عبد الرحمن مجيد الربيعي: عيون في الحلم
نص دراستي للرواية في كتاب “الرواية في العراق وتأثير الرواية الأمريكية فيها”
إذا كان لإطلاق لفظة (رواية) على “الوشم”، مع احتماله للنقاش، الكثير مما يسنده فإن ذلك يتراجع من هذه الناحية إذا ما طبقناه على عمل الربيعي الثاني الذي لا يدّعي كاتبه أصلاً أنه رواية. فلعلّ بالإمكان القول عن “عيون في الحلم”– 1974– إنها شبه رواية، أو قصة طويلة، كما من الممكن القول عنها إنها مادة مناسبة لرواية. وعلى أية حال وجدنا مناسباً أن نسمّيها، مع شيء من التجاوز النقدي، رواية قصيرة، معترفين بجل التحفظات على ذلك. وباعتماد هذا العمل على الحوار، وبصياغة الأحداث بما يشبه اليوميات، فإن تأثير همنغوي في الربيعي يبدأ بالظهور ممتزجاً في هذه المظاهر وغيرها من التي تظهر أيضاً في القصص القصيرة التي ضمتها مجموعة “عيون في الحلم”. ومع وجود السمات المشتركة العديدة التي تربط هذا العمل برواية الربيعي السابقة، مثل الحوار الداخلي والمناجاة والتركيز واعتماد الشكل القصير الطويل– إذا جاز القول– للقصة، واللغة الشعرية الجميلة، فإن هذه الرواية القصيرة تختلف أيضاً عن سابقتها من أوجه عدة أخرى وتحديداً: استخدام الحوار كتقنية رئيسة، وطبيعة الموضوع، وطرح البطل الإيجابي، إذ بينما تعالج (الوشم) سقوط البطل السياسي، فإن “عيون في الحلم” تعالج النضج والوعي السياسي المتنامي للبطل.
تبدأ الرواية بالمعلم (سالم)– الشخصية الرئيسة– وهو يتساءل متبرماً ومتألماً:
“ترى إلى أين ستمتد هذه المنغصات؟ في جيبي الآن أمرٌ بنقلي إلى إحدى القرى البعيدة، هكذا اقتضت المصلحة العامة كما يدعون، حلقة أخرى في سلسلة الألم، لن يتغيرّ شيء”- المجموعة، ص29().
فمن هذه النقطة تتشكل الحلقة الأولى من سلسلة نمو وعي البطل. ومن خلال استخدام الحوار والحوار الداخلي، يرسم الكاتب بطلة من الداخل. ويبدأ هذا التطور فعلياً من يوم أو لحظة وصوله إلى القرية، فنستطيع معه أن نتحسس التطور وهو يسير بشكل فاعل وقوي ومتدرج، ولكنه سريع. ففي اليوم السابق ليوم سفره، تكون مرحلة ما قبل بدء هذا التطور، وفي جلسة شرب، وهو يمسك بيده قنينة عرق، يقول (سالم) مع نفسه بلهجة مكتئبة وشبه يائسة:
“أنا على استعداد لشرب السم إن كان فيه ما ينقذني من واقعي المريع: تف..!”- المجموعة، ص81.
ولكنه، وبسرعة، وبعد انتقاله إلى مكان عمله الجديد يبدأ بقراءة الواقع المأساوي للناس في عيون تلاميذه من أبناء الفلاحين، الذين لم يعرف أمثالهم من قبل وبالتالي لم يُتَح له أن يُسحب من عالمه الذاتي لقراءة هذه المأساة قبل ذلك. ومع أن مأساته تزداد إذ يجدهم ينظرون إليه باعتباره منقذاً، وهو لمّا يزل بعد غير واثق من نفسه، فإن تجاوزاً طفيفاً، ولكنْ مهماً، لأنه بداية فهم واع للواقع، يبدأ بالتحقّق فيكتب إلى حبيبته (منى) قائلاً:
“سأحدثك عن الركون والتشّرد وأحلام الرجال المغلوبين.. سأظل هنا.. لست منهاراً.. ليتني أطيق الحكم بالسخف على كل شيء.. فقاعات على الجرف تهدمها أو هي الرياح… يتأملون وجهي كمنقذ.. لا أملك حتى زمام نفسي.. مجرّد آلة تُدار.. قلبي لك.. ليتك ترينني على هذه الحال، إذن لهربت من حبيبك المنبوذ… تعساً لهذه اللحظات…”- المجموعة، ص92.
وبعد بضع صفحات نبدأ نتحسس التغيرات العملية التي تطرأ على مواقفه تجاه القرية والواقع بشكل عام. فعندما تسأله (منى) عن الحياة في القرية يرد:
“إنها الموت، أسوء عقاب يلحق بي كلّما أطالع وجوه الفلاحين الفقراء دون أن أستطيع مدّ يدي إليهم بعون”- المجموعة، ص114.
والواقع إن هذا هو البداية الحقيقية لخروج (سليم) من تقوقعه على أزمته الذاتية التي لم تكن لتسمح له في السابق برؤية ما هو خارج حدود ذاته وعالمه، للانطلاق في عالم الواقع الذي يجده مخيفاً مريعاً في مأساته. ومن هنا يبدأ أيضاً باحتلال موقع فاعل في هذا الواقع يجعل منه عنصراً خطراً على مسببي المأساة والكآبة والفقر… فيأتي المشهد الأخير ليجيب على هذه الخطورة. إن المشهد الأخير من القصة يأتي مغايراً لأغلب نهايات أعمال الربيعي، الأخيرة بشكل خاص، في فنيّتها وتلقائيتها وانسيابها وعدم مباشرتها، لتكون واحدة من أفضل ضرباته الفنية الجميلة..
“كركرة سيارة تتوقف أمام المدرسة. ينزل منها أربعة من رجال الشرطة المدججين بالسلاح، المارة يتوقفون. الكلاب تنهد صوبهم. التساؤلات تعلو الوجوه. هل حدث أمر؟ من قتل؟ من سرق؟ من جاء بهم في هذا الصباح الباكر؟ يشق رجال الشرطة طريقهم صوب المدرسة. وجوه مقفلة على حقد ونتن. الطلاب مصطفون. نحن أشبال صغار. نحن جند البلاد. وإن سقطتُ
شهيداً. اقرأ أنت. لا تتقاعس. أريد حنجرة صلبة. يتوقف النشيد.
“- نريد المعلم سالم عباس درويش”- المجموعة، ص128.
وبهذه الجملة القصيرة التي يتلفظ بها أحد رجال الشرطة تنتهي القصة، وبها نفهم نحن القراء كل شيء ونعرف كنه الإنسان الجديد الذي تكوّن.
تُقدَّم هذه القصة أو الرواية القصيرة من خلال بطلها. لكن هناك بالطبع شخصيات أخرى حولها لا تضيف إليها وربما إلى العمل كله إلاّ القليل، وهي قد جاءت في العموم مسطحة ظهرت واختفت دون تطور، كما أن مساحتها وامتداها في القصة لم يسمحا لها بأن تحتل من المساحة أكثر مما خطط لها أن تحتله إذا ما وضعنا في البال هنا أن القصة لم يرد لها المؤلف أن تكون في مضمونها وبنائها وشكلها إلا بالشكل الذي كتبها به. ويجب أنْ لا يفهم هذا على أنه مأخذ على القصة، بل هو جاء وفقاً لمتطلبات العمل فنياً وموضوعياً. ومن هنا فقد كان المؤلف في ذلك مقنعاً، حتى إذا ما رأينا أن العمل كان من الممكن أن يمتد، في عالمه وأحداثه وتنامي بطله، أكثر مما امتد إليه فعلاً. وهكذا يسهل القول تماماً إن “عيون في الحلم” قصة أو رواية قصيرة جميلة ومقنعة، بل متميزة. أمر واحد يجب أن لا نتجاوزه بخصوصها، وهو لغتها الشعرية التي تصل قمتها في المنلوجات الداخلية، خصوصاً أن هذه النزعة الشعرية لم تكن عبئاً على درامية القصة وحركتها، بل كانت متناسبة تماماً مع طبيعة القصة وشخصياتها بشكل خاص. والعمل بهذه اللغة، أصبح، برأيي، واحداً من أجمل القطع النثرية العراقية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من أوائل علائم الإحساس باللاجدوى والضياع، والاستسلامية أحياناً، التي ظهرت في أعمال الربيعي التي هي، إلى حد ما، من مشاعر وأحاسيس شخصيات همنغوي في “وتشرق الشمس ثانية”، يمكن أن نتلمسها في “عيون في الحلم”. والربيعي يبدو، في روايته القصيرة هذه، وكأنه كان يعي تأثير همنغوي فيه، وهو يكتب الرواية، بل إن اسم الكاتب الأمريكي يرد أكثر من مرة على لسان أبطال الرواية. في إحداها يقول راويه على لسان بطله (سالم عباس)، وهو يتكلم عن شخصية أخرى من زملاء (سالم) في المدرسة:
“عبد الجبار رجل غائم.. يتوق للسفر إلى أسبانيا ليسمع موسيقى الأسبان ويرقص بلا قيود ولا عيون (لقد أفسدني همنغوي) هكذا يعلن إن اشتد به الحلم”- الرواية، ص93().
ومع أن همنغوي قد كتب، كما نعرف، عدة أعمال عن أسبانيا، فواضح أن شخصية الربيعي هنا تشير إلى “وتشرق الشمس ثانية”، بشكل خاص. والربيعي يذكر الرواية، على أية حال، بشكل صريح في الحوار الآتي الذي يجري بين مجموعة شخصيات “عيون في الحلم” في جلسة شرب:
“الكؤوس بين مدّ وجزر.
“- بلاد الشمس والحب هناك خلف البحر، وأنا هنا في هذه القرية!
“نوري يتساءل:
“- أية بلاد تقصد يا أستاذ عبد الجبار؟
“- عجيب! ألم تر الخارطة؟ ألم تسمع بأسبانيا؟ اقرأ (الشمس تشرق غداً) وستعرف؟
“رشيد يعلّق:
“- أما أنا فلا أُتعب دماغي بحلم أكبر من حجمه. ولم يدِرْ بخلدي أنْ أعبر جسر المدينة بعد. حتى مجيئي إلى هذه القرية كان على نفقة نوري، فهو الذي دفع أجور السيارة”- المجموعة، ص96-97.
واضحٌ أيضاً أن “الشمس تشرق غداً” هي “وتشرق الشمس ثانية”، أو ربّما هو عنوان إحدى ترجماتها. والواقع أن هذه المجموعة من الشخصيات تجسّد، ومن أوجه عدّة؛ في حواراتها، وأفكارها، ضياعَها المرحلي وأحياناً تطلعاتها الحلمية والواقعية، وفي سلوكها وتصرفاتها وجلساتها، الجوَّ العام لرواية همنغوي وإيقاعَها، مع فرق رئيس واحد، ذكرناه ضمناً فيما سبق، ذلك هو أن الربيعي يقود بطله، الضجِر والقلِق والمملوء مللاً وسخطاً، في طريق غير طويل باتجاه الوعي السياسي الذي يبدأ بالتسلل إليه، كما عرفنا في فصل سابق، من لحظة وصوله القرية، مع إضفاء مثلِ هذا الوعي والنضج على شخصيات أخرى في القصة ابتداء، مع مقدرة على الفعل الإيجابي واتخاذ القرار ورؤية الهدف، في حين لا نتلمس مثل هذا في رواية همنغوي. أما في طريقة تصوير الكاتب لشخصياته عموماً، وبغض النظر عن مواقفها وسلبياتها وإيجابياتها، وفي حواراتها وردود أفعالها، وعلى مختلف المستويات، فإنها انعكاس لما موجود في “وتشرق الشمس ثانية” إلى حدّ كبير()
شاهد أيضاً
دراسة عن دروب وحشية
تشكلات البناء السردي في رواية دروب وحشية للناقد نجم عبد الله كاظم أنفال_كاظم جريدة اوروك …