جينات عائلة ميرو

“جينات عائلة ميرو” لعلي الرفاعي
وحدود الواقعية الغيبية

د. نجم عبدالله كاظم
( 1 )
الواقعية الخفية: تجمع بين الواقعية (في..) ، والواقعية السحرية (في..) وكافكا واللامعقول والكافكوية (في..)، والتعبيرية (في..، والسريالية (في..)، والفنتازيا والعجائبية (في..) ، وفي ذلك كله لا يمكن لقارئ أي عمل من أعمال ما نسميه الواقعية الغيبية إلا أن يتذكر أيضاً “ألف ليلة وليلة”. الواقعية الغيبية تقوم على الحقيقي والمعيش والملموس المنظور، لكن هذه الواقعية تقوم على معيش ولكنه غير مرئي وغير ملموس، وقد لا يحضر إلى من خلال شخصيات ووعيها. يتمثل كل هذا بدرجات مختلفة في ما يشبه الاتجاه الجديد في الرواية العربية الأفريقية، وهو الأمر الذي كشف لنا عن أن شمال أفريقيا وجنوب الصحراء منبع الرواية والكنز غير المستثمر كاملاً بعد في كتابة الرواية وتحديداً في: التراث العربي ولاسيما الشعبي الأفريقي والأمازيغي.
نقتحم الرواية، ضمن هذه الواقعية، بدرجة أو بأخرى الواقعية السحرية المعروفة في العالم، ولاسيما في أمريكية اللاتينية، ولكن مع انطلق فيها من سحرية خاصة ربما جاز أن نقول أفريقية عربية، لها خصوصيات أفريقيا وعرب أفريقيا الشعبية والأساطورية والتراثية الملقّحة باأبعاد دينية إسلامية، وغير إسلامية أحياناً، بشكل دقيق أو غير دقيق وفق رؤية الدين. إحدى الروايات التي نراها نموذجية في تجسيد هذا الاتجاه هي روياة السوداني علي الرفاعي “عائلة ميرو” التي سنتوقف عندها في دراستنا هذه.
الرفاعي إذ يدخل، في روايته، عالم السحر، فإنه أبداً لا ينسى أنه يكتب رواية لا يمكن أن تبتعد عن الواقعية مهما كانت بالتصنيف النقدي رواية اتجاه آخر وليست رواية واقعية، وإذ يقتنع، وكما يتّح ذلك في عموم الرواية، أنه إنما يغترف من الواقعية، واقعياً كان أم غير واقع، فإنه إنما يدخل خلال ذلك أو خلافه في عالم لا يمكن أن يكون واقعياً. وعليه، وبناءً على ذلك كله، فهو إذ يقتحم واقعية عربية خاصة سمّيناها واقعية غيبية، فإنه لا ينسى أن هناك اتجاهاً في الكتابة الروائية العالمية، ولاسيما الأمريكية اللاتينية، يُسمى الواقعية السحرية، خصوصاً في تداخل الواقعي والسحري وتقبل الأول للثاني وكأنه مألوف وعادي، حتى وهو أو الراوي أو البطل يعبر بشكل مباشر أو غير مباشر عن أنه يعرف أن ما يراه ويعايشه متمثلاً في شخصيات وأحداث، هو غير عادي أو خارق للطبعية، وعليه لا يمكن أن تدّعي كتابته بأنه خارج ذلك تماماً، وإذ يقتحم بدرجة أو بأخرى تلك الواقعية السحرية العالمية، ولاسيما الأمريكية اللاتينية، لا ينسى أنه إنما ينطلق فيها من سحرية ربما جاز أن نقول سودانية أو حتى أفريقية لكنها عربية في كل الأحوال، لها خصوصيات السودان وأفريقيا والأهم العرب والحياة العربية وأساطيرها وتراثها الشعبي الملقّح بالأبعاد الدينية بشكل دقيق أو غير دقيق وفق رؤية الدين. وهكذا كان هذا الخليط الذي ما كن ليخرج في عمل له جماليته الخاصة، حتى وإن كان عليه من تحفظ منّا أو من غيرنا، ولهذا السبب أو ذلك، بدون حِرِفية غير عادية، بل غير مسبوقة، توفرت فعلاً لدى الرفاعي. والنتيجة أننا، برأيي، إزاء تأسيس اتجاه أو نوع من الكتابة الروائية. وإذا لم لنا، على أية حال، أن نعزل هذا الاتجاه عزلاً تاماً عن ما يشبه التيار الذي يتشكل في السنوات الأخيرة في الكتابة الروائية العربية في شمال أفريقيا، ولاسيما في بلدان المغرب العربي وينطوي على بعض ملامح السحرية المستفيدة من المحلية والتراث الشعبي العربي والأمازيغي، فإن تجربة الرفاعي، على أية حال، في ما نراه اتجاهاً أو نوعاً روائياً يتأسس يبقى يستقل بخصوصية نتوقع أن تتعزز منه في أعمال قادمة، أو من غيره في أعمال أخرى. فما هي ملامح رواية الرفاعي الواقعية السحرية؟: واقعية أمريكا اللاتينية، التراث العري، الأسلوب العربي القديم المحّدث، الجن، الإمتاع، النقد الاجتماعي والسياسي، السخرية، الخصوصية والهوية الخاصة، التراث المحلي، التراث الإفريقي، التراث الأمازيغي، تداخل الواقع والمتخيل، تداخل الواقع والسحر، الغيبيات، الوعي بأن هذا سحر ويمكن أن تصدقه الشخصيات ويمكن أن لا تصدقه، تقبل اللامعقول في عالم المعقول، كافكا، الفنطازيا، العجائبية، ألف ليلة وليلة، الغرائبية، الدروس ولكن بدون وعظية،

( 2 )
إحدى ما نراها أهم الروايات التي تمثلت هذا رواية “جينات عائلة ميرو” التي يأتينا وكأنه جنّي من ذلك العالم الساحر. تبدأ بكلام البطل الراوي مع امرأة نحس أنها غير عادية فننتظر لأن نعرف من هي، وقبل ذلك من هو. سرعان ما نعرف أن الأحداث في نيجيريا، ولكن ليس بعيداً عن السودان، كون البطل من أم بلدة (نواطير) في السودان، بينما فنتوا هي البلدة التي يصلها البطل ليعمل فيها. وزمنياً تجري أحداث الرواية في النصف الثاني من السبعينيات. من لحظات وصول البطل نيجيريا، ، ومن بداية الرواية تبدأ ملامح العالم الذي تهتم به، وكما إلى حد كبير الكثير من رويات هذا الاتجاه، فندخلنا في ما يشبه أجواء روايات الواقعية السحرية، ولكن ذات الطابع الخاص، هو طابع الأجواء الأفريقية وربما طبيعة الرواية العربية. “كانوا جميعًا (عَزَّابَة) تركوا زوجاتهم وراءَهم بالوطن. والرواية بضمير المتكلم على لسان بطلها هذا، الذي يستعيد واقعة اللقاء هو وصديقه (مجذوب) بالمرأة التي لم نعرف من هي بعدُ، كما لم نعرف من هو تماماً. ثم يستعيد لقاءه، قبل ذلك بـ(مجذوب) في الطائرة المتوجهة من السودان إلى نيجريا.
وإذا كانت واقعية علي الرفاعي الخاصة، الواقعية الغيبية، وكما هو حال العشرات من روايات شمال أقريفيا العربية، تشكل نزعة أو اتجاهاً أو مدرسة جديدة، فإنها لا تنفصل، زما ينطوي عليه كلامنا عنها، عن الرواية كما نعرفها، وتحديداً عن الرواية الواقعية والرواية الواقعية السحرية، ومن هنا يأتي أهم منابع التجديد المتميز والمقنع، فعندنا أن أجمل وأكثر ما يحققه العمل القصصي والروائي، وكما هو ربما العلم الإبداعي الأدبي والفني، في نزعته التجديدية هو حينيكون تقليدياً يلجأ إلى التحديث، أو أن يكون حديثاً أو حداثياً لا يغادر التقليد. فهذا هو ما تفعله روايات الواقعية الغيبية، مع أن هذا لا رفضنا التقليدي حين يكون مجيداً، كما لا نرفض التحديثي المعقول المغادر للتقليدي حين يكون مبرراً. وهكذا يأتي أسول الرفاعي مقنعاً حين يقترب، في روايته، حتى من المقامة العربية، إذ هو يأتي مع تحديث. وهكذا إذا كانت الحداثة تقطع العلاقة مع الذات، وما بعد الحداثة تلغي الذات، وبعد ما بعد الحداثة تعود إلى الذات، فإن الواقعية الغيبية تتعامل مع ذلك دون التسليم لأي منه. فيوازن علي الرفاعي، كما لا يوازن روائي عربي، بحدود معرفتي، ما بين حداثة الكتابة الروائية، وأسلوب الأسطورة والتراث الشعبي، واللغة التي يغلب عليها كثير من الموروث، وكل ذلك، بظني لم يأتِ بحساب مباشر وتخطيط مسبّق بحيث قد يخفق أحياناً، بل بحس تلقائي وواعي في الوبت نفسه يمتلكه الكاتب بشكل واضح.
في هذا وفي غيره يُكسب علي الرفاعي روايته هوية تختلف عن هوية الرواية الغربية، أو العربية غربية الأصول، حيث الموضوع، والسخرية، والأسلوب العربي الذي يجمع ويوفّق، كما لا يجمع ويوّفق أحد، بين القديم والجديد بإرضاء وإقناع خالص وعجيب. وهو في هذا وفي عموم الرواية، غالباً إذ ينبع أسلوبه من التراث، لا ينسى أنه يقدم عملاً حديثاً ولقارئ حديث، وإذ ينبع من العصر، فإنه لا ينسى أنه إنما يكتب العربية ويكتب عملاً عربياً.

( 3 )

لم يكن للكاتب أن يحقق  كل ما سبق دون أن يمتلك خيالاً واسعاً، وهو ما امتلكه فعلاً ولكنه مع كل هذا منضبط وغير منفلت، حتى وهو يقتحم عوالم حتى على غرار ما تفعله (؟) في روايات هاري بوتر، التي تحضر فعلاً أكثر ما تحضر خصوصاً في رحلة البطل مع زوجته وأهلها إلى عالم الجن. وامتداداً مع هذا، ومع ما قلناه عن نقل الروائي أو الراوي أو البطل للسحري أو غير العادي أو غير المعقول وكأنه معقول حتى وهو يقر ضمناً أو صراحةً بأنه غير ذلك، تتدحدث (نايلة) للبطل عن كونها من الجن، عندما يتواصل مثل هذا الحديث من أبيها، وكأنها أمر طبيعي، لا يفهم البطل الأمر بسهولة، ولا يستوعبه إلا بعد حين، ولكن مع هذا استيعاب الأمر يسير سموثلي بحيث يدخل البطل في العالم والكلام عنه مع (نايلة) وعائلتها بشكل طبيعي، وكأنْ ليس هناك من شيء غيبي ولا خارق ولا سحري وبتداخل مع الواقع الذي نعرفه، واقع البشر بدون جن، وقد يبدو اللقاء ما بين العالمين والخلقين وكأنه لقاء ما بين مواطنين من بلدين أو شعبين مختلفين، ولعله هذا هو أحد أجمل ما تحققه الرواية في واقعيتها الغيبية، أو في غيبياتها الواقعية، إذا جاز لنا القول. ولعل هذا من جملة أكثر ما يلتقي فيه عالم الكاتب وأسلوبه مع الواقعية السحرية. 
وفي هذا السياق قد يفسّر الروائي أو البطل الراوي، بشكل جاد أحياناً، وبشكل ساخر غالباً، بعض تجارب البشر الغيبية، بتدخلٍ من الجن، قد نحس أنه يريد تعليلها ضمناً على أنها من تخيّلات البشر، وإن لم يصّح بذلك تماماً، إذ هو يتشارك مع البشر الواهم في التعبير بسخرية مبطنة عن تدخل الجن، وقد نحس أحياناً أخرى أنه يقول بتدخل قوى غيبية معينة، هي هنا الجن فعلاً. يقول على لسان الجنية (نادية): " أَكثر من ذلك، فإِنَّ الجِنَّ حتَّى المسلِم منهم." وفي ذلك كله يغلب الأسلوب الساخر على الرواية عموماً. يقول (موسى) للبطل: "- الإِنسان صندوق مقفول مفتاحه قرِينه من الجِـن.."

( 4 )
لا يمكن لقارئ رواية علي الرافعي إلا أن يجده صاحب لغة راقية وغاية في الفصاحة والسلامة، وأحياناً الطرافة، تهيّا سلامة لغوية بامتياز. وهي لغة فصحى وبليغة، ولكن مع عدم تقعّرها.
يحضر القرآن نصوصاً وتناصّاً وتوضيفاً.
غالبية الاسترجاعات، وهي كثيرة ومتواصلة ولكنها قصيرة، تعزز صورة البطل، كما نرى يقصدها الكاتب، بصبغة سحرية شعبية، مجنونة أحياناً.
يُضعف الرواية كثيراً، حين يطيل ويطيل كثيراً في شرح (نايلة) و(نادية) لشؤون الجن، لتصير الرواية فكأنها حديث عنها.
بظني أنه يقع في بعض الأخطاء، ومنها: “نايلة سأَلت أَحدهم بلغة لم أَسمعها من قبل ، فأَخبرها أَنَّ أَهل قتِيل أَدركوا قاتِل ابنهم بالسُّوق وأَكلوه أَمـام أَعين الجميع ، كما يأْكل أَحدُنا قِطعة (بَاسْطَة) . انتحيتُ بنايلة جانبًا وسأَلتُها: “ما هذا الَّذي أَسمع؟ هل منكم أَكَلَة جِن؟!.” وفي المقطع الآتي أظن الكاتب يُخطئ حين يصير كأنه يحكي لنا الحكاية وهي تجري، بينما الأصل هو أنه يحكي الحكاية بعد انتهائها: “من بائِع صُحُف على الطَّريق.”
الشخصيات:
البنسلين أو البانسلين (لقب ولا نعرف اسمه): بطل الرواية وراويها، سوداني يأتي نيجريا بحثاً عن عمل. ونعرف أنه فُصل قبل هذا من عمله في السودان وحُبس، لأنه لم يشترك في مسيرة (مليونية!!) تأييداً للرئيس، وتُلفّق له الاتهامات، مع أنه كاره للسياسة.
عبدالله الطيب: أستاذ (البانسلين) في الماضي، سوداني.
نايلة موسى هارونا: بطلة الرواية، نايجيرية تحب (البانسلين)، ويكتشف أنها جنّية، من عائلة جن.
مجذوب الخير محمد: صديق (البانسلين)، مدرس سوداني في نيجيريا، وسييكنان معاً في نيجيريا.
مريم: أم (نايلة).
موسى هارونا: أبو (نايلة)
نادية : أخت (نايلة) التوأم.
عبد السلام: الجن القرين للبطل.
زينوبة: فتاة يحبها وهو شاب في الجامعة، لكنها تموت أمام عينيه بحادث سيارة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

  • علي الرفاعي: جينات عائلة ميرو، رواية، كتارا، الدوحة، 2017.

عن fatimahassann23

شاهد أيضاً

دراسة عن دروب وحشية

تشكلات البناء السردي في رواية دروب وحشية للناقد نجم عبد الله كاظم أنفال_كاظم جريدة اوروك …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *