غائب طعمة فرمان، ظلال على النافذة

غائب طعمة فرمان: ظلال على النافذة
من “الرواية في العراق 1965-1980 وتأثير الرواية الأمريكية فيها”
يقتحم غائب طعمة فرمان، في روايته الأخيرة “ظلال على النافذة”، شكلاً مختلفاً تماماً عن الأشكال أو الشكل الاعتيادي الذي ربما تحدد في خطوط عامة مشتركة في كل رواياته السابقة، مع كل ما كان هناك من اختلافات جزئية بين رواية وأخرى ومرحلة وأخرى. وعلى أية حال، لم ينفصل الكاتب، حتى في روايته الأخيرة هذه، انفصالاً كلياً عن تجاربه السابقة كما سيتوضح لنا ذلك فيما سيأتي. تدور أحداث “ظلال على النافذة”– 1979– حول عائلة بغدادية تنتقل من حي قديم إلى آخر حديث، حاملةً معها كل عاداتها وقيمها القديمة وطرق تفكيرها وخطوط حياتها في المحلة الأولى. وهي لهذا لا تستطيع أن تتأقلم بسرعة وبسهولة مع متطلبات الحياة وطبيعتها في المحلة الجديدة، فتعيش تمزقاً بين أفرادها، وتمزقاً في داخل كل فرد منها تبعاً لأزمته الخاصة المضافة إلى أزمة العائلة العامة– بشكل غير مباشر. بعبارة أخرى تأتي هذه التمزقات نتيجةً لهذا الانتقال الذي هو نوع من الصعود الطبقي والمعيشي، ليؤدي بدوره إلى خلل في نظامها وتفكيرها، فإلى أزمة يعيشها أفراد العائلة. وإذا لم تكن الأزمة لتبين مباشرة بعد الانتقال وما يقود إليه من تحولات في حياة العائلة، فإنها لتبرز وتقوى بشكل مباشر، نتيجةَ حادثةٍ تقع لتشكل أيضاً الحدث المركزي الذي ستدور الرواية وتبنى فنياً حوله، تلك هي حادثة هروب زوجة الابن الأوسط من البيت. ولكي نفهم قولنا ابتداءً إن الرواية تُبنى فنياً حول هذه الحادثة، نشير ابتداءً أيضاً إلى أنها تُعنى بهرب هذه الزوجة وبردود أفعال العائلة والتضارب بينها وبين مواقفهم المختلفة تجاه هذه الحادثة إذ هي تكون عامل تعجيلٍ في بوتقة العالم الداخلي لكل شخصية لتصعيد الصراعات والتناقضات الموجودة أصلاً بينهم، والكشف عن أزماتهم الراكدة ظاهرياً والمتأججة داخلياً.
يبدو أن غائب طعمة فرمان يريد مرة أخرى، واستمراراً لما فعله في رواياته السابقة جميعاً، أن يصور، في “ظلال على النافذة” المجتمع البغدادي، ولكن في مرحلة أخرى تالية لتلك التي عُني بها في تلك الروايات، ربما هي هذه المرة أواسط الستينيات التي شهدت مرة أخرى اندلاع الصراعات بين الفئات الاجتماعية والسياسية والتيارات الفكرية المختلفة انعكاساً لتخلخل البنية الاجتماعية والسياسية آنذاك. والواقع أن ذلك كله كان بلا شك سمة من سمات العقد، التي انعكست، ضمن ما انعكست عليه، على واقع المثقفين ليصبح أكثر صعوبة وتأزماً مما تمثّلته روايات الكاتب السابقة. ونشير هنا إلى أن هذا الواقع كان دافعاً للكثير من الكتاب والمفكرين ليحركوا أقلامهم للتعبير عن روح تلك المرحلة في كتابات متنوعة. و”ظلال على النافذة” واحدة من تلك الكتابات التي عبرت عن ذلك، إذ تمثلت ذلك الواقع من خلال هذه العائلة ومواقف أفرادها وردود أفعالهم المختلفة تجاه (حسيبة)– الزوجة الهاربة– وهروبها. وبشكل عام يمكن القول، وكما أشرنا ضمناً، إن فرمان لم يترك، في تجربته الجديدة، عالمه الاعتيادي الأثير رغم الفوارق الجزئية في ذلك ورغم الاختلافات الفنية التي أشّرنا بعضها والتي كان لا بد أن تؤثر في بعض جزئيات الموضوع وتناوله.
جاءت عناصر الرواية جميعاً متوازنة ومسيطراً عليها بما يبدو الكاتب فيها وكأنه لم يكن يرتضي التوقف، ولا حتى السير في فنه دون تطوير وتجديد وتجريب، ليحقق في النتيجة تطويراً للتقنية الروائية في تجربته. وهكذا استطاع، مرة أخرى وبعد أن فعل ذلك إلى حد بعيد في “خمسة أصوات” و”المخاض”– أن يحقق موازنة متقنة وخالية من أي تكلف في استخدام تقنيات متنوعة تقليدية وحديثة، ودون أن يكون هناك من تعارض فيما بينها، ربما إلا ما تركه البناء المسرحي للفصول الثالثة. وكان للبعد الزمني في الرواية مؤشراته في مجال التطوير التقني، فلم نجد وحدة الزمن التقليدية نفسها التي استخدمها الكاتب– بإقناع طبعاً – في بعض أعماله السابقة، ولاسيما “النخلة والجيران”، وضمن ذلك توظيفه لتقنية الفلاش باك وبناء شخصياته واستكمال حبكته في خطوطها الرئيسة وفي تفرعاتها.
أما الحوار، وهو يدخل وسيلة من الوسائل التقنية أيضاً، فإذا ما بدا وكأنه يسجل تراجعاً جزئياً، فإن هذا– أعني التراجع– إنما هو برأينا منظور إليه من تبعات نجاح فرمان في حوارات أغلب كتاباته ومن اقتناعنا نحن، قراءً ومحللين، بها وبمستوياتها ومتميزها، خصوصاً حين نجده يقع في حوار روايته الحالية ببعض الأخطاء التي لم نواجهها في أعماله السابقة، إلا بشكل محدود في “القربان”. من ذلك تكلف بعضها، وتأثير الأفكار، التي هي بالتأكيد أفكار الكاتب نفسه، في بعضها الآخر، لتأتي أحياناً قاصرة عن التعبير عن شخصياته وعن التلاؤم معها، بل بقيت ملتصقة التصاقاً غير متين بها، بحيث تحس، وأنت تقرؤها، الكاتب خلفها أو خلف الشخصيات المتكلمة بها يلقنها إياها أو، في الأقل، يهمس في آذانها بما يريده هو. وعدا هذا الذي قد يُسجَّل على لغة الرواية وتحديداً في الحوار، فإن لغة الرواية، وبضمنها لغة الحوار نفسها مجردةً من علاقتها بالشخصية الناطقة بها، كانت مقنعة إلى حد بعيد، بل هي ازدادت جمالاً وتأثيراً، خصوصاً في الفصول الثانية، وبشكل أخص حين يتذكر (ماجد) حبه الضائع، في الماضي البعيد، ولعل النص الآتي يعبر تماماً عما أذهب إليه:
“كنت أراقب “زهرة” من مكمني، تروح وتجيء في البيت، مكبوسة القامة إلى الأرض، يرتج نهداها، وتتكور كتفاها، وتتأرجح ذراعاها البضتان، وتتراقص ضفيرتاها، وكانت عملية المراقبة لا تبدأ إلا حين يخلو البيت من أهله، خوفاً من الفضيحة… ولكن حين كان البيت يهدأ، وتخرج عفاريت النفس الأمارة من مخابئها السرية، أتسلق النافذة، و(أكسر رقبتي) وأراقب.. قد يمضي وقت طويل، دون أن ألمح شيئا. باحة البيت لا حياة فيها، ولا رجاء… وأحياناً يخيل إلي أنها هي الأخرى كانت تلعب معي لعبة (الغماية).. تريدني أن أخرج بالفانيلة واللباس وألتهمُ الدرج صعوداً وهبوطاً. ولكن من أين لي بالقوة الآن؟ تبوأرتْ كلُّ قواي في المراقبة والنظر. وحين تيأس زهرة من خروج (الحنقباز) تتخطف من جانب إلى جانب، بقامتها المضغوطة على الأرض، ونهديها الخفاقين، وضفيرتيها المتأرجحتين.. أحياناً قليلة كانت تترنم بشيء غير مفهوم، يتصاعد شيئاً فشيئاً حتى يستقيم أغنية مسموعة تنساب أعطاف زهرة على نغمها الحلو، حتى يخيل أنها على وشك أن ترقص.. ترقص لي، وحدي.. ربما كانت تؤدي طقوسها لي. أحسّتْ بنظراتي، وتهللت أعماقها وفاضت فرحة أغنية، ولكنها كانت تكمل الأغنية في الزوايا القصية خارج مدى بصري، فأترجح في فراغ القنوط المشلول: الانتظار والقنوط تدبان في روحي دبيب النمل. ثم يُسمع صوت الباب يطرق، أو الجرس يرن.. وتخمد حواسي.”- الرواية، ص189-190().
إن جمال الكلمات ومناسبتها والجملة التي ترد فيها لما تعبر عنه وللموقف عموماً، وقوة الشد الذي ينجح الكاتب في استشارته، وتسلسل الأحداث خلال ذلك كله، لتبدو أموراً رائعة ومثيرة للقارئ حد الانشداد التام إلى النص ومتابعة تطور الحدث– مع بساطته– بشكل يذكرنا فيه بطل الحدث (ماجد)، من حيث توفيق الكاتب فيه وتشابه المواقف، ببطل ناباكوف في روايته الشهيرة “لوليتا” Lolita، بتوتراته وحركاته، وهو يراقب الفتاة الصغيرة. ونحن لا نريد أن نقول بوجود تأثيرات مباشرة لناباكوف في فرمان، لعدم وجود مؤشرات أخرى تدعم هذا الافتراض.
من الواضح أن “ظلال على النافذة” رواية شخصيات، لأنها تتعامل مع أربع شخصيات رئيسة في طرق تفكيرها وردود أفعالها وفي عواملها التي تكوّن سوياً عالم الرواية الجامع لها؛ وهي من هذه الناحية ترتبط جزئياً برواية سابقة للكاتب، أعني “خمسة أصوات”. فإذا كانت “خمسة أصوات” قد قدمت عوالم خمس شخصيات تجمعهم الصداقة والهموم، شكلت أعمدة الرواية التي كوّنت، في اتجاهها إلى الأمام، عمود الرواية الرئيس، فإن “ظلال على النافذة” وإذ تُبنى من حيوات وحركات ثلاث شخصيات رئيسة، هي الأبناء الرئيسين للعائلة، لا تشكل بامتدادها إلى الأمام عمود العمل، بقدر ما أن هذه الشخصيات الثلاث تلتف حول محور تشكله شخصية واحدة هي لهذا ومضمونا كادت تكون شخصية محورية، ولكنها فنياً ليست كذلك. فمع أن هذه الشخصية– “حسيبة” – لا تظهر على مسرح أحداث الرواية عملياً إلا قليلاً، فإننا نحس وجودها خلف ذلك دائماً. وإضافة إلى هذا الاختلاف الشكلي والبنائي بين العملين، لا يستخدم الكاتب أيضاً في عمله الجديد الأساليب الاعتيادية في التعامل مع الشخصيات ورسمها. فقد كان فرمان في السابق وفي الغالب يترك شخصياته ترسم نفسها للقارئ من خلال حواراتها وأفعالها وردود وأفكارها وتداعياتها، إلى جانب المشاركة المباشرة الجزئية للكاتب نفسه خصوصاً في تحديد المعالم الظاهرية لها. أما في “ظلال على النافذة” فإن المؤلف يتدخل بنفسه غالباً لرسم الشخصيات، وربما هذا هو السبب الرئيس الكامن وراء أن لا نحسها حية بحق، نعيش معها ونحن نقرأ الرواية، ولا ننساها ونحن ننتهي من قراءتها، كما هو شأن شخصيات “النخلة والجيران” و”خمسة أصوات”، والى حد ما “المخاض”.
مرة أخرى، لا يحجب ما قد نراه أو غيرنا مآخذ على تجربة فرمان الأخيرة، مع أهمية بعضها لهذا الجانب من العمل أو ذاك، ما يقدمه الكاتب في روايته من إثراء لعموم تجربته الإبداعية. فهو ينجح فنياً، قبل أن نقول موضوعياً وفكرياً، في تصوير الستينيات روائياً، من خلال الشخصيات نفسها، حيث القلق والخوف من المجهول والترقب والانتظار، وحيث الخيبة والإحباط واليأس والفشل والقصور في اتخاذ المواقف أو في المبادرة بالفعل وعدم الثقة بالنفس. وهذا كله هو ما يتجسد، بشكل خاص، في شخصية (ماجد) الذي يقول: “الوطن الذي لا يوفر لك لقمة عيش كريمة… مو زين”- الرواية، ص194؛ وهو إذا أراد أن يفعل شيئاً فلن يتعدى، غالباً، أمله في ذلك:
“ليتني أساهم في زحزحة الثقل الذي يبهظ كاهلي، أو كاهل أي واحد منا.. ليت، وألف ليت! ولكن سنوات الغربة تشعرني بأنني أسير في أرض وعرة. الأرصفة المهشمة الطابوق، الطالعة الهابطة، تعكف ركبتي، ويتعبني السير عليها، وتجعلني أشعر وكأنني سأسقط في اللحظة التالية. كنت أتعرف على أسماء مطموسة، وأخاف الخطأ بشكل مقرف حتى في أحاديثي العابرة مع الناس. أغدق بالاعتذارات لأقل زلة.”- الرواية، ص182-183.
وهناك أيضاً الهروب والإحساس بالضياع والحزن والآلام والمعاناة والضعف، وهي الأحاسيس التي تتسلل إلى أذهان عدة شخصيات، مثل (ماجد) نفسه، وبشكل أكثر وضوحاً (فاضل) الذي يقول له صديقه (عباس):
“- أُسائل نفسي أحياناً: إلى متى ستستمر هذه الحال؟
“- إلى آخر العمر.. إلى أن التقي بحسيبة.
“- ألا تلتفت مرة فيما حولك!
“- ماذا حولي؟.. فراغ!
“-لا، بل تعاسة. ألم تفكر مرة أخرى في الحجر الذي تعمل فيه؟ إلى ذورات والنفايات نقبع كالجرذان، وصاحب العمل يطل علينا في نظارته اللامعة كالديك المستعد للعراك.
“- تفكيري لا يجدي شيئاً.”- الرواية، ص240.
أما السقوط والشر والوصولية التي ملأت تلك الحقبة، على الأقل من وجهة نظر كاتب يساري وملتزم مثل فرمان، فيجسدها (شامل) في كل ما يقوله ويفعله. وكما يقول فرمان، فإن “شامل يمثل فترة ما قبل 1967، فترة شباب يريد أن يفعل شيئاً ولا يستطيع أن يعمله، فترة فوضى تقريباً وفترة حكم غير موجودة [عملياً] وطموحات شخصية موجودة بكثرة.”().
وإذا كان العجز والسلبية تغلبان على سلوكيات أغلب الشخصيات، بما فيها الثانوية، مثل الأم والأخت، فإن (حسيبة)، خلافاً لما قد يُفهم من فعلها، تتخطى هذه السلبية وتتخذ موقفاً، فتُقدم في النتيجة على الفعل الذي تريده وتستطيع أن تفعله، وفق الظروف التي تعيش في ظلها، نعني الهرب، وهل كان لها أن تفعل غير ذلك إذا كانت تريد الخلاص والخروج من خناق الحصار الذي تفرضه العائلة عليها؟.. قطعاً لا. في الواقع إن فعلها هو الذي يفجر المواقف ويُبرز الصراعات التي كانت خامدة تنتظر أن تتفجر، وتدفع إلى مواجهة الشخصيات، لأنفسها أولاً قبل أن تفعل ذلك بعضها البعض، أي أنها وراء الفعل الحقيقي الذي تبادر إليه كلٌّ من هذه الشخصية، سواء أكان ذلك بإرادة تلك الشخصية، كما هو الحال مع (ماجد) مثلاً، أم بدون مثل هذه الإرادة كما هو شأن الأب (عبد الواحد)، مما كان يعني في النتيجة– وهي نتيجة واحدة في كلا الحالين– اتجاهاً نحو التغيير ونحو الفهم الصحيح للأمور ونحو الفعل و- ربما– المطلوب. وأيّاً كان جنس أيٍّ من أفعال الشخصيات، وهو ما ينطبق أولاً على فعل (حسيبة) نفسها، فإن الإيجابية الأولى تكمن في كونه فعلاً، وهو ما يحتاجه الظرف والواقع، والشخصيات.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المعروف أن غائب طعمة فرمان قد قرأ بعض أعمال وليم فوكنر، و”الصخب والعنف” لا بد أن تكون واحداً من تلك الأعمال، إن لم تكن من أوائل ما قرأ للكاتب الأمريكي، وللقول بتأثير رواية فوكنر فيه لا يكفي اعتماد حقيقة أنه قد قرأها خصوصاً أنه يذكر: “أنا قرأت فوكنر ولم تعجبني (الصخب والعنف)، بينما أعجبتني روايات أخرى غير هذه”(). كما أننا لم نتبين أثاراً واضحة ومؤكدة لفوكنر بشكل عام في أعمال الكاتب المنشورة قبل “القربان” التي قد يُرصد فيها شيءٌ من تأثيراته. وحتى في هذه الرواية الأخيرة فإن مثل هذا التأثير يبقى صعبَ الإثبات أو البتّ به، كما سبق وأن أشرنا إلى ذلك. ومن هنا احتجنا، للتدليل على صحة وجود تأثيرات لرواية “الصخب والعنف”، في عمل آخر لفرمان، وهو “ظلال على النافذة”، إلى مؤشرات أخرى قد تكون بشكل تشابهات أو استيحاءات، وسنحاول بحثها ومناقشتها. فبرأينا أن تأثّر فرمان اللاواعي بفوكنر، وتحديداً من خلال رواية “الصخب والعنف”، قد ظهر جلياً في روايته الأخيرة، وفي جوانب عدة، كالموضوع والفكرة أو الأفكار والشكل والبناء والتقنية والشخصيات ورسمها. وقد يبدو لك مثل هذا لأول وهلة، وأنت تستحضر الروايتين في ذهنك، أمراً غريباً، وهو في الحقيقة ما دفع الكاتب نفسه إلى أن يُبدي استغرابه منه حين مواجهتنا له بوجهة نظرنا بشيء من التفصيل(). لكن مناقشة هذه الجوانب خلال إجراء مقارنة تطبيقية بين الروايتين يزيل، برأيي، الكثير من علامات التعجب والاستفهام. وهذا ما سنفعله مقسمين مقارنتنا إلى ثلاثة أقسام، نتناول في الأول (الفكرة والموضوع)؛ وفي الثاني (الجوانب الفنية البحتة)– البناء، والشكل، والتقنية؛ وسنكّرس الثالث لـ(الشخصيات).
مع أن قصدية فرمان وغاياته التي تعبر الرواية عن بعضها بوضوح، بينما قد نجتهد في استقراء بعض آخر منها، تختلف تقريباً عن تلك التي لفوكنر في روايته، كونه ينطلق من مفاهيم سياسية وفكرية وأدبية واجتماعية مختلفة عمّا هي عند الكاتب الأمريكي، فإن التناول عموماً لا يخلو من تشابهات مهمة. فهو يتعامل في روايته مع فترة حساسة من تاريخ العراق المعاصر، وهي أواسط الستينيات، التي أعقبت نكسة حزيران. وهو لكي يصوّر هذه الفترة ويعكس وجهة نظره فيها، وانطلاقاً مما يؤمن به سياسياً وفكرياً واجتماعياً، ولكي يضفي على تلك المرحلة ما يراه مناسباً لها من سمات ووصوفات، فإنه تناول عينّة من ذلك، عائلةً تمرّ بشيء من التمزق قد يصل ببعض أفرادها حدّ الانحلال والانحدار، رغم محاولات إنقاذها التي تتم في داخلها من أفراد آخرين منها. فهذه العائلة، وكما أراد الكاتب لها أن تكون، تمثل مجتمع الستينيات المنقسم على نفسه والممزّق. ونحن نعلم أن فوكنر حين أراد أن يصوّر فساد الجنوب وانهياره، وهو قد فعل ذلك في أغلب أعماله، فإنه اتخذ لذلك، في رواية “الصخب والعنف”، عائلة جنوبية، هي عائلة (كومبسون) Compson، في طريقها إلى الانهيار والتمزّق بل الانتهاء لترمز، على الأقل عند البعض، إلى الجنوب ككل. بعبارة أخرى، “إن (الصخب والعنف) هي قصة سقوط بيت، وانهيار الارستقراطية الريفية في آخر هزيمة للحماقة والتهور والانحراف النفسي”()، على حد تعبير إيفيلين في دراستها للرواية. ومع أن فرمان بالتأكيد، لم يتصدَّ لعائلة ارستقراطية، كما أنه تعامل، كما هو شأنه دائماً، مع مجتمع المدينة لا الريف، فإن هذا لا يغيّر من زاوية نقاشنا ومقارنتنا بين موضوعي الروايتين، لأن الأرضيتين المختلفتين ومنطلقيهما غير المتشابهين تفرض هذا النوع من الاختلافات التي تُبقي مجال المقارنة مفتوحاً، ونحن نعرف أن فرمان قد أراد، كما قلنا، أنْ يعطينا تصوراً للستينيات، وفعل ذلك من خلال “… تصوير عائلة عراقية انتقلت من حيّها القديم، ولكنها أخذت معها إلى الحي الجديد كل تقاليدها”(). ولهذا ولأسباب أخرى فقد تخلل العائلة التمزّق ومسّ البيت التداعي. وفي كل الأحوال ومهما تعددت التشابهات فإن قراءة “ظلال على النافذة” لا تعكس تقليداً ولا تقترب من هذا، لكنه تأثر فني ناضج لكاتبها برواية فوكنر.
الحدث المركزي لرواية فرمان، هو هروب (حسيبة)– زوجة الابن الأصغر (فاضل)– من بيت أهل زوجها الذي تعيش وإياه فيه، طلباً للخلاص من المعاملة السيئة لأغلب أفراد العائلة الذين يشعرون بأن زواج ابنهم (فاضل) منها قد جلب العار عليهم، ولا يجدها آخرون في مستوى العائلة إذ هم لا يعرفون لها أهلاً ولا أصلاً. والرواية تتصدى، بعد ذلك، لردود الأفعال المختلفة لأفراد العائلة تجاه (حسيبة) وهروبها. وهذا يقودنا تلقائياً إلى استحضار الحدث المركزي لرواية “الصخب والعنف” حين تكون الأخت (كادي) Caddy وقصتها المحور الذي تدور حوله الرواية، بل إن فقدانها لعذريتها– تبع ذلك هجرها لبيت عائلة (كومبسون)– هو الشرارة التي تتوهج منها خطوط الرواية. بمعنى آخر، “إن صدام كادي نفسها مع الواقع، وبالتالي فإن الطريقة التي يكون فيها رد فعلها [العائلة] تجاهه يشكّل النقطة المركزية للرواية”(). فليست الخطوط الرئيسة للرواية إلاّ ردود أفعال مختلفة لأفراد عائلة (كومبسون) تجاه هذه الشخصية المركزية والحدث أو النقطة المركزية المتعلقة بها. ومع الإقرار بوضوح بعض التشابهات الواردة، يجدر بنا التأكيد أيضاً على أن تطور الكثير من الأحداث ضمن هذه الخطوط في رواية فرمان تختلف كثيراً عما هي عليه في رواية فوكنر كما سنرى ذلك بشكل أكثر تفصيلاً في تحليلنا للشخصيات.
أما في بناء الرواية فإن فرمان لا يستخدم البني نفسها التي استخدمها الكاتب الأمريكي، مع أن هذا، بالمقابل، لا يعني عدم وجود خصائص مشتركة من ناحية البناء والتقنية بين الروايتين، والتي قد تؤشر تأثيراً ضمنياً لفوكنر في كاتبنا. فبينما يقسم فوكنر روايته إلى أربع وحدات يوزّع الثلاث الأولى منها على الإخوة (كومبسون) ويقدّم الرابعة على لسان راو هو إلى حد كبير الروائي نفسه، ومركِّزاً فيها على الخادمة السوداء (دلزي) Dilsy، فإن فرمان يفعل شيئاً من هذا أيضاً. فهو يقسّم روايته إلى أربع وحدات يسّمي كلاً منها (ظل) ويقسّم كل (ظل) منها على ثلاثة فصول. والواقع أن التشابه الذي يمكن للباحث أن يرصده في هذا المجال يكمن لا في الناحية الشكلية للتقسيم، بل في خصوصية كل فصل من هذه الفصول من ناحية التقنية بشكل خاص. فالكاتب يقدم الفصل الأول من كل (ظل) على لسانه أي باستخدام صيغة الغائب، مخصصاً هذه الفصول لمتابعة الأب (عبد الواحد)، والى حدّ ما الابن (فاضل) الذي يقابل، في مقارنتنا، (بنجي) Benjy في رواية فوكنر. وتعلقاً بهذا، يتضح لنا أن فرمان لا يخصص لـ(فاضل) فصلاً مستقلاً، ولكنه يتخلص من ذلك بدمج ما يقابل القسمين الأول (بنجي) والرابع (رواية الكاتب عن دلزي) في رواية فوكنر، في فصل واحد هو الأول من كل (ظل) كما قلنا. وفي الوقت الذي نستحضر فيه تشابهات مهمة من ناحية التقنية والسرد هنا، فإنه يبدو مناسباً أن نؤشّر الصلة المحدودة الموجودة بين استخدام فرمان للسرد بصيغة ضمير الغائب واستخدام فوكنر لذلك في القسم الأخير من روايته.
ويقترب الروائي العراقي من الروائي الأمريكي في الفصول التي خصصها للابن (ماجد)، الذي يقابل، في مقارنتنا، (كوينتن) Quentin، حين يقدم هذه الفصول باعتماد واضح وبارز على تقنيات تيار الوعي الذي يهيمن على قسمي (كوينتن) و(بنجي) في رواية فوكنر. والواقع أن هذا الجانب والتشابهات التي سنأتي إلى بحثها بين شخصيتي (ماجد) و(كوينتن) تتعاضدان على ترجيح مؤشرات التأثير الفوكنري في فرمان، في هذه الرواية على الأقل.
والاختلاف الكبير، في التقنية، بين الفصل الثالث من كل (ظل) في رواية فرمان، وهي الفصول المخصصة لشخصية (شامل)، والقسم الثالث من رواية فوكنر والمخصص لشخصية (جيسون) Jason، لا يحول بين الباحث وملاحظة أنه في الوقت الذي يختلف فيه قسم (جيسون) عن بقية الأقسام من حيث أن فوكنر كاد يتخلى فيه كلياً عن استخدام تقنيات تيار الوعي، فإن فرمان بدوره يقدم فصول “شامل” بشكل مختلف كلياً عن بقية فصول روايته، لتكون النتيجة شبه مسرحية– حوارية تخلى فيها عن السرد وتقنيات تيار الوعي.
في الحديث عن الشخصيات يرى بعض النقاد أن فوكنر قد وظّف، في تجسيد شخصياته أو بعضها وإغناء معانيه وتقويتها، صوراً ورموزاً استقاها من مصادر عديدة، خصوصاً من فرويد، فهو في الشخصيات الرجالية لرواية (الصخب والعنف)، مثلاً، يجسّد (الهو) و(الأنا) و(الأنا العليا)(). والواقع أننا لا نتلمّس الكثير هذا في رواية غائب، دون أن ينفي هذه التشابهات وما نراه من تأثير وتأثر في الدلالات الرمزية. وبدلاً من الدلالات التي أعطاها فوكنر لشخصياته المشار إليها قبل قليل، يعمد فرمان إلى منح شخصياته الدلالات الخاصة التي أراد بها أن يجسّد مرحلة معينة من تاريخ المجتمع العراقي المعاصر، كما سبق أن أشرنا إلى ذلك. إضافة إلى ذلك تبرز الشخصيات لتعكس، مع ذلك كله، جوانب التشابه والتأثير والتأثر الأكثر أهمية في الروايتين.
الشخصيات الرئيسة في رواية “ظلال على النافذة” هي: الأب (عبد الواحد)، وأولاد الثلاثة (ماجد) و(فاضل) و(شامل)، والكَنّة (حسيبة)، إضافة إلى شخصيات أقل مركزية مثل الأم والابنة (فضيلة) وعشيقة الأب السابقة وحبيبة (ماجد) السابقة. إن هذا التوزيع للشخصيات يشبه إلى حدّ كبير ما هو موجود في “الصخب والعنف” حيث الإخوة الثلاثة (جيسون) و(كوينتن) و(بنجي)، والأخت (كادي) و(دلزي) الزنجية. وكي نلقي الضوء على المزيد مما يُرصَد من تشابهات واضحة أو غير واضحة تماماً، سنحاول أن نقارن كل شخصية من شخصيات فرمان مع تلك التي تقابلها من شخصيات فوكنر حسبما نرى، ولنبدأ في ذلك من الشخصية التي تنطلق الرواية منها، نعني (حسيبة).
واضحٌ أن (حسيبة)، في هروبها من البيت وفي ما تثيره بهذا الهروب، تشكل الشخصية المركزية لـ”ظلال على النافذة”، تماماً كما هو الحال في “الصخب والعنف” التي تشكل فيها(كادي)، في فقدها لعذريتها وهجرتها البيت مضطرةً، البؤرة التي تنطلق الرواية منها وتلتف حولها. إنّ كلاًّ من هاتين الشخصيتين تتخذ الخطوة التي تثير ردود الفعال المختلفة لأفراد عائلتها، ولاسيما الأولاد الثلاثة في كل من الروايتين، لتشكل بذلك خطوطها الرئيسة. ولأن (حسيبة) لا تمتلك أصلاً واضحاً وأهلاً معروفين، فإن عائلة زوجها، المتسلّقة طبقياً، تكرهها، ويراها أكثر أفرادها، بهذا الشكل أو ذاك، عنصراً دخيلاً غير مرغوب فيه، بل عاراً على العائلة أحياناً. وبسبب الجو المقيت القاتم والخانق الناجم عن ذلك والذي تحسّه (حسيبة) فإنها تترك المنزل وتفِرّ هاربةً طلباً للخلاص. أما (كادي) فإنها هي الأخرى تواجه، بعد فقدها لعذريتها، ضغوطاً مختلفة وسوء فهمٍ من أفراد عائلتها مما يدفع بها إلى ترك البيت مختارةً، ومجبرةً في الوقت نفسه، وتولّي هاربة من عالم العائلة الأمريكية الجنوبية المتشبثة بقيم ومفاهيم ترى هذه العائلة فيها قوام وجودها.
من خلال ردود أفعال أفراد العائلة في رواية فرمان ترتسم لنا صورة (حسيبة) في ذهن كل منهم والتي تعكس في الوقت ذاته صورته هو نفسه، وهو الأمر الذي يؤشر خطوط التقائها مع شخصيات فوكنر حين ترتسم لنا من خلال مواقفها من (كادي) ورؤيتها وفهمها لها. فـ(فاضل)، زوج (حسيبة)، هو الشخص الوحيد الذي يحبها لذاتها بحق ولذا فهو يفتقدها أكثر من أي شخص آخر. أما لـ(ماجد)– الأخ الأكبر– فإنها تذكّره بحب له ضائع ويحنُّ إليه دائماً. وهي للأخ الأصغر (شامل) مصدر عار للعائلة ومسّ لشرفها، بل هي عنده تشكّل، إلى حدّ ما، عقبة في طريق ارتقاء العائلة، وأكثر من ذلك– وهذا هو الأهم– في طريق ارتقائه ووصوليته هو. وبهذا كله فإن (حسيبة) تقترب كثيراً من (كادي)، التي كانت “… لبنجي رائحة الأشجار، ولكوينتن الشرف، ولجيسون المال، أو، على الأقل، الوسيلة للحصول عليه”(). وحتى في موقف فوكنر من شخصيته المركزية وإحساسه تجاهها، والذي عبّر عنه بقوله: “لقد وقعت في حبّ إحدى شخصياتي، وهي كادي”()، يمكن أن نجد ما يقابله عند فرمان من خلال حبه لشخصية (حسيبة) الذي يتجسد طوال الرواية، بل ينعكس في بعض ما يقوله عنها().
لتكون صورة (فاضل) واضحة، قبل مقارنتنا لها مع شخصية (بنجي)، يجب أن نحلل شخصيته من خلال علاقته بزوجته (حسيبة) وسلوكه في عموم أحداث الرواية، فنقول، استقراءً للرواية ولوجود هذه الشخصية وللشخصية ذاتها، إنه يبدو لنا إنساناً خجولاً حدّ العجز عن الفعل غالباً، وبسيطاً حدّ السذاجة في بعض الأحيان، ومنطوياً على نفسه ومنعزلاً عن باقي أفراد العائلة، في حدود وجوده في البيت على الأقل، يملؤه إحساس بالغربة والتيه والوحدة وبالحاجة إلى الزوجة التي لا يحس له حياةً بدونها، إذ هي بالنسبة له كل شيء: الذات والحياة والسعادة. وهو عندنا في هذا، ومن نواحٍ عديدة، يشبه (بنجي)، الأخ المعتوه الذي تكون (كادي) بالنسبة له الحياة أو عصب الحياة الذي يفتقده في كل لحظة، ولنضع جانباً الاختلاف الشكلي المتجسد في كون (بنجي) معتوهاً بينما يظهر (فاضل) عاملاً شبه سوي.
أما (ماجد)– الأخ الأكبر– فهو شخصية أخرى يمكن لنا بسهولة أن نتذكر من يقابلها في “الصخب والعنف”. هو شخص متعلم عاد مؤخراً من أوربا بعد أن أنهى دراسته العليا، وهو يجب زوجة أخيه (حسيبة) لبراءتها وسموِّها على كل ما يراه غيرُه من أفراد العائلة فيها من عيوب ومساوئ، ولأنها، وهذا هو الأهم هنا، تذكره بـ(زهرة)، حبيبته التي ضيعَّها من زمن طويل ليجد بعد ذلك أنها الحب الحقيقي الذي ما كان يجب أن يضيع، ونحن لا نكاد نعرف، على أية حال، أسباب انتهاء هذا الحب وعن مصير حبيبته نفسها. لكن المهم أن (زهرة) هنا تتجسد لـ(ماجد) في صورة (حسيبة). والواقع أن الأحاسيس الدافئة والميل الغريب الذي يجتاح (ماجد) تجاه زوجة أخيه، والمتجسد من خلال منلوجات داخلية، هو إعجابه وافتقاده، كما قلنا، لشيء أو شخص سبق أن عرفه، هو هنا (زهرة)، دون أن يعني هذا أنه لا يميل إلى (حسيبة) ذاتها، بل هو يميل إليها، ولكنه ميل نظيف ومنزّه ممَّا يلوّثه، حتى وهو، في كل الأحوال، كثيراً ما يوحي للقارئ بأنه حب لزوجة أخيه. وهذه الحقيقة ليست وهماً يمر به القارئ في بعض مراحل الرواية فحسب بل هو أمر أراد الكاتب، على ما يبدو، أو يوحيه دون أن يؤكد على أنه حقيقة، كما ينعكس في لطف ماجد ومعاملته الرقيقة وغير الاعتيادية لـ(حسيبة) ودفاعه الدائم عنها حدّ أن يثير ذلك استغراب آخرين لاسيما (شامل) حين يقول له (ماجد):
“- كان الأفضل أن تعاملها بالحسنى.. فتاة مسكينة مقطوعة تحت حمايتنا.
“- أوه، عدتَ تدافع عنها! ما سبب هذا الاهتمام الزائد بها؟
“- أي سبب تتصور؟
“- لا أعرف.. أنت أدرى به”- الرواية، ص43.
لقد التمت في (ماجد) هموم عديدة، أهمها قضية (حسيبة)، وتشتت عائلته ومسيرتها نحو التمزّق، وعطالته، ثم وعيه الذي يبدأ يتبلور بالأوضاع السيئة في البلد. وتروح هذه الهموم كلها تتزايد نتيجة حساسيته المفرطة ومستوى ثقافته لتجسّد كلها، من أحدى زواياها، هموم المثقف عموماً وأزمته. هذا الأمر، أكثر من غيره، يسحبنا نحو شخصية (كوينتن)، لتبرز الشخصيتان متشابهتين في الكثير من مفردات هذا الجانب، مع وجود الاختلافات بينهما بالطبع في مفردات وجوانب أخرى. بعبارة أخرى يتركّز تماثل الشخصيتين في طبيعتيهما وموقف كل منهما من الشخصية النسوية المركزية لكل رواية. وقد يعترض امرؤ على ذلك بحجة أن (ماجد) لم يكن مغرماً بزوجة أخيه، كما عرفنا، ونردّ بالقول إن (كوينتن) هو الآخر لم يكن يحب أخته (كادي) ذاتها حباً مادياً أو حبَّ ذكرٍ لأنثى، بل كان يريد فيها النقاء والبراءة والطهارة، وهي الأمور التي ينشد، في وعيه أو لا وعيه، المحافظة عليها وعدم تدنيسها.
ولعل الشخصية الأكثر وضوحاً، في مقابلتها لأحدى شخصيات فوكنر، والأكثر تقبّلا للمقارنة هي شخصية (شامل). إنه إنسان أناني وصولي ولا يعير أية أهمية لأي شيء– بما في ذلك عائلته– عدا نفسه، وهو يكره (حسيبة) لغير ما سبب واضح، مع أنه يبرّر ذلك لنا ولنفسه بكونها جلبت العار على العائلة. لكننا نفهم بغضه بكونه بغضاً للنقاء والطيبة وسلامة الطويّة. وهو، في الكثير من هذه الصفات، يقابل (جيسون) في “الصخب والعنف” الذي “يحتل مكانة بين شخصيات فوكنر، بوصفه واحداً من أشد ست شخصيات اتسمت بالنذالة…”(). والشخصيتان متشابهتان في خوائهما من أية قدرة على الحب، وفي امتلائهما أنانية، وفي استخدامهما شتى الوسائل، بما في ذلك النساء، للوصول إلى غايتيهما.
ربما لا يظهر تفحصٌ للشخصيات الثانوية في رواية فرمان إلاّ القليل من التشابهات بين بعضها وشخصيات ثانوية مقابلة في رواية فوكنر. لكن هذا يعني ضمناً أن هناك شيئاً من التشابهات، أهمها ما نجده في شخصية الأخت (فضيلة)، فهي إنسانة طيبة تُعنى براحة أفراد العائلة، وتحرص طوال الوقت على إعادة تماسكها أو على الأقل تحول بينها وبين الانهيار والتمزق الذي يقلقها طوال الرواية. وهي تستمد إحساسها بالسعادة من كل ما تقوم به لتوفير الراحة لإخوتها ومن محاولاتها لإنقاذ العائلة. ولنتذكر هنا أن (دلزي) فوكنر “… كانت إنسانة طيبة لكونها قد عملت على تماسك العائلة لا من أجل مكافأة ما، بل لأن ذلك أمراً لائقاً ومناسباً لأن يُعمل”().
بعد هذا العرض شبه المفصل للروابط التي تجمع روايتي “ظلال على النافذة” و”الصخب والعنف”، يبدو لنا أمراً غير مقبول أن نضع احتمال أن يكون ذلك محض مصادفات، بل نستطيع أن تقول بيقين إن رواية فوكنر تركت تأثيراتها المختلفة في رواية فرمان، ولكن دون أن تسلبها بالتأكيد هويتها الخاصة ولا شخصية كاتبها.

عن fatimahassann23

شاهد أيضاً

دراسة عن دروب وحشية

تشكلات البناء السردي في رواية دروب وحشية للناقد نجم عبد الله كاظم أنفال_كاظم جريدة اوروك …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *