فؤاد التكرلي: الوجه الآخر
نص دراستي للرواية في كتاب “التجربة الروائية في العراق في نصف قرن”
إن قراءة نقدية أو تذوقية مجردة لرواية فؤاد التكرلي القصيرة “الوجه الآخر”- 1960- تكشف للمطلع على مسيرة الأدب القصصي العراقي عن قيمتها غير الاعتيادية وعن كونها، بدون نقاش، أفضل عمل قصصي طويل فنّاً ونضجاً وموضوعاً واقتراباً من الفن الروائي واستيعاباً للمؤثرات الأجنبية المتمثّلة، بشكل خاص، بالأدب القصصي الفرنسي، وبالتخصيص الوجودي، وبكتابات تيار الوعي بشكل عام. وإذا كان لمثل هذه التأثيرات أنْ ظهرت قبل ذلك بسنوات عدة، في أعمال عبد الملك نور ونزار عباس، إضافة إلى التكرلي نفسه وآخرين، فإنها تظهر لأول مرة في عمل عراقي طويل، فعززت من نضج هذا العمل ومستواه غير الاعتيادي، كما صبغت العمل، بالنتيجة، بصبغة خاصة ستبقى واضحة وربما غالبة في أعمال التكرلي التالية، دون أن تدل على أي تقليد، ولو بسيط، من جانب الأديب، لأي عمل أجنبي، بقدر ما أنه قد استطاع أن يستقي الفن من مضانه ويستوعب أسراره ويوظف ما عرفه لتطوير فنه، وبالتالي إنجاز ما أنجز من قصص قصيرة وطويلة ستبقى نقاطاً مضيئة في تاريخ الأدب القصصي العراقي زمناً طويلاً. وقبل التعرض لموضوع “الوجه الآخر” ومضمونها وفنها لا نريد أن نسلّم لها بانتماء نوعي، مع أن ذلك، أياً كان، لا يقدم من قيمته ولا يؤخره.
إذن أياً كانت درجة الاقتراب أو الابتعاد عن الفن الروائي، “يدخل التكرلي في قصته (الوجه الآخر) عالم الرواية، متخطياً عالم القصة القصيرة الضيق”()، على حد تعبير الدكتور عبد الإله أحمد. لكن الكاتب نفسه كاتب يدرك طبيعة عمله فيها، حين يذكر، لمجلة (14 تموز)، أنه يعتقد “أن الرواية هي الشكل الأدبي الوحيد الذي يمكن بواسطته التعبير بشكل واسع عن وجهة نظر معينة للحياة أو عن صورة الإنسان في مجال محدد. فإن كتابة رواية عراقية هي من أهدافي الفنية. ولقد بدأت في تنفيذ هذا الهدف على مراحل أولها (الوجه الآخر) التي هي تجربة أو محاولة نحو كتابة رواية ناجحة…”(). ومن هنا، وانطلاقاً من وعي التكرلي هذا لما يفعله ولإدراكه الناضج لطبيعة الفن الروائي، ولما يجب أن يُعدّ له، فقد جاء أدق وأنجح وأقرب الخطوات إلى الفن الروائي، إن لم يكن عملاً روائياً فعلاً. كما يبقى أمر عدّه ضمن هذا الفن مقبولاً جداً ومقنعاً تماماً حتى وإن انطوى ذلك على قليل من التجاوز، يعزز ذلك ما حققه العمل ذاته فنّاُ وموضوعاً ومعالجة. وللتعرف على ذلك ، لنتعرف أولاً على مضمون الرواية وخطّها.
(محمد جعفر)- محور القصة وبطلها- شاب مثقّف مأزوم، وأزمته مركّبة، فهي فكرية اجتماعية مادية (اقتصادي) جنسية. هو يقرأ ويمارس الكتابة، لكن دون أن يجد لذلك أي صدى في ما حوله من مفردات العالم الذي يضيق به. ومن عدم الاستيعاب هذا بين البطل وعالمه يبرز جوهر الأزمة وتتطور إلى أزمة إنسان لا يجد له مكاناً فيما حوله ولا بين من يحيطون به، بل إلى أزمة بينه وبين نفسه وفق توزعه فيما بين نزعات مختلفة ومتصارعة تتراوح بين ارتباط بالذات وارتباط بالعالم وبالناس وبجوهر الإنسان وطبيعته كما يفهمها هو وكما يفهمها الآخرون. وتأتي بقية العوامل لتعمّق من ذلك، وعلى رأسها أزمته المادية التي تضطره إلى السكن مع زوجته الحامل في غرفة صغيرة في بيت يشاركهما فيه آخرون. وبعد أن يكون الكثير من ذلك كامناً وهادئاً ظاهرياً يأتي التفجر الكبير في حياته الذي يبدأ بإلغاء تدريجي لكل تحفّظ، مثيراً كل مكامن الحياة والتفكير المسموح به وغير المسموح، والتأرجح بين الالتزام بالذات- الهروب والاستجابة للرغبات الخاصة والسير وراء المصلحة الذاتية- والالتزام بما يفرضه الآخرون ويفرضه العرف (وما يجب أن يكون أو يُفعل). فتعسّر ولادة الزوجة (سعدية) وتكون النتيجة أن يموت الجنين وتفقد الزوجة بصرها. ومن هذه الحادثة أو المرحلة من القصة تتسع الفجوة التي كانت موجودة بشكل محدود ظاهرياً قبل ذلك بينه وبين زوجته، وأثناء ذلك يكون ميل يستجيب لرغبات حسية قد أخذ ينمو في داخل (محمد جعفر) تجاه الصبية (سليمة) ابنة (أم سليم) التي يتزوجها المرابي العجوز (سيد هاشم)، مما يزيد بدوره من حدة الصراع بين ما يريده (محمد جعفر) وما يريده الآخرون والعرف والضمير لتتغلب الذات، في النهاية، على كل شيء، بعد تداعيات طويلة ومنلوغات داخلية أدارت ذلك الصراع حتى انتهى إلى الرسوِّ عند إرادة هذه الذات، فيهجر البطل زوجته ويرتمي بأحضان العالم الذي يجد فيه- ربما مؤقتاً- تنفيساً لأزمته، والمتمثّل، مؤقتاً أيضاً، في أنوثة (سليمة). ولكن النقطة المهمة التي يجب الإشارة إليها بخصوص هذا الحسم الذي ينتهي إليه المؤلف ببطله والذي ينبع، باعتقادنا،من جوهر القصة وجوهر قضيتها، قضية الإنسان الذي هو نحن والإنسان الآخر الذي يمكن أن نكونه، هو أن (محمد جعفر) لم يكن إنساناً شريراً أو خبيثاً أو حاقداً ولا راغباً في إيذاء غيره، زوجته أو غير زوجته، وإلاّ كان اختار الطريق الذي يحدده شرّه وحقده ورغبته بإيذاء الآخرين. إنه، بتحديد أصحّ، سلبي، وحتى هذه السلبية يبقى فهمها وتحديدها من الأمور النسبية التي تتبع في اختلافها الزوايا المشروعة غالباً التي يُنظر من خلالها إلى الموقف والشخصية. ومن هنا فليس غريباً أن نجد البطل يطور رؤيته للواقع وللطبيعة الإنسانية ولمختلف الأمور ليصل مع نفسه، وربما مع بعضنا، وعبر تداعيات طويلة ومناقشات- منلوغات- متزنة وعقلية، إلى حد الإقناع بالخيار الذي يرسو عليه. هو يسلّم بوجوب تحمّله لمسؤولية نفسه وأفعاله وسلوكه وأفكاره، ولكنه يخفق في الاقتناع بوجوب تحمّل مسؤولية الآخرين. قد تنظر إلى ذلك على أنه سلبية أو حقارة أو خسّة، لك ذلك، ولكنه لا ينظر إلى ذلك بعينيك، فيكون لسان حاله: لِمَ أتحمّل مسؤولية الآخرين؟.. لذا فحتى هجره لـ(سعدية) في النهاية لا يأتي من باب الرغبة الشريرة بقدر ما هو الإخفاق بتحمّل مثل هذه المسؤولية، إضافة إلى استسلامه لجوهر الوجه الآخر لذاته الذي لا يستطيع فعل شيء حياله: “ماذا يمكننا أن نعمل أمام الإنسان الذي سنكونه؟ إنه مخلوقنا وهو الإله الذي لا يُرَد”(). ونحن حين نتتبع القصة بتأن بدءاً بالبطل الذي لم يكن ليؤذي أحداً أو يفكر بسلب أحد شيئاً، وانتهاءً بما يصل إليه من استسلام، لا يستطيع تجنبه، لإرادة ذلك الوجه الآخر، يبدو لنا “كأن التكرلي يريد أن يقول إن الوجه الآخر راسخ فينا، دفين، إلا أنه لا يتكشف إلا عندما نواجه في حياتنا ما يجعلنا نكشفه”()، أو نُضطر إلى كشفه. و(محمد جعفر) قد واجه من ذلك ما جعله يكشف عن وجهه الآخر، عاكساً بذلك رؤية التكرلي وفلسفته، إذ أن هذه الأفكار التي تقدمها القصة إنْ هي إلا حلقة من سلسلة حلقات الفكر الذي تقدمه قصص فؤاد التكرلي، وهي، في “الوجه الآخر”، تتمثل في بطلها هذا من خلال تفكيره وفعله، وهو الفكر الذي يبدو واضحاً تأثر الكاتب فيه بالفكر الوجودي. وإذا لم يكن هذا ليعني تبنيه لهذا الفكر فإنه كان على ما يبدو وراء الإحساس الحاد بأزمة الإنسان وحيرته أمام الآخرين، وأمام غموض الحياة وعبثيتها ولا جدواها، وما تطرح النفس الإنسانية إزاء ذلك من تساؤلات، ربما لا أجوبة لها:
“إن هناك أمراً واحداً يستحق أن يفكر فيه. كيف نعيش، في هذا العالم الذي ليس لنا، الذي لم نملكه يوماً، لم نملكه يوماً؟؟ كيف نعيش لنموت آخر العمر؟ وهل هناك، أمام الموت، حياة أفضل من الأخرى؟ نعم، أنْ تملك كل شيء، أن تعيش في قصر باذخ برفقة نساء جميلات، وأن يمكنك.. هل هذا ضروري؟ أن تكون إنساناً شريفاً. وما معنى ذلك؟ إن الشرف لا يوقف آلام البشر، ولا حتى آلام فرد مفرد”().
لقد استدعت هذه الطبيعة غير العادية للقصة أسلوباً خاصاً وتقنيات معينة وجدها الكاتب في تقنيات تيار الوعي وفي اعتماد لغة، ربما لم يتعمدها هي لذاتها، ولكنها استجابت لمتطلبات طبيعة الموضوع من جهة ومتطلبات تلك التقنيات من جهة ثانية، فجاءت “الوجه الآخر” وقد امتلكت ناصية الفن بشكل قد لا نجد له مثيلاً في تاريخ الأدب القصصي العراقي، حتى مع التسليم بتشاؤمية القصة، وربما غرابة موضوعها ومجرى أحداثها، فاصطبغت بكآبة شديدة. وهنا يجب أن نتذكر أن القصة كُتبت في الخمسينيات، “في عهد كانت الكآبة مسيطرة على النفوس المرهقة، وكان الجو خانقاً والليل مخيماً والتشاؤم غالباً، ومنافذ العلم بالآداب البناءة مسدودة.. وطبيعي أن تعكس الآثار الأدبية أطرافاً من ذل، وأن تتأثر به”()، كما يقول الدكتور علي جواد الطاهر.
شاهد أيضاً
دراسة عن دروب وحشية
تشكلات البناء السردي في رواية دروب وحشية للناقد نجم عبد الله كاظم أنفال_كاظم جريدة اوروك …