غائب طعمة فرمان: المخاض
من كتابي “الرواية في العراق 1965-1980 وتأثير الرواية الأمريكية فيها”
بعد سبع سنوات من الصمت شبه الكلي في مجال النشر، تظهر لغائب طعمة فرمان روايتان في سنتين متتاليتين، ربما كان من الطبيعي أن تكونا، في أعقاب هذا الصمت، مختلفتين بشكل أو بآخر وبدرجة أو بأخرى عن روايتيه السابقتين. فقد صدرت “المخاض”، ثالث أعمال الكاتب الطويلة، سنة 1974، وهي تنتمي بشكل واضح إلى الأعمال الأولى كونَها تُعنى بالمجتمع العراقي، وعلى وجه التحديد المجتمع البغدادي، وربما من جوانب أخرى أقل بروزاً، كاللغة وبعض الأجواء، ولكنها تختلف أيضاً عن تلك الأعمال من أوجه عديدة أخرى. ولعل من الممكن أن يقال عن “المخاض”، من هذه الناحية، إنها رواية سياسية، فهي تعكس موضوعة ذات مدلولات سياسية، وتعنى بأوضاع وأحداث وشخصيات تشكل السياسة عنصراً أساساً فيها. وربما أمكن القول أيضاً إنها استفادت في بعض جوانبها، من الواقعية التسجيلية، مع أننا لا يمكن إدخالها ضمن هذه الفئة من الروايات التي “يسجل فيها الواقع كما هو، ويغلب فيها وصف الجو على الوصف النفسي. وفيها تكثر الأوصاف الفسيولوجية والمظاهر الخارجية، وتنتفي العقدة والحبكة (إلى حد ما)، والكاتب يُعنى فيها بالجو أكثر من عنايته بالحركة الدرامية في القصة”(). كما أننا من الممكن أن ننظر إلى “المخاض” على أنها رواية أفكار، إذ ينشد الكاتب فيها تقديم آراء فكرية ووجهات نظر في القضايا الاجتماعية والسياسية أكثر مما تنشد تقديم أحداث متطورة وحبكة متكاملة.
يعود (كريم)– بطل الرواية– إلى الوطن بعد ست سنوات من الغربة في المنفى الذي ربما يكون قد اضطر إلى اختياره من قبل، ليجد أن عائلته، أباه وأمه وأخاه، قد اختفت بعد أن أُزيلت محلتهم القديمة كلياً، وهو المظهر الأول الذي يجابهه من التغيرات في نواحي الحياة العمرانية والاجتماعية التي حدثت بعد ثورة وقعت قبل ذلك. ومن هذه النقطة يبدأ الخط الرئيس للرواية، لتكون رواية بحث (كريم) عن عائلته، وسط التغيرات التي يكون بلده قد أخذ يعيشها بعد الثورة، والتي سرعان ما يجد نفسه تحت تأثيرها بإيجابياتها وسلبياتها، وتبدأ ردود أفعاله تتشكل تجاهها. إن هذه التغيرات، ولاسيما ما يمس منها البنيتين الاجتماعية والسياسية، منظوراً إليها من خلال عيني مغترب عائد يبحث عن مكانه في المجتمع المتغير والمتطور وإلى حد ما الجديد، هي موضوعة الرواية، التي يعكسها الخط الرئيس المتمثل في هذا البحث المضني لهذا المنفيّ العائد عن مكانه في المجتمع. وهو بحث ممثَّلٌ حدثاً في بحث (كريم) عن عائلته؛ فمن الطبيعي أن لا يكون البحث عن هذا المكان، كما حددناه، مباشراً وصريحاً بقدر ما يكون مدلولاً عليه بشيء أو حدث أو شخصية أو شخصيات. والواقع أننا نستطيع، كما يشير فرمان نفسه، أن نستشف فكرتين أو جانبين لموضوعة الرواية، الغربة والتطور، والرابط بينها هو بحث المغترب العائد عن موقعه في المجتمع المتطور أو، ربما الأصح، المتغير. يقول غائب طعمة فرمان:
“في الرواية فكرتان رئيستان، فكرة الغربة: عودة مغترب يجد وطنه ممزقاً؛ وفكرة التطور الذي دائماً أشير إليه في رواياتي.. مغترب يعود، كان يحمل وطنه في غربته جرحاً نازفاً.. عودة مغترب عاش وطنه جرحاً. ولكن هذا المغترب لم يأت ليبحث عن أهله أبداً، ولكن جاء ليبحث عن موضعه في المجتمع، في الوطن النازف ليشارك بدمه أيضاً… أما الفكرة الثانية فهي فكرة التطور. إن عراق 1959 ليس عراق 1954، إنه عراق تطور ويتطور وماضٍ في طريق التطور. وقد تبدو فكرة التطور لمغترب لا يجد أهله ولا الحي الذي ترعرع فيه (جريمة بشعة) لأنه مؤهل عاطفياً لأن يقول ذلك، ونحن أحياناً نصف التطور بالقسوة، شيء لا مناص منه، شيء يجري وفق قانون”().
والواقع أن هذا (البحث) عن الأهل، من الممكن أن يذهب، في نظرنا إليه وفهمنا وتأويلنا له، أبعد من ذلك وأعمق، إلى البحث عن (الهوية) التي تؤهل (كريم) المنفي أو المغترب العائد ليبحث عن مكانه في هذا المجتمع المتغير، وربما الجديد. وهو البحث عن (ترجمة) لإحساسه بالمواطنة، وبالانتماء الاجتماعي والسياسي والعاطفي للوطن. إن إحساس (كريم) بالانتماء يقوى، فهو موجود بالأصل، بلا شك، نتيجة الغربة وحياة المنفى، فعندما يسأله أحد أصدقائه- (محسن)- عن حياة المنفى وعن سبب عودته يجيبه:
“- جئت.. يا غريب اذكر أهلك.
“- كنت أتصور أن المقام قد طاب لك.
“- كل أرضٍ، ما عدا أرض وطني، ذكرى عابرة.
“- الغربة صعبة.
“- موت على قارعة الطريق، كيف حالك يا محسن؟”- الرواية، ص46().
مع أن الغربة لم تخل من فوائد له، فهو يقول في مكان آخر:
“.. ليست غربتي كلها شراً وقطيعة. لقد تعلمت منها الشيء الكثير. فهي على الأقل جعلت للوطن في عيني معنى لم أعرفه طوال حياتي على أرض الوطن، وهو الانتماء. كنت أحس، وأنا على بعد آلاف الأميال، بأنني منتمٍ إلى قطعة أرض، هي التي خلقتني، وجعلت لي هذه البشرة، وهذه اللغة، وهذا المزاج، وهذه العادات، وهذه التطلعات، وهذه العيوب. وأنا- لا بد– عائد إليها يوماً… وها قد عدت…”- الرواية، ص161.
إذن فإن (كريم) ليس بشخصية مجردة من دلالات أبعد، بل على العكس، هي تحمل من ذلك الكثير مما قد لا يعكسه ظاهرها. فليس (كريم) صورة مغترب عائد إلى الوطن فحسب، وهو لا يؤدي دوراً في مجرى الأحداث فقط، بل هو، ذاتاً ودوراً ودلالةً، أكثر وأبعد من هذا. ولعل بالإمكان استيعاب أبعاد هذه الشخصية إذا استطعنا أن نستقرئ احتمال أن يمثل (كريمُ) الكاتبَ نفسه في الكثير من جوانب شخصيته وتجربته وأفكاره ورؤيته للآخرين وللسياسة ولمجتمع ما بعد الثورة– ثورة 1958– مقارنة بما قبلها، كما يمكن أن نستشف ذلك من الرواية نفسها ومن سيرة حياة الكاتب. ومع أننا لا نريد، في ذلك، أن نبالغ في تفسير العمل وتحليل رؤيته بدلالة الكاتب وسيرة حياته، ولكن لا بأس من الاستئناس بها إن كان في ذلك ما يلقي ضوءاً على بعض المناطق (المعتمة) في الرواية، كما في الشخصية.
يبدو لي أن الكاتب قد كتب عمله ومنظاره، الذي يتأمل من خلاله المجتمع العراقي، هو منظار مغترب يعود إلى وطنه، وهذا بالفعل ما يظهر أن الكاتب يفعله عملياً– ضمن الرواية– من خلال بطله. ولذا فقد اكتسب هذا المنظار أو الرؤية موضوعية جعلها أكثر قدرة على التقييم وأدق في رسم ملامح المجتمع. ولعل في ارتباط الكاتب، بهذا الشكل، بشخصيته ما يجعل رسم هذه الشخصية حيوية وأكثر قدرة على الإيصال إلى حد بعيد، مع أن مدى تحقق هذا على مستوى الرواية يتخطى حدود (كريم) إلى عموم الشخصيات الأخرى. فغير (كريم)، هناك شخصيات عديدة أخرى تختلف في أدوارها وأهميتها لسير الأحداث ولرسم العالم الذي تتحرك فيه الشخصية المركزية، والذي هو، ضمن موضوع الرواية ومضمونها، العالم الجديد الذي يدخله البطل (لأول مرة). والواقع أن لكل من هذه الشخصيات، من جانب آخر، درجة معينة من الأهمية، ودرجة مختلفة من التأثير في مجتمع الرواية، أو في المجتمع الحقيقي الذي عنته مختلفةً عن تلك التي للأخريات. فتبرز شخصية (مهدي) في معتقداته السياسية الواضحة والصريحة وغير الزائفة، ونضاله، الذي ربما يكون فردياً إلى حد ما، من أجل ثورة حقيقية، يرى أنها لم تتحقق بعد أن انحرفت الثورة، المتحققة حدثاً فقط، أو أخذت تنحرف عن الكثير من مفاهيمها وأهدافها التي يفترض أنها جاءت بها أو من أجلها. وهناك الفلسطيني (إسماعيل) بأفكاره وآرائه عن العراق والعراقيين، وهو يمثل بذلك نظرة موضوعية أخرى كونها ترقب وترصد وتقيم المجتمع العراقي من خارجه وبدون تأثير العواطف الجامحة أو المتفاعلة مع ذلك. هو– أعني (إسماعيل)– يدعم العديد من جوانب نظرة (كريم) المتحققة هي الأخرى في معظمها من الخارج، كما رأينا، قبل أن يتوغل في هذا المجتمع، وقبل أن تفتقد نظرته شيئاً من موضوعيتها نتيجةً لهذا التوغل وربما الانصهار أو الاندماج النسبي في المجتمع. أما (محسن) فيعكس، بشخصيته التي قد تكون في أصلها متطفلة على الثورة وجوهرها، المكانة الجديدة التي أخذت البرجوازية تحتلها. والواقع أن هذه الطبقة، ممثلةً به هنا، تستفيد من انحرافات الثورة عن خطها وخروجها عن الكثير من مفاهيمها، بقدر ما تغذي هذه الانحرافات والخروجات لتؤدي إلى ردود أفعال الجهات الأخرى الأحرص على نظافة هوية الثورة، وبالتالي يحدث التصادم الذي تتنبأ الرواية، بشكل غير مباشر، بتباشيره. أما الفئات الكادحة فقد مثلها الكاتب بشخصية (نوري السائق) الذي يلعب دوراً فاعلاً وإن ليس صراحةً، كما هو حال طبقته أو فئته. في الحقيقة، أن غالبية هذه الشخصيات، كما هو واضح، أناس مثقفون رسّخوا، في ظهورهم في “المخاض” اهتمامات الكاتب بهم وبعوالمهم وطرق تفكيرهم وأدوارهم في عمليات التغيير الاجتماعي والسياسي التي برزت بدايتها في “خمسة أصوات”. لكن الكاتب أعطى اهتماماً أساسياً أيضاً للطبقات الكادحة ممثلةً بشخصية (نوري) هذه إضافة إلى زوجته، و(ياسين)، ضحية الحادث الذي يرتكبه (نوري) بسيارته. والواقع أن لشخصية (نوري)– بشكل خاص– بعداً خاصاً ينعكس من خلال ما قدم في الرواية من أجزاء حياته اليومية، الحاضرة– التي نعرفها من خلال علاقة (كريم) به- والماضية– التي نعرفها من خلال سرده هو لأحداثها التي ترسخ فكرة الكاتب عن التطور. يقول فرمان: “وقد أبرزتُ فكرة التطور في قصة نوري (الحِرَفي) الذي أصبح سائقاً أجيراً”().
وبالرغم من الدور الفني والموضوعي الفاعل لكل من هذه الشخصيات الثانوية المهمة في تطور الخط الحدثي من جهة أولى، وفي النتيجة في حبكة الرواية من جهة ثانية، وفي علاقتها بالشخصية الرئيسة ومساهماتها في رسم هذه الشخصية وتحديد ملامحها الفكرية والدرامية والكشف عنها من جهة ثالثة، نقول بالرغم من هذا الدور المهم لكل منها، فإن هناك ما يؤخذ على الكاتب في جانب من تعامله مع بعضها. فإذا كان هنا جميلاً اهتمام فرمان ببعضها مثل (نوري) للأسباب التي ذكرناها ولتأكيد الدور الذي وضعه لها، فإنه قد انحرف في ذلك، بظني، أكثر مما يجب عن الخط الرئيس للرواية، وأكثر من مرة، حين انشغل بتفاصيل عنها مما لا يخدم هذا الخط ولا يحتاجه العمل ككل، طالما أن هذه الشخصيات هي، في الأساس، ابتُدعت كدعائم للشخصية الرئيسة؛ ويجب أن لا ننسى هنا أن “المخاض” رواية شخصية محورية. وإذا كان لبعض هذه التفصيلات ضرورة، ولاسيما ما يتعلق منها مباشرة بالشخصيات نفسها، فإن الكاتب قد بالغ نسبياً في ابتعاده عن خط الرواية وشخصيتها المركزية في بعض الأحيان حين راح يتابع بعض الخطوط الفرعية المتعلقة بالشخصيات الثانوية مما لا يخدم العمل درامياً، كما فعل مثلاً مع قصة (داود) وأبيه (رجب القندرجي). ويبدو لي أن الكاتب قد وقع في مثل هذا المطب البنائي لأنه خارج من تجربة بناء روايتيه السابقتين على مجموعة عوالم– أهل المحلة ولاسيما (حسين) و(سليمة) في “النخلة والجيران”، والشخصيات الخمس في “خمسة أصوات”– وكأنه غفل عن أن مجموع عوالم شخصيات كل من تلكما الروايتين كانت قد شكلت، في الوقت ذاته، عالماً جامعاً وموحداً للعمل، وهو ما لم يكن ليتحقق في الدرجة نفسها مع “المخاض”. ففرمان لم يكن له ليفعل ذلك ويكون مصيباً فيه في روايته الأخيرة، وهي كما قلنا رواية محورية تدور وتلتف حول شخصية مركزية، وعليه لا يهمنا ولا يهم بناء الرواية نفسها ومضمونها من شخصياتها الأخرى إلا بقدر ما يخدم هذه الشخصية المحورية وخط الرواية الرئيس.
تجاوزاً لهذه النقطة، ينجح فرمان بشكل لا لبس فيه في تشييد معمار فني يعزز تجربته مع تقنيات الفن الروائي. فمع أنه، بشكل عام، لا يتجاوز روايتيه السابقتين، فإن “المخاض”، من حيث التقنية، أكثر معاصرة وحداثة من الأخريين، إذ استخدم فيها تقنيات تيار الوعي الذي وفق فيه بشكل واضح من خلال روايته للأحداث بصيغة المتكلم وانطلاقه في ذلك من دواخل بطله ولكن من تجاربه هو الخاصة، كما لا يخفى على القارئ أو الناقد أبداً. كما تتميز الرواية بلغة دعمت تلك التقنيات لما نعرفه عن حاجة هذه التقنيات للغة ذات طبيعة خاصة وفق الكاتب في توفيرها.
ومع الملامح الرمزية التي يمكن رصدها في الرواية، فإن “المخاض” ليست رواية رمزية، لأنها لا تتبنى الرمز والترميز بالمعنى النقدي النظري كما يمكن أن نراها بشكل واضح في الرواية التالية. وبعد فيمكن أن نقول أيضاً إن (المخاض) تنتمي إلى الواقعية الاشتراكية.
شاهد أيضاً
دراسة عن دروب وحشية
تشكلات البناء السردي في رواية دروب وحشية للناقد نجم عبد الله كاظم أنفال_كاظم جريدة اوروك …