عبد الرحمن الربيعي، الوشم

عبد الرحمن مجيد الربيعي: الوشم
نص دراستي للرواية في كتاب “الرواية في العراق وتأثير الرواية الأمريكية فيها
“الوشم”– 1972– هي محاولة عبد الرحمن مجيد الربيعي الأولى للدخول إلى العالم الساحر، عالم الرواية، وهي المحاولة التي وُفقت في تقديم واحدة من أهم الروايات العراقية، وتعرضت لموضوع سيصير محط اهتمام روائيين عرب يقدمون فيه روايات عديدة. إن موضوعة الرواية، أم هل نقول موضوعتين، هي السجن والسقوط السياسي. وهي تعالج واقع الستينيات في العراق الذي شهد العنف والصراعات الدموية بين القوى السياسية المختلفة، وتوالي الانقلابات والثورات والتغيرات السياسية العديدة، والاعتقالات والاضطهاد والقمع السياسي، وما نتج عن ذلك من ضياع وانهيار وسقوط سياسي ونفسي للآلاف من الشباب في البلاد. وهي عالجت ذلك كله، هو ذاته أو نتائجه، وصراحةً أو ضمناً، من خلال متابعة تجربة شخصيتها الرئيسة التي تعكس، في الوقت ذاته، تجارب الآلاف من شباب ذلك الزمن. فعمود “الوشم” هو سقوط بطلها (كريم الناصري) سياسياً وتأثير هذا السقوط فيه، كونه– أعني السقوط السياسي– يوازي، وفق معالجة الكاتب له، عدم النقاء أو بالأحرى التدنيس الذي يحس، ونحس معه، أنه قد لحق به، ويحاول، ربما صادقاً، التخلص منه. إذن فهذا الدنس يلحقه كنتيجة أو كوجه آخر لسقوطه، مع أننا لا نمتلك الحق كاملاً، مع ذلك، في إدانة البطل عليه، لأن هذا السقوط لم يكن في حقيقته سقوطاً فردياً منعزلاً عن كل ما حول البطل، ولم يكن ليحدث وحده. إن الاطلاع على ظروف الستينيات التي نبعت الرواية منها، كما أشرنا إلى ذلك، تبين أن تجربة (كريم) القاسية والسلبية إنما كانت تجربة مجتمع بكامله. مع ذلك فإننا من الممكن أن نعترف بعدم اكتمال الشخصية السياسية لهذا الذي كان (مناضلاً) يوماً ما. وهنا نعتقد أن معظم النقاد يتناسون الجانب الأول من هذه الملاحظة والذي يمنح الموقف النقدي تجاه هذه الشخصية موضوعية. واستناداً إلى النظر من خلال هذه الزاوية، يجب أن توجه الإدانة في معظمها إلى هذه الظروف والأنظمة التي كانت سائدة في الوطن العربي في ذلك الزمن قبل أن تنصب هذه الإدانة على (كريم) نفسه، “… لأن البطل بحكم الظروف الموضوعية والقمع والإرهاب يُضطر فعلاً إلى التنكر إلى مبادئه ووأدها إطلاقاً باعتبارها كانت السبب الرئيس في اعتقاله وتعذيبه، وباعتبارها أيضاً علامة من علامات واقع سياسي واجتماعي قوامه مصادرة الحريات وتكميمها وملاحقة الأصوات المعارضة”().
نعرف من الفقرات الأولى من الرواية، أن (كريم الناصري) سياسي سابق، أُطلق سراحه مؤخراً من السجن الذي قضى فيه سبعة أشهر انتهت بتقديمه براءة من حزبه. ومن الفقرة الأولى تماماً نحس الشخصية الجديدة المحطمة التي حملت بخروجه من المعتقل معاناة وأفكاراً وأحاسيس غير سوية نبدأ برصدها تدريجياً مع القراءة:
“تنفس كريم الناصري هواء الشارع بعد اختناق عريض. سبعة شهور حائرة طوقته بدقائقها ووعيها، وهرست منه الدم والعظم والأعصاب.
“خرج كريم الناصري سالماً، طويلاً ومبتسماً، يتفقد الأصدقاء ويرد التحية على الآخرين ويستقبل تهنئتهم بمناسبة إطلاق السراح. ولكن في داخله كان هناك شيء قد نُسف. وهذا الإطار الاعتيادي الوقور ما هو إلا قناع لإضفاء البقايا وتغطية التدمير الذي لا يرمم.
“وعندما يستعرض أشياء هذه المدينة… لا يجد تلك الحرارة الأولى التي كانت تشده إليها، فتلفحه حمى الاغتراب ويدعوه صوت من الأعماق لأن يحمل رفاته ويقلع لعل رأسه اللائب تحتضنه وسادة أمان”- الرواية، ص39().
تتطور أحداث الرواية بعد ذلك بسرعة، وينكشف الصراع داخل بطلها، من خلال استخدام الكاتب لتقنية تيار الوعي التي اعتمدها بشكل أساس في كتابة العمل كله. الرواية، بكلمة أخرى، هي قصة الرحلة التي يقطعها (كريم الناصري) للتخلص من التدنيس الذي يلحقه. إن صوت (كريم) يبقى هو صوت الرواية، وكما يقول عبد الرضا علي، “إنه صوت البطل المأزوم ذي الشرف السياسي المهدور الباحث عن ظلمة يُخفي فيها وجهه الذي بدا يخاف الضوء بعد أن كان يبحث عنه”(). وأبرز الطرق التي يستخدمها البطل للتخلص من تأزمه وللخروج من اشكاليته وتطهير نفسه من الدنس، وأحياناً لمجرد نسيان ذلك كله ونسيان الخزي الذي يحسه، هي العلاقة مع المرأة. في الحقيقة تبقى هذه الطريقة بشكل تجارب غير ناضجة أو غير كاملة يلجأ إليها، عن وعي منه أو لا وعي بما يهدف إليه من ذلك، طيلة امتداد الرواية، مع الإخفاقات وحالات السقوط أو الهروب التي تقع في هذه التجارب– العلاقات. وهي، أعني العلاقات وبالتالي النساء أنفسهن، تكتسب مدلولات أبعد من ظاهرها. ففي الماضي، وقبل الاعتقال، وحين كان النقاء والالتزام السياسي، كان لـ(كريم) علاقة بـ(أسيل عمران) التي أراد أن يكون معها بكل ثقله. ولقد كان حبه لـ(أسيل) والتزامه السياسي يندمجان سوية في عالم يضمه ويضفي عليه انسجاماً خاصاً مع النفس ومع كل شيء..
“يوم عرفت أسيل عمران، أردت أن أكون معها بكل ثقلي. وتوحدنا في مجرى واحد، علاقة واحدة وتطلع واحد، فرحة واحدة وعبوس واحد. وكان الحزب عالمنا. وأوغلتُ بعيداً، وتسرب التعب إلى خطواتي، وكان الأمان في حواراتنا
الناعمة أنا وأسيل التي كنّا نسرقها من التنظيم والزمن فينطرح رأسي على وسادة من الحرير والموسيقى”- الرواية، ص48.
لكن ذلك كله يتغير، فيُعتقل، وبيدأ النهاية بالنسبة لحياته السياسية. ومع بداية النهاية تختفي (أسيل عمران) من حياته، ومع الانهيار الذي تأخذ تتداعى معه شخصيته بمختلف جوانبها، يكون التشبث بالحياة التي يبدا يحس أنها تبتعد عنه منذ أن دخل السجن، فيقدم براءته التي تكون جواز خروجه من السجن، ليبدأ محاولات شبه يائسة لبناء حياته من جديد، من خلال إقامة علاقة جديدة، ترتسم نهايتها من البداية، مع (مريم عبد الله)، المرأة المتزوجة وزميلته في عمله الجديد حالماً. أن يبدأ معها حياة جديدة، يبدو في أعماقه غير مؤمن بإمكان تحقيقها متسائلاً في إحدى مناجاته لصديقه الثقة (حسون):
“هل استطيع أن ابدأ مع مريم؟ أنني أسال نفسي هذا السؤال. ولكنني أعود وأُبعد الحكاية كلها عن رأسي، فهي علاقة محكوم عليها بالإعدام منذ البداية.. أوه يا حسون إنني أهذي”- الرواية، ص43.
ولذا فسرعان ما تنتهي هذه العلاقة، في الأقل بالنسبة له، فتحترق (مريم عبد الله) في داخله، ويرمي ورقها في سلة مهملاته، بعد أن تتحول عبئاً مضافاً عليه، قائلاً لـ(حسون) عنها:
“أحس بأن حبي لمريم قد تحول إلى حقد دفين، فهي عثرتي بعد أن نهضتُ، وسجني بعد أن تحررتُ”- الرواية، ص98.
والواقع أنه لم ينهض ليعثر من جديد، بل هي مبررات يحاول أن يداوي بها جراحه، ربما هو نفسه غير مقتنع بها، أو ربما هي إحساساته فعلاً لفترة بعينها.
أما العلاقة الوحيدة الصحيحة التي ينجح (كريم) في إقامتها مع المرأة، فهي علاقته بـ(يسرى توفيق). و(يسرى)، عندي، تمثل هنا المستقبل الذي يحاول (كريم) أن يبني فيه حياة جديدة ويصنع له فيه مكاناً يأوي إليه، بعد فشله المتكرر. ولكن كما يفقد التزام الماضي مع (أسيل عمران) وكما يسقط في تجربته المُرّة– عثرته– في الحاضر مع (مريم عبد الله)، فإن (كريم الناصري) يفقد مستقبله وأمله ببداية جديدة في هذا المستقبل مع (يسرى توفيق). ولم يكن هذا الفقدان والفشل في ضمان المستقبل بسبب تجارب الماضي والحاضر فحسب، بل بسبب استمرار الظروف الموضوعية المحيطة به من جهة، وبسبب عدم اكتمال شخصيته السياسية من جهة ثانية. يقول عبد الرضا علي: “إن كريم الناصري رغم كل ذلك الارتماء المفرط في علاقاته العاطفية خرج بجواب سلبي لأهم ما كان يشغله، إذ وجد أن المرأة لا يمكن أن تكون تعويضاً كاملاً عن الخيبة السياسية، وعليه أن يجرب شيئاً آخر، لذا فقد قرر الاغتراب مكانياً، لعل في هذه الغربة تسليةً لغربته النفسية التي يعيشها(). بعبارة أخرى، ولأن (كريم) لا يستطيع أن يغرز جذوراً عميقاً في الأرض التي يمارس هذه الحياة عليها، ويأبى اختيار الطريق الآخر الذي اختاره صديقه (حسون) من قبل– طريق الله– فإنه يسلك الطريق الصعب، تاركاً البلد وقائلاً لـ(مريم):
“إنني مسافر غداً إلى الكويت. لقد استقلت من الجريدة والشركة معاً وسأبدأ حياتي هناك من جديد”- الرواية، ص121.
ومع أهمية هذه الشخصيات النسوية فناً ومضموناً للرواية، فإنها لا تكتسب هذه الأهمية، في الواقع، إلا من خلال علاقتها بالبطل، شأنها في ذلك شأن الشخصيات الثانوية وأحياناً الرئيسة– ولكن غير المركزية– في العديد من الروايات العراقية التي ناقشنا بعضها. ويجب القول هنا، لكون الرواية قائمة على الشخصية المحورية فإن الشخصيات الأخرى لا تكتسب عموماً هي الأخرى أهمية إلا من خلال مثل هذه العلاقة، ومن خلال مساهماتها في بناء تلك الشخصية المركزية أو في أكمال رسمها. وهكذا تبرز الدلالات الرمزية للشخصيات النسوية، في “الوشم”، تبعاً لما تمثله كل واحدة في مسيرة (كريم الناصري) أو حياته؛ وعلى أية حال نحن نتعرف عليهن في الغالب، من خلاله، عن طريق تداعي الأفكار والمناجاة والحوارات الداخلية. وربما أمكن القول الشيء نفسه عن الشخصيات الرجالية المهمة، ولاسيما (حسون السلمان) الذي تأتي أهميته من كونه الصديق المقرب لـ(كريم) وكونه الخيط الذي يربطه بالعالم الذي تركه في الماضي. بتعبير آخر نستطيع القول إنه يشكّل ما يصطلح على تسميته (الثقة وكاتم السر) Confidant().
لا تنبع أهمية “الوشم” من موضوعها ومعالجتها له فحسب، بل أيضاً من كونها تشكل تجربة فنية- بنائية وشكلية وتقنية- جديدة في الكتابة الروائية في العراق، وربما في الوطن العربي عموماً. وفيها “حاول الكاتب أن يتخلص من الأسلوب الروائي التقليدي، وما أشك في أنه بذل جهداً كبيراً للوصول إلى هذه النتيجة، إن لم يكن مجهوداً فنياً، بمعنى الأداء الفني، فهو مجهود تقني على اية حال، حتى أن القارئ ليحس وكأن الرواية كُتبت متكاملة ثم استخدم الكاتب المقصّ فبعثر مشاهدها واستخدم الصمغ ليجمع هذه المشاهد مرة أخرى ويلصقها كما اتفق. ولعل هذا الجمع اللافني والتزييني إنما يحكي الحياة نفسها التي كان أبطال الرواية ضحيتها. فما استقامت الحياة لأحدهم ولا كان أحد منهم يسير في حياته إلا بالصدفة التي تنتهي به إلى مأساة”().
وتتوزع مشاهد الرواية وأحداثها هذه على فترات زمنية مختلفة يبقى معظمها، مع ذلك، محدوداً بحدود نستطيع أن نتحسسها بشيء من السهولة، مع أن هذه الفترات الزمنية، بسبب توزّعها بشكل غير منتظم، تتداخل مع بعضها. فنحن ننتقل بدون تمهيدات أو إرشادات مباشرة تقنية من الحاضر إلى الماضي، ومن ثم إلى الماضي البعيد، لنعود إلى مرة أخرى إلى الحاضر، وهكذا طوال الرواية. وهذا واحد من الأساليب التقنية الجديدة في الرواية العراقية التي لجأ إليها الكاتب متأثراً بتجارب عالمية وعربية. فإن هذه القفزات من زمن إلى آخر تحدث باستمرار، وباستخدام تداعي الأفكار عند البطل، والكاتب يستخدم هنا مونتاج الزمان والحوار الداخلي والمناجاة المتداخلة- كما قلنا- بشكل شبه عشوائي تعمّده الكاتب متأثراً فيه، في الأغلب، بالترجمة العربية لرواية وليم فوكنر “الصخب والعنف” بشكل مباشر أو غير مباشر، أي ربما من خلال من قد يكون استخدمها قبله في الرواية العربية، مثل غسان كنفاني وإسماعيل فهد إسماعيل. بل يمكن للقارئ أن يلحظ أن الربيعي قد اعتمد الطريقة التقنية نفسها في الطباعة مستخدماً الحرف الغامق والحرف الفاتح بالضبط مثل استخدام جبرا إبراهيم جبرا لها في ترجمته لرواية فوكنر، واستخدام الكاتبين العربيين لها. وبالاستعانة بهذه التقنية الطباعية، فإن بالإمكان تقسيم الأحداث من ناحية أزمانها المختلفة بالكشل الآتي:
القسم الأول، وهو المطبوع بالحرف الفاتح (حرف أبيض)، مختص للحاضر الذي يعكس حياة (كريم الناصري) بعد إطلاق سراحه، وفي عمله الجديد، وفي علاقته مع الراقصة (شهرزاد) ومع (يُسرى). وهذا القسم يُروى كله بصيغة ضمير الغائب.
أما القسم الثاني، وهو المطبوع بالحرف الغامق (حرف أسود)، فقد كُرّس للماضي الذي يستحضره الراوي عن طريق استخدام الفلاش باك داخل وعي البطل. وهو ينقسم بدوره إلى ماضٍ بعيد– مع (أسيل)– وماض قريب– مع زملائه في المعتقل. وتروى أحداث هذا القسم كلّها بصيغة ضمير المتكلم.
القسم الثالث، وهو المطبوع بالحرف الغامق (الحرف الأسود) والمحصور داخل أقواس التنصيص، مخصص لحوارات (كريم الناصري) الحقيقية والمتخيّلة– بشكل مناجاة– مع صديقه (حسون). ويُقدَّم هذا القسم، بالطبع، بصيغة ضمير المخاطب المتداخل مع ضمير المتكلم.
إن (الوشم) بموضوعها ومعالجاتها لهذا الموضوع، وبتقنياتها المتقدمة والناضجة، تُعدّ بحقّ عملاً متقدماً في حقل الكتابة الروائية في العراق، وربما في عموم الوطن العربي.

عن fatimahassann23

شاهد أيضاً

دراسة عن دروب وحشية

تشكلات البناء السردي في رواية دروب وحشية للناقد نجم عبد الله كاظم أنفال_كاظم جريدة اوروك …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *