئيس في مجرى الأحداث، فإننا لا نعرف، قبل منتصف الرواية، بما يكون قد حدث لـ(منيرة) بالضبط. يأخذنا الكاتب في الفصل التاسع إلى الوراء، حيث الرجع البعيد الذي ربما يبدو بعيداً بفعل عوامل سيكولوجية أكثر مما هو بفعل الزمن الحقيقي، ليحكي لنا ومن خلال تداعيات البطلة– ويجب أن نتذكر هنا أن ذلك قد يتم، بضمير الغائب مع أن الفصل يُروى بضمير المتكلم– تلك الحادثة الغامضة حين يعتدي على (منيرة) ابن أختها (عدنان) بشكل وحشي ويغتصبها. هذه الحادثة تضعها مدة من الزمن في موقع حرج غير مستقر ما بين نهاية موشكة الوقوع وحياة مجهولة الهوية والطبيعة. أول إحساس ينتابها، وهي مستلقية تتلقى باستسلام مهين الصدمة العنيفة التي تهز أصلاً كل إحاسيسها ومشاعرها بل روحها ووجودها، وحتى قبل أن تُدرك بوعي تام ما حدث لها وما يعنيه، هو أنها دُفعت نحو هوّة سحيقة لا تعرف لها قراراً..
“.. كانت بلا أمل، على مشارف الهاوية، أمام الانتهاء. تركزت حياتها كلها في هنيهة اندمج فيها عريها وبكارتها والدوار الوحشي في داخلها، فاستسلمت. ثم واتاها الرعب متأخراً، الرعب من كل شيء، من الظلال البعيدة ومن التراب الحار تحت عجزها ومن الشمس ومن السكين تشق أحشاءها ومن الزفرات المتشنجة ومن الدماء التي تصبغ اللحم المرتعش. صرخت وصرخت وصرخت، كانت تصرخ كي تبقي على حياتها، كي لا تجن…”- الرواية، ص209.
لكن الحادثة تصبح، في الوقت ذاته أو بعد ذلك بقليل، بداية جديدةً تحتّم عليها أن تنطلق منها بعد أن تسعى، بكل القوة التي يبدو أنها تمتلكها أصلاً وتزداد أكثر ما بعد استيعاب الصدمة، إلى أن تتجاوزها بل حتى تطوي صفحةَ ما قبلها لتستطيع أن تتقبل مجبرةً ما حدث وتتخطى المعوقات التي أبرزتها الحادثة في طريق حياتها وفي وجودها الذي كان من الممكن أن يدمر تماماً لو لم تكن هي (منيرة) التي ترفض في حقيقتها الاستسلام:
“لستُ ضحية كما تقتضي التقاليد، ولا أنا ذبيحة مجهولة على جانب الطريق، ولا ريشة كما يقولون في مهب الريح.. ولستُ أشكو لأني لا يجب أن أشكو. وأفضل ما أقوله لنفسي: أن ما تبقّى مني كان يمكن أن يدمر أيضاً، وهكذا تعلمت خلال وقت قصير جداً، أن أفكر بما تبقى لي وأن أُعنى به، ولذلك شطبت على بعض العناوين الكبيرة في حياتي وبدأت أجرجر أطرافي المهشمة كي ألحق بذيل القافلة وأمكث هناك.. بين مثلومي النفس ومطعوني القلب، يمكن أن تعيش دون كبرياء أو مجد، ليس بينهم أي معنى لطموح البشر وللمستقبل، هناك تجد السعادات الصغيرة الرائعة أحياناً”- الرواية، ص202.
خصوصاً حين يكون هنا فعلاً ما يدفع بهذه السعادات إلى دواخل النفس، كما يتجسد ذلك لـ(منيرة) لأول مرة بعد الحادثة حين تقول:
“… أفلتُّ من مصير علاقة الذكر بالأنثى، وطرت فرحاً وبكيت طويلاً حين مجيء العادة الشهرية بموعدها ونزول قطرات الدم الأولى. يا للدم من مؤشر متطرف في شؤمه وتفاؤله! وكان ذلك فاصلاً حقيقياً لما انتهى ولما يجب أن ابدأ به”- الرواية، ص203.
المثير هنا أن (منيرة) وهي تحاول أن تلحق بركب القافلة، (مسيرة الإنسان ممثلة بعد ذلك ببيت العمة والعائلة التي انتقلت إليها)، سرعان ما تصبح، في الحقيقة وبسرعة، روح هذا البيت ومحركه. والقلب الذي ينبض في صدر كل فرد من أفراد هذه العائلة، الأفراد الذين يجب أن تنبض لهم قلوب، وتصبح المحرك الحقيقي للبيت ولأغلب أفراده (الأحياء حقاً) إن لم يكن جميعهم. والواقع وأنا أتعايش، في قراءة (الرجع البعيد)، مع هذه الشخصية الرئيسة أحسها جوهر ذلك الإنسان الذي عناه وليم فوكنر حين قال في كلمة استلامه جائزة نوبل: “إني أؤمن بأن الإنسان وحده سيبقى ويسود. إنه خالد، ليس لأنه الوحيد بين المخلوقات الذي يمتلك تعبيراً لا ينضب بل لأنه يمتلك جوهراً، روحاً قادرة على الشفقة والتضحية والبقاء”().
لعل (عبد الكريم) هو أقرب شخصيات الرواية الأخرى عملياً ونفسياً إلى (منيرة). والواقع أن (منيرة) نفسها تجده أقرب إليها من كل الشخصيات الأخرى، ولم يحل دون إحساسها هذا استسلاميته المقيتة والمثيرة لاستيائها أحياناً. إن الفرق الأساس بين الشخصيتين يكمن في هذه النقطة. فبينما تحاول (منيرة) الوقوف على قدميها بشجاعة مرة أخرى بعد الهزة العنيفة التي تعرضت لها، يسقط (عبد الكريم) وينهار أمام أول امتحان حياتي يواجهه في حياته. بل حتى محاولاته الانتفاضية أحياناً للخروج من ظلام تأزمه يأتي نتيجة من نتائج الإشعاع الذي يبزغ عليه ويشمله بحلول (منيرة) بينهم وشموله بشيء من رعايتها واهتمامها وتقربها له. أزمة (عبد الكريم) تكمن في أصولها الظاهرة في فقدانه المفاجئ والمأساوي لأقرب صديقه إليه، حين يقتل (فؤاد) أمامه في حادث سيارة. لكن هذا الحادث كان محركاً أكثر منه سبباً لأزمته، إذ هو يعمق من إحساسه بعبثية الحياة ولا جدواها وبزوال الوجود. وعندما تظهر (منيرة) فجأة بعد ذلك تكون الضوء الجديد الذي يأخذ بتبديد ظلام حياته ويأخذ به ربما جزئياً في طريق جديد مبشر بحياة جديدة. يحس (عبد الكريم) أنها البديل لصديقه، بل هو يكاد يجد صديقه فيها، ولا يعرف هو نفسه لِمَ يبدأ يحس هذا الترابط والتعويض؟ ربما لأنهما الإنسانان الوحيدان اللذان أحبهما في حياته حباً حقيقياً وغير محدود. هو يقول من البداية:
“.. لم افقد فؤاد، ولم يغب عن عالمي. كذلك لم أخنه، لم أخنه لحظة، مطلقاً. إنه يحيا، بشكل ما، في هذه المخلوقة ذات الأبعاد المبهمة التي لم آلفها. إنه يجذبني إليه من ليلي. أنا أحس به يجذبني، إنه يجذبني”- الرواية، ص29.
مع ذلك، فإن سلبيته المتمثلة في إحساسه بالتعاسة وعبثية الحياة ولا جدواها، وضياعه الداخلي لم تتذلل كلّياًّ بوجود هذا النور الجديد. فهو يجد أن إعادة تنظيم الحياة والمجتمع من خلال منظاره، بعد التمزق الذي يصيبهما، ليس أمراً سهلاً. إن إحساسه بالاندحار والخسران واليأس والعزلة عن الآخرين عميقٌ جداً، والأكثر والأهم من ذلك كله إنه يفقد الرغبة والقدرة على العيش منذ ذلك اليوم الذي يعود فيه إلى البيت لا كما يكون قد خرج.. إذ يفقد صديقه ويفقد معه الكثير:
“.. وعلمت بعد ذلك بأني قد هويت أثر اتكائي على الباب الثقيلة في نهاية المجاز المظلم. لم أكن دائخاً ولكني أتذكر جيداً بأني لم أكن راغباً في معاودة العيش كما كنت”- الرواية، ص38.
والى جانب الأحاسيس السلبية لـ(عبد الكريم) كان هناك الأمل أيضاً. صحيح أن إحساسه بالموت وفقدانه الرغبة في الحياة عميقة جداً، لكن النور الجديد يجيء مع (منيرة) ليحرك جوانب الإيجاب في حياته وشخصيته، لذا فحتى بعد زواج (منيرة) من أخيه (مدحت)، يبقى (عبد الكريم) يحس الأمل وهو يبدأ ينبض من أول يوم لوصولها البيت. وعند مقتل (مدحت) يتعزّز أمله بالبقاء قريباً منها ليبدو كأنه يسلم نفسه إليها تماماً:
“.. كنت خائفاً من كل شيء، منها ومن العالم ومن فعل الحياة، وكانت هي رغم ذلك ملجئي الوحيد. سرت ببطء شديد ممسكاً بالمحجر الخشبي. لقد تجمعت في يدها مفاتيح نفسي، هلاكي ونجاتي، ربما. كان الصمت تاماً، يلفني وأنا أدبُّ متردداً نحوها. لن تسد الباب بوجهي، لأني لا أطلب منها شيئاً. سأقف على حافة عالمها أتساءل، أتساءل فقط”- الرواية، ص346.
لقد فعل الكاتب حسناً إذ جعل هاتين الشخصيتين الرئيستين، (منيرة) و(عبد الكريم)، تتحدثان عن نفسيهما وعن عوالهما الداخلية إلى جانب نقلهما لما تشهدانه من أحداث، مستخدماً طريقة الرواية بصيغة ضمير المتكلم. ولكن يبقى غير مفهوم عدم اعتماد الكاتب لهذه الصيغة، واستخدام ضمير الغائب بدلاً من ذلك، في الفصول المخصصة لشخصية رئيسة وحيوية أخرى، تلك هي شخصية (مدحت) طالما أن العالم الداخلي لهذه الشخصية ليس بأقل أهمية وتأثيراً في الرواية من عالمَيْ الشخصيتين السابقتين(). وفي كل الأحوال ينجح الكاتب في أخذنا إلى أعماق كل هذه الشخصيات، وفي كلتا الحالتين من خلال استخدام الحوارات الداخلية والمناجاة بل حتى من خلال تلك الحوارات خاصة الطويلة، كتلك التي تدور بين (مدحت) وزوج أخته (حسين).
تنبع أهمية شخصية (مدحت) من ثلاثة مصادر: الأول طبيعة أزمته هو الخاصة، والثاني مشاركته لأزمات الآخرين، والثالثة أهمية دوره– أفعاله ومشاركاته في الأحداث– في حبكة الرواية وتطورها بشكل عام. مع هذه الشخصية نجد أنفسنا مرة أخرى مع المشكلة الإنسانية التي تواجه أغلب الشخصيات، بشكل أو بآخر، متجسدة في عبثية الحياة ولا جدواها أحياناً، والموقف الحائر من فهمها وفهم القيم والمفاهيم التي تفرضها على مجتمع ما في مكان معين وزمان محدد أحياناً أخرى. إن أزمة (مدحت) تنبع بشكل مباشر لتصعد إلى السطح من إحساسه بالعزلة عن المجتمع الذي يعيش فيه، والمجتمع هنا هو العائلة التي لا يستطيع أن يفهم هو أفرادها ومواقفهم وشخصياتهم وتصرفاتهم فهماً تاماً يستطيع أن يتخذ في ضوئه موقفاً خاصاً به من كل شخصية وكل حدث أو فعل بشكل برضاه هو ويقتنع به. والمجتمع هو أيضاً، من جهة أخرى، المجتمع الكبير الذي تعيش فيه العائلة، وهو مجتمع عراق عامي 1962 و1963، الذي ينتمي إليه والمنقطع عنه في الوقت نفسه، والمشحون بكل أسباب التأزمات، مع أنها– نعني الأزمات– في أصولها تنبع من حيرة الإنسان الأزلية في موقفه من الوجود والحياة ومن الإنسان نفسه. يقول (مدحت) مرة عن مجتمع العراق ذاك وهو يناقش زوج أخته الذي لا يقل هو الآخر تأزماً عنه:
“.. يجب أن نحدد المجتمع الذي ننتمي إليه. لا فائدة من التعميم. إنه المجتمع العراقي في سنة 1962. ولأنه مجتمع اللااستقرار، اللامستقبل، مجتمع الهاوية والتخمة والبلادة والارتعاد والحقد والنفاق، مجتمع أن تأكل بعد وجبة دسمة وألا تعلم ما يجري في العالم وأن تتعقد جنسياً بالضرورة وأن تحذر الفقر، فإنه مجتمع لا علاقة له بأفراده الحقيقيين. إنه المجتمع الذي لا يقدم لك شيئاً مقابل شروطه الغبية، لأنه ليس مجتمعاً، بل فترة زمنية…”- الرواية، ص117.
وإذ تشرق حياته هو الآخر من جديد بحب (منيرة) وعلاقته بها، ومن ثم خطوبته منها، فإن صدمةً لا يتوقعها تأتيه عنيفةً في أولى لحظات اللقاء الجسدي، لتتمزق كل اللقاءات الأخرى الروحية والنفسية..، باكتشافه فقدان (منيرة) لبكارتها، وهو الأمر الذي لم يكن قد فكر به لحظة واحدة قبل ذلك، مما أظلم الدنيا في وجهه، وهو الذي لم تكن شخصيته لتستطيع أن تتقبل مثل هذا الكسر أو الشرخ في القيم الاجتماعية المثالية المغروسة في دواخلنا، ولا حتى بالانفتاح لمحاولة فهم الجانب المقابل. وإذ تظلم الدنيا بل تصبح أكثر قتامة في وجهه من ذي قبل فإنه لا يجد أمامه إلا الانهزام، فيترك البيت هارباً من أية مواجهة صريحة مع (منيرة)، ودون أية محاولة لسماع أي تفسير منها. لكن أياماً من الهروب والعزلة المادية والروحية والنفسية تكون قادرة، في ظل أصوات إطلاق النار وقذائف الصدام الدموي الذي يدور خارجاً بين مؤيدي نظام عبد الكريم قاسم من جهة والقائمين بانقلاب شباط 1963 من جهة أخرى، تدفع (مدحت) لمواجهة النفس والمُثل وقيم الحياة والمجتمع، ليبدأ بالتساؤل الصحيح عن مكانه وسط ذلك كله، ومصيره في هذه العزلة النفسية والروحية، وبالتالي عن جوهر علاقته بـ(منيرة) التي بدت له وقد شُوّهت بفقدان ذلك الغشاء الرقيق الذي أخرجها، وفق المثل السائدة، عما يجب أن تكون عليه وهي تستقبل بجسدها زوجها لأول مرة. والواقع أن الكاتب يسير بالشخصية عبر مراحل من التغير والاكتشاف لتتجلى أمامها مثل جديدة، تبدو وكأن (مدحت) قد بدأ يخلقها لنفسه وفق وعي جديدة للأمور، ليرسم بذلك مسيرة تبدأ بمنطقة ظلماء لم يستطع فيها إلا رؤية جانب واحد مما حدث، يحمله معه وهو يهرب من (منيرة)، ولا يستطيع أن يتجاوزه أو أن يضيء ما حوله ليرى غيره، ولذا فهو يراه الحقيقة الوحيدة الثابتة، مع أن نداءً يبزغ في داخله للتأمل وإعادة النظر وتفحص كل شيء:
“… إنها دعوة لقلب الأسس. ولكن… كيف نقلب الأسس إذا كانت الحقائق ثابتة ثبات الليل والنهار؟ كيف يمكن أن يغير من أساس نظرته إلى الحقيقة القائلة بأن زوجته منيرة لم تكن عذراء حينما تزوجا؟ لم تكن عذراء.. منيرة كانت على اتصال بشخص قبله، اتصلت به ولعلها أحبته…
“إنها ليست عذراء، فهي فاقدة الشرف ويجب أن تعاقب على يديه أو على يد أي متبرع آخر من العائلة.. هذه المعادلة معروفة. إنها تضع الشرف في عضو الأنثى العذراء، وهي توكَل لها أن تحافظ عليه إلى حين من الزمن مقرر. لماذا؟ هذا بحث آخر، لا أحد يبحثه، ولكنه في صميم الموضوع…
“… كانت قد افتُضّت ودنست وكانت تعلم ذلك. كانت تعلم ذلك حين تزوجته، ولم تقل شيئاً… إنها، من خلال منظور متوطد في نفسه وفي جذوره، تعتبر قد فقدت دلالتها كامرأة في هذا المجتمع وكزوجة وكأم. فقدت دلالتها، فقدت معناها الذي يجب أن تحتفظ به، أن تتلبسه وأن تسبغه على وجودها الأنثوي. فقدت دلالتها بشكل غير مشروع. هذا هو الوضع الصحيح، فقدتها، تلك القطعة الحساسة اللعينة من اللحم البشري، بشكل غير مشروع، غير مسموح به. ذلك إنها، من الجهة الثانية، تستطيع أن تفقدها ولكن بشكل آخر.. بشكل مشروع. هنا مسألة جوهرية أخرى. إذن، الفقدان ليس أساساً ثابتاً مهماً، لأنه سيتم عاجلاً أم آجلاً، إذ لا يسمح في هذا العالم المدنس للمرأة أن تكون عذراء مرتين…”- الرواية، ص122-123.
وبمواجهة شجاعة متواضعة في البداية، يبدأ بالخروج من ظلمة المنطقة التي يحصر نفسه فيها، متلمساً الحقيقة الأصيلة وليست تلك التي فرضها مجتمع معين دون أن يكون لها تعليل مقنع ودون أن يكون له دور فيها، فيقترب أكثر فأكثر من دائرة الضوء الذي سينير لوعيه مسالك جديدة لم يكن قد فكر بها قبل قليل، وهي المسالك التي تهديه مرة أخرى إلى (منيرة) ليجد نفسه هارباً منها وهي التي يجب أن يهرب إليها..
“.. هو هارب منها، هذه هي الحقيقة الأولى، هارب من الجسد النحيل المتلاين حول جسمه، من حرارتها من حبه لها، هارب من حبيبته، من زوجته، من القبلات والابتسامات ومن نظرات الحب، من سعادته.. لأن منيرة أيضاً تلك التي منحته عيبها ومأساتها لم تختر هي بالذات أن تكون معيبة. هي، منيرته الرائعة كالسماء، لم ترد عيبها. لقد حدث لها ذلك، حدث لها، لم تفعله هي. لكنها تلك الصافية كنجمة الصباح، اختارته هو نفسه، بذاته، من أجل أن تكون له… وهذه هي دلالتها الأصيلة، وكل ما عداها أقنعة زائفة لا علاقة لها بروحها. أقنعة الفناء التي أمكنه أن يمزقها أخيراً.
“تمسك بأطراف السرير قربه، خيل إليه أن أصوات الرصاص تبتعد عنه وأن الدنيا تصمت من أجله. كان في أشد حالات الانفعال والاضطراب، غير عارف بما سيحصل له. إنها البقاء إذن، حبيبته تلك، إنها الحياة في جوهرها.
“صرخ بفرح طاغ وهو يهز السرير بعنف. صرخ هاتفاً بما لا يدري، باسمها، ربما، يناديها، بحبه لها، ربما…
“وبكى طويلاً دون أن يفارقه شعور بالفرح يفيض من داخله، وأحس بيقين أن من بين ظلام غرفته الصغيرة الكريهة الرائحة هذه سيلد فجره، فجر حياته..”- الرواية، ص363-364.
وعليه يجب أن يعيش ليرى هذا الفجر، وليستطيع العودة إلى الشيء الوحيد الذي يستحق أن يعيش ويرى فجر حياته الجديد معه، إلى (منيرة). لكن النهاية تأتي، ومثل العديد من نهايات أبطال التكرلي في قصصه القصيرة، مثل انطفاءة عود ثقاب. ففي اللحظات الأخيرة لمعاناته وصراعه الداخلي وخوفه ورغبته وتشبثه بالحياة الجديدة التي لاحت له، واحترازه من الاطلاقات والقذائف التي كانت لا تزال تملأ أجواء بغداد وشوارعها وأزقتها، كان عليه أن يعبر شارعاً بعرض خمسة عشر متراً هو العقبة الأخيرة التي عليه أن يجتازها ليصل بعدها إلى البيت. وخلال الثواني الثلاث أو الخمس التي كان يحتاجها لعبور هذا الشارع ركضاً تصيبه إطلاقة نارية طائشة تسقطه أرضاً ليلمح بعدها لمعة نور يفهم أنها تحمل الموت إليه. إن التكرلي يتألق في وصف هذا المشهد الأخير الذي تنتهي به الرواية إتقاناً وشداً واختياراً لكل فكرة صغيرة ولكل كلمة تنقل هذه الأفكار عاكساً آخر صراع تعيشه الشخصية مع هذه الحياة التي كرهتها زمناً، فما كانت تبالي آنذاك بأي شيء، بل تمنت أحياناً أن تزول من الوجود، وأحبتها هذه المرة فراحت تحسب لكل شيء ألف حساب:
“إن متسابقي مسافة المائة متر يقطعونها في اثنتي عشرة ثانية أو أكثر. لنقل خمس عشرة ثانية بالنسبة له. بكم يقطع العشرين متراً؟ التناسب طردي. خمسة عشرة في عشرين تقسيم مائة. الناتج هو ثلاثة.. ثلاث ثوان! لنقل مرة أخرى إنها خمس.. خمس ثوان وينتهي كل شيء.. أم يبدأ كل شيء؟
“… تحرك فجأة. لم يدر لماذا اختار أن يتحرك تلك اللحظة. اندفع بحماس وخفة، فلامست وجهه نسائم الليل الباردة. اجتاز الرصيف بلمحة خاطفة. لم تخذله رجلاه. لن يعتذر لها بالطبع، لتلك العزيزة، سيقول لها فقط إنه جاء إليها، من أجلها، هي زوجته، لأنه انتصر على كل أفكار الفناء فيه. بدأ الشارع المبلل وأرصفته المبلطة بالقير. كان يركض وهو يتطلع إلى الأفق وإلى انفتاح السماء فوقه، حينما شعر بلسع النار في فخذه الأيمن. لم يسمع صوت الاطلاقات النارية. انكب على ركبتيه بعنف، وكان مندهشاً مبهوتاً. لم تمر تلك الثواني الخمس من عمره بسلام إذن. أمسك بموضع الألم المهول في فخذه فتبللت أصابع يده بسائل دافئ. تلفّت حائراً. لم ير أحداً. أراد أن يهتف مستنجداً، أن يقول لهم إن عليهم أن يتركوه يحيا وألا شأن لهم بموته. رأى لمعة نور خافت في زاوية مظلمة من أقصى الجهة الأخرى.. فهم معناها. لبث منتظراً فترة زمنية لم تتجاوز عُشر معشار الثانية ودامت له دوام العالم والإنسان، ثم عرف قبل أن يفترسه الألم الرهيب في صدره وكتفه أنه لم ينجح. وتلوّى جسده الملوث بالطين والدماء يرتجف بشكل مروع على أسفلت الشارع الخالي”- الرواية، ص374.
تبقى هناك شخصيتان رئيستان أخريان تأتي أهميتهما بعد الشخصيات الثلاث التي عرضنا لها فيما سبق. أولى هاتين الشخصيتين (حسين) الذي يرتبط بالعائلة من خلال كونه زوج الابنة (مديحة)، وهو سكير وضحية أزمة، ربما مؤطرة بحدود معينة نستطيع تمييزها. ولكنه، إضافة إلى ذلك، مثقف وواع للكثير مما حوله مما لا يعيه الآخرون. بعبارة أخرى، وأهم من ذلك كله، هو شخصية غير مفهومة من أغلب الشخصيات الأخرى التي لا تراه إلا مدمراً لنفسه بسكره وبطالته الاختيارية. إن (حسين) بخصائصه المختلفة والمتنافرة، لهو شخصية فريدة في القصة العراقية ومعالجة الكاتب لها معالجة ذكية وفريدة بين معالجات القصاصين والروائيين العراقيين للشخصيات. (حسين) يبقى برأيي من الشخصيات القليلة التي لا تُنسى أبداً، رغم سلبيته الظاهرة التي هي، رغم كل ما يمكن أن يقال عن مسؤولتيه عنها، مفروضة من الخارج أكثر من كونها نابعة من طبيعة شخصيته. وهو كما أراه في الرواية الجوهر للحياة خارج البيت، في الوقت الذي تمثل فيه (منيرة) الجوهر النقي في الداخل، ولذا كان طبيعياً أن يميل بمركبه نهاية الرواية نحو بر الأمان بعد أن تدفعه رياح الظروف والمجتمع بعيداً عنه. وقبل ذلك كان مفهوماً كلامُ حميه له، رغم هجره لزوجته وابنتيه ورغم كونه سكيراً وعاطلاً، حين يقول له حموه:
“- آني أعرفك زين. أنت نفسك طيبة وشهم وتخاف من ربك…
“- لاكت[لكن] الظروف تدخل أحياناً بحياة بعض الناس وتغيرها بلا ما يردون. بس الله سبحانه وتعالى يخلي بكلوبهم [بقلوبهم]، رغم تقلبات الدهر، الشفقة والرحمة والمحبة، لأن هم من الأصل أشراف ومنبتهم طيب، أنت يا حسين الله سبحانه وتعالى وضع ابني مدحت أمانة بعنقك… أمانةً الله خلاه [وضعه] بعنقك سيد حسين.. دتفتهم؟ أمانة أنت مسؤول عنها”- الرواية، ص292.
ثاني الشخصيتين، اللتين نتحدث عنهما هنا، هي (سناء) الابنة الصغيرة لـ(حسين) وأقرب أفراد العائلة– ربما باستثناء (عبد الكريم) و(مدحت) لفترات– إلى (منيرة). إن (سناء) كما نراها هي استمرارية الحياة في العائلة. وإذا ما أخذنا بنظر الاعتبار الدلالات العميقة غير الظاهرة في معظمها لـ(منيرة) و(سناء) ودلالة أسميهما وعلاقتهما ببعض وعلاقة الاسمين، فسيمكننا ملاحظة جمالية هذه العلاقة بين الاثنتين اللتين يبدو أنهما الوحيدتان اللتان تستحقان بحق العيش بين أفراد العائلة الغارقين في سلبية المواقف والعجز والتأزمات. ويتجسد جمال العلاقة بين (منيرة) و(سناء) من خلال إعجاب الصغيرة بـ(منيرة) وحبها الطفولي النقي لها والذي لا يعرف أية حدود أو تحفظات، وثقة الأخيرة بالمقابل بـ (سناء) واعتمادها غير المقيد عليها في تنفيذ ما تحتاجه وتلبية متطلبات بعض ظروفها. إن سعادة (سناء) تنبع غالباً من سعادة (منيرة)، والأخيرة لا تتردد بدورها في منحها مثل هذه السعادة:
“كانت سناء تجلس على كرسي عتيق مغطى ببطانية حمراء.. لن يمكنها هذه الليلة أن تحدث أبله منيرة على انفراد. قامت من مكانها واستلقت على فراشها. سرت في جسدها نشوة ارتياح شديد ولذَّتْها لمسةُ اللحاف الباردة لذراعها. ستراها غدا وتخبرها بما جرى. غداً، ستراها بالتأكيد، ستخبرها بما جرى وستضحك طويلاً إذ تقص عليها كيف جرت أباها من ذيله.. من سترته. ستضحك أبله منيرة وستسعد هي كثيراً برؤيتها تستغرق في الضحك. ستسعد كثيراً”- الرواية، ص300.
تكتسب الشخصيات الثانوية معانيَ وأهمية مرحلية أو دائمة أحياناً، ومن خلال علاقاتها بالشخصيات الرئيسة أحياناً أخرى، أو من خلال كون بعضها أجزاءً ثانوية وخلفيات للصور التي تقدمها الرواية أحياناً ثالثة. من هذه الشخصيات: العجوزان– جدة مدحت وعمته– اللتان تمثلان بحق التشبث الغريزي للإنسان بالبقاء، فالشيء الوحيد الذي تجيدان عمله هو الأكل والشرب أو الشكوى متى ما تأخرت وجبة الطعام أو أقداح الشاي، إذ يعلو صراخهما بشكل ساخر ومضحك ظاهرياً وتراجيدي عمقاً ودلالة. والواقع أن هناك العديد من الشخصيات الأخرى والمواقف ذات المدلولين الظاهري والعميق، فهناك أيضاً الرجل الكبير المخبول وزوجته العجوز اللذان يعيش (حسين) في إحدى غرف بيتهما ويقضي (مدحت) معه فيها أيام هروبه من مواجهة (منيرة). ويجب أن لا ننسى أيضاً والدَيْ (مدحت)، واخته (مديحة) زوجة (حسين)، و(عدنان) ابن أخت منيرة ومغتصبها ووحش الرواية والممثل لجانب من جوانب المرحلة التي تناولها العمل، إضافة إلى زملاء (حسين) في الشرب.
إن الوسيلة الرئيسة التي استخدمها الكاتب في رسم هذه الشخصيات وفي تقديم عوالمها الداخلية وفي المسير بالرواية وأحداثها، والتي هي بالطبع أفعال هذه الشخصيات والأحداث التي تقع لها، نحو النهاية هي تيار الوعي بتقنياته أو أساليبه التقنية المختلفة. فلم تكن بنا حاجة إلى أن يصف لنا المؤلف أياً من شخصياته بشكل مبارشر لنتعرف على طبيعتها أو أزمتها أو الإشكالية التي تمر بها، ولا حتى شكلها. فإذ يتم ذلك عن طريق الحدث والفعل وطريقة التفكير والسلوك، أو عن طريق الشخصيات الأخرى في مرات تتالى في الرواية، فإن تداعياً واحداً لشخصية ما وما ينساق مع هذا التداعي من حوارات داخلية ومناجاة وحتى ما وصف المؤلف الكلي المعرفة يكون كافياً أحياناً لاستقراء هذه الشخصية عموماً أو ضمن ظرف معين، كما رأينا ذلك في بعض ما عرضناه من أمثلة عن (سناء) و(حسين) و(منيرة) و(مدحت)، وكما في الكثير مما يدور عن (عبد الكريم) كما في المثال الآتي المقدم عن طريق وجهة نظره:
“عدت داخلاً الدار مخترقاً المجاز الضيق بخطوات غير متوازنة، وعلمت بعد ذلك بأني قد هويت أثر اتكائي على الباب الثقيلة في نهاية المجاز المظلم. لم أكن دائخاً، ولكني أتذكر جيداً بأني لم أكن راغباً في معاودة العيش كما كنت”- الرواية، ص38.
والمثال الآخر المقدم من وجهة نظر (مدحت):
“لمح شبحاً يقف بسكون في الطارمة أمام غرفته إلى اليسار، تعرف فيه على أخيه عبد الكريم، كان يتطلع نحو الجهة التي تنبعث منها ضوضاؤهم، منحني الظهر، يستند على المحجّر. فاض قلبه بالشفقة عليه. كم يبدو مرهقاً مستنزف القوى؟ أين ستنتهي به طريق الحياة الموحشة هذه!”- الرواية، ص25.
**
لا أظن أننا نحتاج، للتدليل على حِرَفية ودقة استخدام تقنيات تيار الوعي في سير الأحداث، إلى أن نتعرض إلى أمثلة هنا، فجل الاقتباسات السابقة تعكس ذلك بوضوح. ولعلنا لا نبالغ إذا ما قلنا إن فصولاً كاملة تقريباً قامت على ذلك، مثل الفصول الثاني والرابع والخامس والتاسع والعاشر والثاني عشر. كما لم تدخل غير أساليب تيار الوعي في الفصل الثاني عشر إلا بشكل طفيف جداً. وتيار الوعي يحقق هنا كما، هو واضح وكما قد يفعل بشكل عام في انطلاقه من دواخل الشخصيات، ثلاثة أهداف، هي “السير بسلسلة الأحداث، وكشف النفوس (الدواخل) السرية للشخصيات، والتعليق على الأحداث والشخصيات الأخرى”().
بقي أن نقول إن ذلك كله، إضافة إلى الموضوع الصعب والشخصيات المعقدة، لم تمنع فؤاد التكرلي من استخدام لغة بسيطة في مفرداتها ولكن متماسكة في تركيبها، وهو دقيق ومصيب تماماً في استخدام اللفظة الصحيحة في المكان الصحيح والملائم للموقف والفكرة والشخصية، سواء أكان ذلك في وصفه أم في الحوارات الداخلية أم في الحوارات الاعتيادية أم في السرد. ويجمع ذلك كله أسلوب رائق وقوي يمسك بتلابيب القارئ ولكن برفق. لكن نقطة واحدة نسجلها بخصوص الحوار، ربما يجدها بعض النقاد والدارسين مأخذاً أو سمة سلبية، تلك هي استخدام الكاتب للهجة العامية المعقدة والغارقة في غريبها وعويصها أحياناً، والتي قد تبدو صعبة الفهم حتى للقارئ العراقي. إن التكرلي في اعتماده على مثل هذه الحوار يعكس فكرةً مفادها أن “في القصص كما في الحياة يميل رد فعلنا تجاه الناس إلى أن يقوم على الطريقة التي بها يتكلمون. فبإمكان ثرثرة في طابور في موقف باص أو سوق مركزي أن تعطينا فكرة واضحة عن المكان الذي أتى منه الشخص وعن تربيته وعن عمره التقديري.. وهكذا.. حتى مع أننا قد لا نرى المتكلم أبداً”(). فيبدو التكرلي وكأنه قد انطلق من هذه الفكرة أو حاول أن يجسدها عبر شخصياته، مع ذلك يُبقي المأخذ وارداً على الأقل بسبب استخدام الكاتب للهجة ذات مفردات صعبة وغارقة في غرابتها، كما سبق أن نوهنا إلى ذلك، وليس مقنعاً، من وجهة نظري، أي مبرر فني أو موضوعي أو شخصي يرتئيه الكاتب لذلك.
شيء واحد بقي للمرء أن يؤشره بالنسبة لرواية “الرجع البعيد”، ذلك هو العناصر الرمزية التي من السهولة على النقاد والقراء عموماً أن يتلمسوها. والواقع أننا يجب أن نقول إن هناك بالتأكيد رموزاً، ولكن يجب أن نضيف أيضاً القول ليس هناك من هذه الرموز ما هو متكلف أو محمل على الرواية، بل هي اكتسبت رمزيتها بشكل تلقائي وعفوي والأهم مقنع. ولعل أوضح هذه الرموز ما يمكن تحسسه في بعض الشخصيات وعلاقاتها وأسمائها، مثل (منيرة) و (سناء) اللتين تبرز دلالات علاقتهما وأسميهما ودوريهما واضحة إلى حد بعيد، كما أشرنا إلى ذلك من قبل. وهناك أيضاً (عبد الكريم) الذي منحه الكاتب اسم عبد الكريم قاسم، رئيس وزارء العراق وحاكمه بعد ثورة تموز 1958. ومع أن هذا من الممكن أن يؤخذ على أنه صدفة، إذ ليس هناك ما يمنع ذلك، وليس في ظاهر الشخصيتين ما يجمع بينهما، فإننا نجد (عبد الكريم) نفسه يفكر في أواخر الرواية رابطاً بينه هو نفسه وبين قاسم:
“… ذلك اليوم، بعد الظهر، والمطر يتساقط إثر الإعلان عن إعدام عبد الكريم قاسم، شعرت بطعم غريب في فمي، وقلت في نفسي إني سأموت عن قريب”- الرواية، ص330.
والواقع أني لم أستطع أن أجد سمات حاسمة تدفع بالشخصية أو الكاتب إلى هذا الربط.
أخيراً يمكننا أن نخرج من الرواية بنتيجة صريحة ترسخت أمامنا بعد عدة قراءات لها، تلك هي أن “الرجع البعيد” واحدة من أكثر الروايات العربية توفيقاً ونجاحاً وقيمة، بل ربما هي تمتلك أوفر الخصائص والمواصفات التي تجعلنا نضعها، بدون تردد، إلى جانب الروايات العالمية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ربما يكون فؤاد التكرلي متأثراً بدرجة أكبر من جبرا بفوكنر، وتحديداً في أجواء روايته “الرجع البعيد”. ومع أن هذه الرواية ترتبط، من هذه الناحية، بـ”الصخب والعنف” أكثر مما هي عليه مع أي من روايات فوكنر الأخرى، كما سنبيّن ذلك بعد قليل، فإن المرء ليتحسس أجواء أعمال أخرى لفوكنر، وبشكل خاص “الحرم”. إنّ أزمات الشخصيات الفوكنرية تبرز في رواية التكرلي، وفي مشاهد وأماكن كثيرة من رواية “الرجع البعيد”، وربما كان واحداً من المشاهد الجديرة بالاستذكار هنا ذلك الذي تُغتصب فيه (منيرة) على يد ابن أختها (عدنان):
“أزاحت القماش بسرعة عنها فرأت وجهه قريباً من وجهها. أنفاسه الحارة كالشمس تلفح بشرتها… ثم استطال الزمن واستطال. كانا متلاصقين. شعرت بصدرها مضغوطاً على صدره، وأنفاسُها المتلاحقة تدفع نهديها بشدة نحوه… كان يشدها إليه بقوة ويحاول أن يحتوي جسدها بفخذيه العريضتين؛ وكانت في شك من كل شيء، مترددة في تقدير حقيقة الموقف. وأراد أن يقبلها فأبعدت فمها عنه؛ وأحسّت حالاً، في موضع آخر من جسمها، بحركة منه تشير إلى حالة غريزته وما يضمره لها… دفعته برخاوة، مشمئزة بعض الشيء من الفكرة التي خطرت لها. زادت مقاومتها من التصاقهما ومن احتكاكه بأسفل بطنها. كانت أطرافها متشنّجة وقلبها المتعب يخفق بقوة لم تعهدها. دار رأسها لحظة وهي تحدّق، عن قرب، في عينيه المتوهجتين وفي فتحتي أنفه الواسعتين، وتشمّ رائحة العرق في جسمه الحار. أمسكت بكتفيه تريد أن تعاود محاولتها للخلاص من قبضته، فشعرت بجسدها يُهصر بعنف شديد وبفمه يلتصق بفمها. ارتجفت، ارتجفت، ثم زفرت وتلقفت نسمة هواء تمنع عنها الاختناق. كانت، لحظتئذٍ، في كامل وعيها بما يجري لها. تسلسلت الأحداث سريعاً في ذهنها، فباغتها هلع زاد من ارتجافها. صرخت بشيء ما لا تتذكره، ثم ترامت فجأة تحت ثقله. كان، في ارتكازه عليها، قد سحب إحدى رجليها وهو يضمّها إليه باستمرار. لم تشعر بألم السقطة على الأرض قدر شعورها بعري فخذيها وبمهانتها وضِعتِها… كان يرفع ملابسها فضمّت ساقيها إلى بعضهما، ثم وجهت إلى رأسه، المدفون في رقبتها، ضربة من قبضة يدها. تراجع قليلا، رأته، رأته. وجه مجنون يقتتل طلباً للفريسة. صفعها ثم لطمها في حنكها. تراخى جسمها، تراخت لحظات دائخة بتأثير ضربته. انفتحت ساقاها بسهولة وأنزل ما تبقى من ثيابها وتركت لها ثانية واحدة من الشعور العميق، العميق جداً، بما يحدث لها، كانت، بلا أمل، على مشارف الانتهاء. تركزت حياتها كلها في هنيهة اندمج فيها عريها وبكارتها والدوار الوحشي في داخلها، فاستسلمت”- الرواية، ص200-201.
فبالإضافة إلى بشاعة الموقف وعنف الاغتصاب والوحشية التي تسود الحدث، فإنه يرتبط شكلاً أيضاً بمشهد اغتصاب (تيمبل) Temple بكوز ذرة على يد (بوبي) Popey في رواية “الحرم”:
“حين وضع يده عليها، أخذت تنشج… سحب الأغطية بحركة سريعة وطرحها جانباً. استلقتْ بلا حراك، ارتفعت راحتا يديها، وانكمش ذلك الجزء من جسدها المغطّى بالسروال بشكل عنيف، مثل أناس خائفين وسط حشد كبير. وعندما مد يده مرة أخرى اعتقدت أنه في سبيله لضربها. ثم رأت، وهي تراقب وجهه، أنه قد أخذ يرتعش ويرتج مثل وجه طفل على وشك البكاء، وسمعته يبدأ بإحداث صوت نشيج. أمسك بقمة ثوبها فقبضت على معصميه، وراحت تتقلب على هذا الجانب وذاك فاتحة فمها لتصرخ. أطبق يده على فمها، ثم، وهي تمسك بمعصمه، واللعاب يسيل بين أصابعه، وجسدها يتقلب بعنف من فخذ إلى آخر، رأته رابضاً بجانب سريرها، وقد لوى وجهه على حنكه غير الموجود، وشفتاه الزرقاوان نتنان وكأنه ينفخ على شوربة حارة، محدثاً أنيناً كأنه حصان”().
والواقع أن بإمكان المرء أن يلحظ غير قليل من الشبه بين (عدنان) و(بوبي). وعموماً، وكما يشير فولب، فإن التصادم بين شخصيات فوكنر الذكية والحساسة والمثالية ومجتمع القرن العشرين هو وراء العنف والوحشية والشر في أعمال فوكنر القصصية، فمعظم موضوعاته الرئيسة ترتبط بشكل أو بآخر بهذا التصادم أو هذه المواجهة(). والكثير من ذلك يقف خلف أغلب ما أبدعه التكرلي في روايته، وفي عموم قصصه، من أحداث وموضوعات، و– بشكل خاص – شخصياته، من أمثال (مدحت) و(كريم) و(حسين) في “الرجع البعيد”، و(محمد جعفر) بطل روايته القصيرة “الوجه الأخر”. وسيتضح هذا الأمر أكثر حين نأتي إلى المقارنة بين “الرجع البعيد” و”الصخب والعنف”.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قد يصرف بعض الكتاب النظر عن دراسة تأثير عمل معين لكاتب ما في عمل أو أعمال كاتب آخر، حين يصرح هذا الأخير مثل تصريح فؤاد التكرلي الذي يقول فيه، مبعداً احتمال تأثير “الصخب والعنف” في أعماله: “أمّا علاقتي برواية (الصخب والعنف) لفوكنر فلا أظنها علاقة وطيدة أو مؤثرة أكثر مما يجب. قرأت هذه الرواية بترجمة الأستاذ جبرا وقت صدورها، ولم أعد إليها مرة ثانية. ورغم إعجابي ببعض أقاصيص فوكنر، إلاّ أني أراه غامضاً أكثر مما يجب في تناوله لمواضيعه الروائية”(). فكما أن تصريح كاتب معين بإعجابه بكاتب آخر أو حتى بتأثره به لا يعني بالضرورة أن يكون هناك تأثير فعلاً، فإن إبداء عدم الإعجاب ونفي التأثر لا يعني أيضاً عدم وجود التأثير والتأثر. إن تأثير “الصخب والعنف”، برأيي، يظهر في “الرجع البعيد” على شيء من الوضوح، كما سنحاول إثباته من خلال مقارنة الروايتين.
من المفيد أولاً أن نلقي نظرة عامة على رواية فؤاد التكرلي، لنستطيع أن نضع أصبعنا على مواضع التشابه بينها وبين رواية وليم فوكنر، والتي نرى بعضها وليدة التأثر. إن “الرجع البعيد” عمل تراجيدي، ويمكن النظر إليه من ثلاث زوايا مختلفة. فهي، أولاً، القصة الحزينة لـ(منيرة) التي عانت المأساة وكافحت بشجاعة للتغلّب عليها وبدء حياة جديدة في العالم الذي تعيش فيه. والرواية هي، من زاوية ثانية، قصة مجموعة من الأفراد– اختارهم الكاتب– وكأنهم يمثلون في دلالة شخصياتهم الشعب العراقي في مرحلة بعينها من تاريخه الحديث، وإلى حد ما المعاش. وهي، ثالثاً، مأساة الإنسان بشكل عام مع الحياة ومع الزمن. والرواية، بعد هذا، “خلاصة حيّة وأمينة لأفكار كاتبها وتعبير فني واع لتأملاتها في الحياة والإنسان والبيئة والتقاليد وقضية الحرية والعدالة().
وإذا كان من الصعب وضع اليد على نقاط بعينها تأثّر فيها التكرلي بفوكنر من ذلك كله، فإن المرء يستطيع، مع هذا، أن يستشعر صدى “الصخب والعنف” في عالم “الرجع البعيد” ككل. وهنا نزعم أن التعرّض لجوانب بعينها من الرواية، كالتقنية والشخصيات، بحثاً عن اللقاء بينها وبين ما يقابلها في رواية فوكنر، تمكّننا من إعطاء بعض الأمثلة المحددة للتأثر.
مع أن بناء “الرجع البعيد” وتقنيتها يختلفان عن بناء “الصخب والعنف” وتقنيتها، يُلاحظ أن التكرلي قد قسم روايته إلى فصول وزعها على بعض شخصياته، معتمداً، في ذلك، تقنيات تيار الوعي بشكل كبير، وهما حقيقتان أو مَلمحان يبرزان ضمن أهم الملامح الفنية لرواية فوكنر، مما يؤشّر، بعد الجو العام للروايتين الذي أشرناه سابقاً، من أولى احتمالات التأثير والتأثّر. ومن هنا فقد برزت مؤشرات التشابه، والتباين في الوقت ذاته، في بعض جوانب ذلك، كالزمن مثلاً. والواقع أن الإحساس بالزمن واضح جداً في كلتا الروايتين، فهو موجود في “الرجع البعيد” كحقيقة طاغية على عموم الرواية وفي وعي أغلب شخصياتها. وتتجسد حركة الزمن من خلال وسائل مختلفة، مثل الشمس:
“كانت أشعة الشمس على (التيغة) العالية حمراء ذابلة”- الرواية، ص57().
والساعات اليدوية أو الجدارية ودقات ساعة الجامع القريب (الشيخ):
“دقّت الساعة عدة دقات. حوالي الظهر”- الرواية، ص316().
ومن خلال وعي الشخصيات به:
“ولكني اعتقد أني أخلط في الترتيب الزمني لأفكاري، لأني أتذكر جيداً أني كنتُ أداور هذه الفكرة عن الأرض التي ستبرد وعن الموت، أثناء رجوعي بعد الانتهاء من الامتحان وليس قبله”- الرواية، ص157().
وقد تتداخل بعض هذه الوسائل مع بعضها الآخر أحياناً:
“طرقت أذنيه، وهو يصعد درجات السلم إلى السطح، دقات ساعة الشيخ متأنية متراخية. لم يُحصِها، كان يستمع إليها فقط. وحين انتهى من ظلام السلم وضاعت عيناه في سماء تزدحم بنجوم خافقة النور، بدأت الساعة تعيد دقاتها المنغمة الرقيقة”- الرواية، ص139.
ويلاحظ على الزمن، في علاقته بشخصيات الرواية، أنه يملأ أحاسيسها دائماً، وهي تعيش، في الوقت ذاته، حالات انفصال عنه. هي واعية دوماً لحقيقته، ولكنها لا تتّبع حركته المنطقية أو الحقيقية. وهنا تختلف شخصيات التكرلي عن تلك التي نجدها في رواية فوكنر، إذ تعيش الأخيرة مع الزمن وتحسّه وتحس حركته وتعجز عن التخلص منه، أو على الأقل تناسيه. ومع وجود الإحساس بالماضي والحاضر في كلتا الروايتين، فإنه واضح وفعّال في دواخل شخصيات فوكنر وسلوكها أكثر منه في دواخل شخصيات التكرلي. وعلى أية حال إن تأثير الزمن في الكاتب العراقي متحقق في كتابة الرواية وخلق شخصياتها، بشكل أو بآخر وبدرجة أو بأخرى، من خلال تأثره بمعالجات الكاتب الأمريكي له، مع بقاء خصوصية نظرة روائيّنا وتميّزها عن تلك التي لدى الروائي الأمريكي.
ويبرز التشابه والتباين في جوانب أخرى من الروايتين، كاستخدام الحوار الداخلي والتداعي الحرّ للأفكار. والواقع أن هاتين الوسيلتين من الوسائل الرئيسة في تقنية كلا العملين، ولكن التداعي حرُّ في “الصخب والعنف”، خصوصاً في قسمي (بنجي) و(كوينتن)، أكثر منه في “الرجع البعيد” الذي يبدو فيها أكثر ترتيباً وتنظيماً، إذ يُقدَّم من الكاتب بشكل مباشر– استخدام ضمير الغائب– أو غير مباشر– استخدام ضمير المتكلم.
وإذا ما أتينا إلى الشخصيات، وهي عندنا الجانب الذي يبرز ضمن جوانب تأثّر التكرلي الرئيسة بفوكنر، لوجدنا شخصية (كوينتن) مرة أخرى من أكثر الشخصيات الفوكنرية تأثيراً في شخصيات “الرجع البعيد”. إن أصداء هذه الشخصية تتردد، بشكل أساس، في شخصية (مدحت)، وبدرجة أقل في شخصية (كريم) وربما بشكل محدود في شخصيات أخرى. إن (مدحت) مثقف وواع، ويعرف أكثر مما يعرفه الإنسان الاعتيادي في المجتمع الذي يعيش فيه، ولعله يتمثّل انفتاحاً حضارياً محدوداً يتناسب مع هذا الوعي. ولكنه مكّتفٌ، في الوقت ذاته وفي وعيه وأكثر من ذلك في لا وعيه، بالقيم والأفكار التقليدية، وفي هذه النقطة بالذات تبرز أزمته التي تقوده في مسيرة المأساة التي رسمت جزءاً من خطوط الرواية. إنه يعيش حالة تناقض وصراع، مرير أحياناً، بين المثال الذي تعلّمه ووعاه ويريد أن يطبقه من جهة، والواقع الموزع ما بين مفردات العالم غير المتناسب مع ذلك كلّه وترسبات قيم قديمة لم تنمحِ إلاّ ظاهرياً من شخصيته من جهة أخرى، بل إن ترسبات القيم القديمة هذه تكاد تبرز أحياناً لتسيطر وتكون هي المثال الذي يحرص، مجبراً تقريباً، على الحفاظ عليه وتسييده، لكنه معتاد، على ما يبدو، وإنْ بصعوبة، على النجاح في كبتها. وحين نقول إنه ينجح في كبتها بصعوبة، فإننا نعني ضمناً أنه معرض للإخفاق في هذا متى ما دخلت على خط الصراع قوة فعل مؤثر غير عادي، وهذا ما يحدث فعلاً حين تتفجر هذه الصراعات عنيفة، بعد سبات، حين يواجه أصعب قضية وحقيقة في حياته، باكتشاف فقدان زوجته (منيرة) لعذريتها. إن موقف (مدحت)، كما عرضنا له في فصل سابق، تجاه (منيرة) وتجاه هذه القضية، وفي هذه المرحلة، ثم انطلاقه هارباً– نحو الموت– هما الجانبان الأكثر تدليلاً على ما في (مدحت) من استيحاء الكاتب لشخصية (كوينتن). فعندما يكتشف (مدحت) أن زوجته ليست عذراء، يهرب من البيت وقد هيمنت نظرته المثالية إلى القيم والمجتمع والتي كانت في قاع دواخله، وبضغط من الصراع النائم والقوى المكبوتة في قاع دواخله، وقد صعدت مع أول مواجهة قوية مع ما يحاول تحطيمه وتجاوزه، الذي هو هنا قضية فقدان البكارة قبل الزواج، الذي رآه (مدحت)، وفق هذه النظرة المثالية– التقليدية، قمة (العيب). وبسبب من وعيه المكتسب في مرحلة ما بعد طوفان النظرة التقليدية أو المثالية، فإنه يقف عاجزاً عن إنزال عقاب يفرضه العرف والتقليد والمثال القديم والآخرون بـ(منيرة). إذ يحتدم الصراع في داخله بين هذين النقيضين، فيكون التنفيس عن هذه القيم المترسبة في قاع عقله عن طريق الحلم:
“كانت تقف قرب جدار من طين. كلا. أخذت أنفاسه تتسارع، جرّها، أمسك بها وهو ينظر في وجهها.. فمها المقوّس الشفتين مع مسحة من التصميم عليه، ولم يظهر عليه ما كان ينوي القيام به. وطافا زمناً، لا يعلم أين ولا كيف، حتى وصلا جدار الطين، فشهر عليها عند ذلك خنجره. لم يعد يرى وجهها بعد ذلك. حتى الحاجبين الدقيقين اللذين مزقهما، لم يرهما فوق عينيها. كانت عيناها أحب إليه من كل شيء في الدنيا حتى في عقله اللاواعي المخل. وكم ابتسمت حين كان يقبلها في عينها، في طرف عينها اليسرى الكحيلة، وراح بعدئذ يمزّق الصدر والبطن، تحت جدار الطين القذر ذاك. ولم يصفق له أحد، لم يصفق له أحد”- الرواية، ص306.
والحلم يذكرنا بمحاولة (كوينتن) الفاشلة لقتل أخته (كادي) بعد أن تُمزّق، بفعلِ فقد البكارة غير المشروع، مثالَه العرفي:
“عندها جعلتُ أبكي ولمستني يدها ثانية وجعلت أبكي ووجهي على قميصها ثم استلقت على ظهرها وانطلقت نظراتها بمحاذاة رأسي نحو السماء فرأيت مداراً من البياض تحت بؤبؤ عينيها وفتحت سكيني… ووضعت رأس سكيني على حنجرتها. لن تستغرق إلا ثانية فقط ثم أطعن حنجرتي أطعن حنجرتي
…
بعدها
المسيها بيدك
ولكنها لم تتحرك وكانت عيناها مفتوحتين باتساع تنظران بمحاذاة رأسي إلى السماء…”().
ولـ(مدحت) هنا موقف تجاه (منيرة) مشابه إلى حدّ كبير لموقف (كوينتن) تجاه (كادي). فكما رأى (كوينتن) في أخته رمزاً للجنوب القديم النقي ورمزاً للشرف والقيم القديمة التي كانت لهذا الجنوب فلُطِّخت وأفسدت، فإن قيم (مدحت) القديمة، عندما عامت على سطح عقله، جعلته يرى في زوجته وحبيبته شرفَه المُلوَّث والمثال القديم الذي مُسخ. أما أن يظهر الفرقُ في تفاصيل وتطور القضيتين، أحداثاً وتفكيراً لكل من الشخصيتين، فأظنّه أمراً طبيعياً، ما دام التكرلي لم ينطلق مقلداً، بل معالجاً معالجته الخاصة، مع إيجابية تلقيه، في ذلك، للتأثيرات التي هي غالباً في لا وعيه. ومع ذلك، فحتى هذا الافتراق في خطّيْ الكاتبين هنا لم يوقف اللقاء تماماً. يعجز بطل فوكنر عن مقاومة مشاعره وأحاسيسه المعذِّبة، ويندحر أمامها فاشلاً في الحدّ من ضغطها، الأمر الذي يدفعه إلى الانتحار ناشداً فيه خَلاصَه. أما بطل التكرلي فيقاوم مشاعره الأولى بعد اكتشاف فقدان (منيرة) لبكارتها ولا يستسلم لها إلاّ مدة قصيرة، لينتفض بعدها مفسحاً مجالاً للصراع في داخله بإرادته. لكن المفارقة المأسوية تكمن في عدم نجاح (مدحت)، مع ذلك، من النجاة، فيكون الموت بانتظاره، ويقُتل بإطلاقة نار عشوائية؛ وهنا يعود اللقاء مرة أخرى بين مأساتي الشخصيتين. إن رحلة (مدحت) عائداً إلى بيته، والتي تنتهي بموته، تحمل في طياتها الكثير من أجواء رحلة (كوينتن) نحو النهر الذي يضع فيه نهاية لحياته، بل حتى في بعض تفصيلات هذه الرحلة. وتتمثل بعض هذه الأجواء والتفصيلات في مشاعر كل من الشخصيتين تجاه الزمن، مع افتراقهما في تطور هذه المشاعر، وفي إحساسيهما به- نعني بالزمن، إضافة إلى سيادة الحوارات الداخلية، ثم نهايتيهما– بالموت – بل حتى مقابلة (مدحت) للفتاة الكردية الصغيرة وانزعاج أخيها– على ما يبدو– من كلامه معها، تذكرنا بحادثة تورّط (كوينتن)، وهو في طريقه إلى النهر، بالفتاة الإيطالية وتعلقها به ثم ثورة أخيها عليه. وإذا كانت هاتان الحادثتان لا تقدمان دليلاً على التأثير والتأثّر، فإن ما عرضناه قبلاً من أوجه التلاقي بين (مدحت) و(كوينتن) لهي أكثر من مجرد مصادفات، خصوصا أن تلاقي الروايتين، والشخصيات بشكل عام، لا يقف عند هذه الحدود، كما قلنا سابقاً. كما أن أصداء شخصية (كوينتن) تظهر بدرجة وبأخرى في شخصيات تكرلية أخرى، مثل (كريم)، في إحساسه بالزمن وهاجسه المزمن بالنهاية، ومشاعره تجاه (منيرة)، وهي أمور ربما يكون في التعرض لها تكراراً لما قلناه في بحثنا لمثل هذا التأثير في شخصية (كوينتن).
شاهد أيضاً
دراسة عن دروب وحشية
تشكلات البناء السردي في رواية دروب وحشية للناقد نجم عبد الله كاظم أنفال_كاظم جريدة اوروك …