عبد الرحمن مجيد الربيعي، الأنهار

عبد الرحمن مجيد الربيعي: الأنهار
نص دراستي عن الرواية في كتاب “الرواية في العراق وتأثير الرواية الأمريكية فيها”
يقول الدكتور علي جواد الطاهر: “أما الربيعي فقد كان ناجحاً في (الوشم) وهو يطلع على القراء لأول مرة في أثر طويل، وقد سماه رواية، وهو أنموذج الرواية القصيرة. ولقد كان قصاصاً فناناً، ويبقى بعدُ الأخذ والردّ في المصطلح. (الوشم) أدخل في القصة الفنية من (الأنهار)، وقد جرّه حماسه غير الموضوعي للتجديد بعيداً عن الميدان، وما كان التطويل مسبباً وحيداً للحصول على اللقب. وما كان الكلام مقياساً للتجديد… فبدت قصة تسجيلية لا يحتمل منهج الحوار فيها وكثرة الرواح والمجيء والطول، إن احتمل، التطويل(). ونستطيع أن نقول إن الربيعي قد خطا، في روايته الجديدة “الأنهار”، أولى خطواته غير المقنعة فنياً، التي ستقوده إلى ما لن يتناسب مع الإنجاز الفني الذي حققه لحد الآن. تتعامل “الأنهار”– 1974– مع مرحلتين دقيقتين، أو بالأحرى فترتين ضمن مرحلة واحدة– من تاريخ العراق المعاصر، وهما فترتا ما قبل انقلاب تموز 1968 وما بعده. ولقد سبب اختيار الكاتب، لفترة لا تزال معاشة، صعوبة كبيرة لأن الربيعي قد اضطر هنا إلى أن يتعامل مع واقع لا زال قائماً وأحداثٍ ما زالت تقع، ولاسيما ما يتعلق منها بالصراعات وردود الأفعال تجاه الثورة التي كانت في أوائل أيامها، وكل ذلك أثناء كتابته للرواية. باختصار نرى أن من أسباب محدودية نجاح الكاتب في معالجته للموضوع، وانطلاقاً من الحقيقة التي عرضناها، أنه لم يكن قادراً على تفحص الموضوع، وبالتالي التعامل معه ومعالجته، بشكل موضوعي، أو تفهم القوى المختلفة وتقييم الأوضاع، وتبعاً لذلك التعبير عنها من خلال كتابة فنية. وربما كان ذلك أيضاً وراء عدم الدقة في اختبار ما نظن أنه قد أراده من شخصيات ثورية، كما سنرى ذلك في مناقشتنا لبطل الرواية بشكل خاص.
ولتغطية كلتا الفترتين اللتين توزعت أحداث الرواية عليهما، استخدم الكاتب تقنية خاصة اعتمد فيها عنصر الزمن أساساً في التنقل وربط حلقات الأحداث، وفي نوعين من القص. إن هذه التقنية لم تكن، برأيي، مقنعة تماماً، ولم يسندها تبرير فني محسوس، بالإضافة إلى أن أحدى الفترتين لم تكتسب، من خلال ما قدمته من أحداث، ضرورة لحبكة الرواية. فإذ تطرح الفترة الأولى– الماضي– والتي تقدم، بضمير الغائب، الأحداث الدرامية المهمة في الرواية وتصوّر تطور الخطّ العام لها، بالإضافة إلى تغطيتها لمعظم المساحة الزمنية والحدثية لها، فإن الفترة الثانية– أوراق صلاح كامل– والتي تُقدَّم بضمير المتكلم، تبدو إلى حد كبير زائدة. فهي لا تشارك الفترة الأولى إلاّ بالقليل مما يخدم العمل وبالتحديد من خلال ما تقدمه عن مصائر الشخصيات ومواقفها تجاه الثورة والتي تكشف عنها (الأوراق). ومع الحفاظ على هذا الجانب الإيجابي هنا، كان بالإمكان معالجة الموضوع شكلياً وتقنياً بصورة مختلفة كأن يستخدم الكاتب، إذا ما أراد إنقاذ روايته من هذا التكلف الفني، تقنية (الفلاش باك) وتقنيات تيار الوعي عموماً، بل حتى الطريقة التقليدية في السرد وتسلسل الأحداث. فبذلك كان باستطاعته أن يلغي ستة فصول على الأقل من مجموع الفصول التسعة التي غطت الفترة التي نتكلم عنها.
لكن هذا كله لم يكن، بالطبع، ليخفي توفيق الكاتب في جوانب مضمونية وفنية وشكلية أخرى، مثل متابعته لتنامي بعض الشخصيات وتطور فصول أخرى تبعاً للخطة التي من الواضح أنه وضعها وبإقناع لم يتوفر في الجانب الأول. إن هذا يؤشر أو بالأحرى يؤكّد، من جديد، قدرة الكاتب التي لم ينصفها صاحبها ولم يطلق إسارها في الميدان الذي تبدع فيه، على العطاء أكثر لو أنه استطاع فقط أن يكون متأنياً حدّ مقاومة الإغراء بالتجديد غير الموضوعي، الذي سبقنا أستاذنا الدكتور علي جواد الطاهر إلى تشخصيه، والذي يبدو لي أنه كان وراء هذا الشكل الفني الذي ظهرت عليه الرواية. هذا يقودنا إلى تشخيص عوامل معينة، نعتقد أنها تكمن وراء ما نراه تراجعاً في مسيرة الكاتب بدأ في “الأنهار”. ولعل من أهم هذه العوامل أولاً: الحماس اللاموضوعي وغير المبرر أحياناً، الذي أشّرناه، للتجديد؛ وثانياً: السرعة التي يبدو لي أن الكاتب قد أخذ يكتب بها وهو يقع في شرك استسهال العملية الإبداعية، وهو ما بدأنا في الواقع نتحسسه في كتاباته بعد نجاحه غير الاعتيادي في الأعمال المبكرة؛ وثالثاً: التطويل والرغبة الواضحة في كتابة الأعمال الكبيرة حجماً؛ ورابعاً وأخيراً: التكلف الفني والمضموني. إن هذه العوامل قد سببت لأعمال الربيعي غير قليل من التبسيط– أن صح التعبير– وغياب الدقة في رواية الأحداث وفي الحوارات وفي رسم الشخصيات. وقد بدأ شيء من هذا كله يظهر فعلاً ابتداءً بهذه الرواية. فمن ذلك مثلاً أننا نجد أنفسنا، في الفصل (20) من هذه الرواية، متعاطفين بعمق مع (صلاح كامل)– الشخصية الرئيسة– وصديقه (خليل)، وهما يجريان في مشهد درامي يفترض أن يكون متصاعداً، بعد مهاجمة الشرطة للتظاهرة التي كانا يشتركان فيها. وفجأة ينسى الكاتب الموقف الدقيق والحرج للشخصيتين، لينقل لنا بقية الحدث بالشكل الآتي:
“وعرج خليل وصلاح في زقاق سينما الشعب، واحثّا السير باتجاه شارع الجمهورية. وكان خليل يقزل في مشيته فقد هُرست قدمه بحذاء أحد رجال الشرطة.
“وتوقفا عند بائع لبن وشربا كأسين من الشنين البارد ثم واصلا المشي المذعور متلفتين بين فترة وأخرى مخافة أن يتبعهما رجال الشرطة”- الأنهار، ص194-195().
إن قليلاً من التأني والمراجعة (الفنية) للعمل كانت ستجنب، بلا شك، كاتباً كالربيعي من الوقوع في مثل هذا الخلل. فواضح جداً أن توقف (صلاح) و(خليل) لشرب (الشنين) لم يكن متّسقاً مع الظرف الذي بدأ به الحدث، وبه انتهى.
وفي مكان آخر لا يمكن للقارئ أن يتلمس أية علاقة بين مفردات كلام (إسماعيل)– إحدى الشخصيات الأساسية– حين يقول:
“الأمور جرت بسرعة، أنا خطبتُ سامية، وهدى خُطبت لشخص آخر، والاضطرابات أجهضت”- الرواية، ص138.
وفي مثال ثالث، في الفصل (22)، يمكن للقارئ أن يلاحظ بسهولة تناقضات عديدة يعكسها كلام (عبد الحميد الفلوجي)– صديق (صلاح كامل)– ضمن حوار يدور بينهما ولا ينمّ عن عناية من الكاتب بما يقوّل الشخصيات به.- ينظر الرواية، ص209-212.
“الأنهار” رواية شخصيات، وهناك خمس منها رئيسة. لكن الرواية ترتكز، في أحداثها وأفكارها وفي مغزاها وفي وجهة النظر المهيمنة فيها والتي من الواضح أنها وجهة نظر كاتبها، على شخصية بطلها (صلاح كامل) الذي تُقدِّم (أوراقه)، إضافة إلى روايتها لبعض الأحداث، بعض الأحكام والآراء الصريحة والضمنية عن الشخصيات الأخرى، من خلال زاوية نظره. من هنا، فلتقييم هذه الأحداث وهذه الشخصيات وأفكارها كان عليناً أن نتابع تطور الرواية وتسلسل أحداثها في محاولة لأدراك وجهات نظر هذه الشخصيات في معزل عن (صلاح كامل)، خصوصاً حين تتسلل بعض وجهات نظرها من رقابة مبدعها المؤلف، بدلاً من الوقوع في أسر وجهات نظره الأساس التي هي، كما قلنا، وجهات نظر الكاتب نفسه. وهنا يخطئ الدكتور محسن الموسوي، بظني، حين يقول: “… ورغم أن (صلاح كامل) مثّل الروائي في سرده لمذكراته وانطباعاته، إلا أنه شخصية فاعلة ومتفاعلة في الحدث، هو من هذه الناحية ابتعد عن الروائي قليلاً مانحاً فرصة النظر بموضوعية إلى الأحداث، لكنه من الناحية الأخرى كان يهمس في أذن قارئه وجهات نظر الروائي في السياسة والحياة والأدب والفن… ومع ذلك فان صوت الروائي، وهذا ما يجعل هذه الرواية فريدة من نوعها في تاريخ الرواية في العراق، كان يضيع ويتلاشى مع الأصوات الأخرى”(). فإذ يضع الكاتب نفسه إلى جانب بعض شخصياته على حساب الأخرى، فإنه يحاول أن يقدم (صلاح كامل) تحديداً بوصفه شخصية مثقفة ورزينة وهادئة، وسياسياً واعية ومفكّرة وعميقة. لكن تتبعاً لمسار هذه الشخصية وأفكارها وسلوكها وحواراتها ومناقشاتها ووجهات نظرها، وعلاقاتها بالشخصيات الأخرى… يكشف لنا عن زيف أغلب هذه الصفات التي حاول الكاتب أن يضفيها عليها. فيمكن ملاحظة هذه الحقيقة بوضوح تام من خلال تتبع طبيعة وتطور علاقته بـ(هدى) مثلاً التي يفترض أنها حبيبته. فـ”لدى البحث عن جوهر العلاقة بين (صلاح) و(هدى) التي احتلت مساحة واسعة من مجمل الحدث الروائي، نرى أن القاص يحاول، وبكل قوّته، أن يسحب البساط من تحت أقدام (هدى) ليوقع بها…”()، على حدّ تعبير الناقد سليمان البكري المصيب. فمن البداية يمكن ملاحظة تعامل (صلاح) السلبي والقاسي لها، كما يتضح ذلك، على سبيل المثال، في الحوار الآتي بينهما، حين تقول له (هدى):
“- صلاح.
“ورفع إليها وجهه مجيباً:
“- نعم.
“- أتعرف بأنني قد حذفت من قاموسي كلمة سمعة منذ أن عرفتك؟
“وتساءل بتهكم:
“- وهل كنت تعرفينها جيدا؟
“وزفرت بانتكاس:
“- لماذا لا تكفّ عن إهانتي”- الرواية، ص40.
وأمثال هذا الحوار والمشهد تهيمن على علاقتهما عبر فصول الرواية، مؤشّرةً الموقف المنحاز للكاتب نفسه، والذي يمكن أن نتحسس وجوده خلف الشخصيات وخلف الحوارات وأحياناً في السرد أيضاً.
والواقع أن سلوك (صلاح) عموماً– وليس مع (هدى) فحسب– يكشف لنا عن أنه شخص انتهازي أكثر منه ملتزماً، وهو يستخدم انتهازيته هذه سلماً لتسلق المناصب العليا بعد (الثورة). وإذا ما كان من الطبيعي أن لا يبرز هذا بشكل مباشر وصريح في الرواية، فإن استقراءها من خلال تطور الأحداث وتطور الشخصية نفسها، وعلاقاتها بغيرها، أمر ليس بعويض، خصوصاً من خلال الحالة الوظيفية والمعيشية التي أظهره عليها المؤلف بعد (الثورة)، إذا ما قورنت بأوضاعه قبلها، واضعين في البال المواقف السلبية المؤشرة أصلاً، سواء أكانت السياسية العملية وليست الكلامية– مظاهرات– أو الخاصة– مع أصدقائه ومع (هدى). وإنه ليبدو لي، من خلال استقرائي للرواية ودراستي لشخصيته واسترجاع شخصيات الربيعي في رواياته كلها، أن (صلاح)، وبشكل من الأشكال، امتداد لـ(كريم الناصري) بطل (الوشم)، بل يمكننا أن نتخيل سقوط (صلاح) بسهولة، فيما لو قدّر له أن يخوض تجربة كتجربة (كريم). فسياسياً هو لم يفعل أكثر من مشاركات عرجاء في تظاهرات، يبدو في إحداها متعباً جداً، بينما يهرب من أخرى ليذهب إلى البيت، وفي ثالثه ينسحب ليأوي إلى مقهى. عدا ذلك، لم نلمس لهذه الشخصية شيئاً يذكر بما يتعلق بالنضال والكفاح من أجل الفكر الذي يفترض أنه يؤمن به ويدافع عنه، بينما لم يظهر، على مستوى الفكر، شيء ملموس من أية ثقافة حقيقية؛ وفي كل الأحوال ليست هناك أية مواقف صلبة يجسدها سواء أكان ذلك على مستوى العمل أم الفكر.
إلى جانب هذه الشخصية، يبرز (إسماعيل العماري) شخصية رئيسة. وهو يبدو على عكس (صلاح) في مواقفه الإيجابية من بعض القضايا، كمحاولاته المثابرة والصادقة لإصلاح علاقة (صلاح) و(هدى)، وفي دفاعه الثابت عن الأيديولوجية التي يؤمن بها، وهو الأمر الذي لم يجسّده (صلاح) في كلا الميدانين. ويمكننا، من خلال الحوار الآتي مثلاً، أن نرصد سلبية (صلاح) ونزقه وإيجابية (إسماعيل) الذي يمكن أن نقول عنه بحق إنه رجل فعل. يقول لصديقه:
“- أما هدى فأهل للحب، لأنها ضائعة دفعتها ظروفها المرتكبة إلى هذا الوضع المتعب.
“وخبط صلاح على الطاولة وهو يعلن:
“- ولكنني لستُ على استعداد للبقاء مع فتاة تعرفتُ عليها متحدياً ومراهناً، أفهمت؟
“- انزع عن رأسك هذه القيم البدوية، ثم لماذا تعتبر كلمات سعدون إدانة أبدية لها؟
“- اسمع إسماعيل. أقول لك صادقاً. في هذا الرأس السخيف ما زالت تعشعش قيمي البدوية التي جُبلت عليها. وكل تقدميتي تتلاشى عندما أواجَه بمثل هذا الأمر، أفهمت الآن؟

“نطق صلاح بصوت أخن:
“- يقول شتاينبك على لسان أحد أبطال قصصه: يستطيع الرجال أن يعتادوا أي شيء، ولكن الأمر يستغرق وقتاً، وها أنا أتمثل برأيه في علاقتي مع هدى”- الرواية، ص90-91.
لكن تصلّب (إسماعيل) ومواقفه المتطرفة من (الثورة) التي لم يستطع إقناع نفسه بأنها القادرة على تحقيق المطامح، تقوده إلى نهاية مأساوية، إذ يترك البلد للانضمام إلى منظمة فدائية فلسطينية في جنوبي لبنان حيث يقتل. وعلى أية حال، يمكن القول إنه، إضافة إلى هذا الموقف المتطرف في صلابته، يسقط ضحية ظروف موضوعية تتجسد في طبيعة الصراعات القاسية بين القوى الوطنية قبل (الثورة) التي لم تكن قد تمكنت بعد– وهي لمّا تزل في أيامها الأولى– من محوها من الواقع تماماً، فكيف بالأذهان التي غرقت سياسياً في لجتها؟. لقد دفعته هذه الظروف المملوء بها ذهنه على ما يبدو، إلى المواقف السلبية والمعارضة، وعليه لم يكن باستطاعته أن يطبق بشكل صحيح معتقداته. وإذا كان صحيحاً، وهو كذلك فعلاً، قول أحد زملائه الفدائيين بعد استشهاده:
“- لم أعرف إنساناً أحب وطنه مثل إسماعيل العماري”(27).
فيبقى أمراً صحيحاً أيضاً أن انضمامه للمنظمة الفدائية الفلسطينية واستشهاده كان محاولة للهرب من الصراع أكثر منه تطبيقاً عملياً لمبادئه. ولهذا يقول رفيقه السابق (خليل الرازي):
“- كان استشهاد إسماعيل العماري انتحاراً”(28).
وربما كان أنجح تجسيدات الكاتب لشخصياته رسمه لشخصيتي (إسماعيل العماري) و(خليل الرازي). والأخير قد فهم الأوضاع الجديدة ورأى بعين استطاعت أن تنظر إلى مدى أبعد مما وصلت إليه رؤية رفيقه، وعليه فقد بادر، على عكس (إسماعيل)، إلى اتخاذ موقف إيجابي من الثورة. وهنا يتجسّد الفرق الأساسي بينهما. وباستثناء هاتين الشخصيتين و(صلاح) و(هدى)، فان معظم الشخصيات الأخرى كانت مسطحة أوجدها الكاتب لتعينه في رسم الشخصيات الرئيسة ولإكمال مفردات الحبكة وتوزيع جوانب عالمها.
إن من الأخطاء التي وقع فيها الكاتب وكانت وراء الاضطراب في معالجته لبعض الشخصيات وفي الحوار، وحتى في الرواية ككل، أنه لم يسمح لشخصياته، في الغالب، بالتفكير والكلام والتصرف بشكل حرّ يختفي معه الكاتب الذي هو المحرك بالطبع وفي كل الأحوال. إنه لم يمنحها الحرية الضرورية – ولو ظاهرياً – بمعزل عنه وعن سيطرته ورغباته الذاتية، بل إنه فرض شخصيته التي لم تختف إلاّ جزئياً، عليها بدلاً من أن يتمثل، في تعامله مع شخصياته، رأي اندريه جيد، على سبيل المثال، حين يقول: “إن الروائي الحقيقي يستمع لهم (لشخوصه) ويراهم في تصرفاتهم بل هو يسترق السمع إليهم حتى قبل أن يتعرف عليهم. ولا يفهم من هم هؤلاء إلا تبعاً لما يسمعهم يقولونه”(). ومع عدم الاستهانة بهذه المآخذ والأخطاء التي نسجّلها على الكاتب فان ذلك لم يؤدّ بالرواية إلى أن تكون عملاً ضعيفاً. إن رواية (الأنهار) تعتبر وبشكل عام ناجحة مع تحفظ جزئي، إضافة إلى أن الربيعي يبدأ فيها اتجاهاً، ينطوي على جدة غير قليلة في الكتابة الروائية في العراق، وهو ما اصطلحنا على تسميته باتجاه الرواية الواقعية القومية، وهو الاتجاه الذي يتبع الربيعي فيه كتاب آخرون، خاصة في السنوات الأخيرة. إن المشكلة الأساسية الأخرى هنا والتي تضيّع على الكاتب شيئاً من أهمية شقّهِ لهذا الاتجاه، أن الربيعي نفسه قد أخفق في إثرائه أو تطويره، على الأقل من خلال الروايات التي كتبها في المدة التي يغطيها بحثنا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مع أننا مرة أخرى، لا نجد الربيعي في “الأنهار” مقلِّداً لهمنغوي، إلاّ أن تأثره قد أخذ يفقد نسبياً بعض إيجابياته بما يعني ضمناً أنه احتفظ، بدرجة من الإيجابية. ولدراسة رواية “الأنهار” ورواية همنغوي التي تأثر بها أكثر من غيرها، “والشمس تشرق ثانية”، دراسة تطبيقية مقارنة، يجدر بنا أولاً أن نقارن بين شخصيتي رواية الربيعي الأكثر خضوعاً لمثل هذه الدراسة، (صلاح) و(هدى) وعلاقتهما من جهة، وشخصيتي رواية همنغوي، (جاك) و(بريت) وعلاقتهما من جهة أخرى. ومن المفيد أن نشير إلى مفارقة عدم وجود تشابهات كثيرة بين (جاك) و(صلاح) كشخصيتين مستقلتين عن علاقتيهما، فبطل “وتشرق الشمس ثانية” رجل محبط، لا يجد طعماً لأي شيء يحيط به، وذلك يعود بشكل أساس إلى عنّته إلى ألمّت به نتيجة إصابة قديمة في الحرب، والى إحساسه العميق بعبثية الحياة ولا جدواها. لكن هذه الأحاسيس، وفي مفارقة أخرى، لا تؤثر في موقفه الحميم تجاه أصدقائه والمحيطين به، ولا في شعوره وحبه النقي والمتجرد من الغاية الذاتية لـ(بريت) رغم كل تصرفاتها اللامسؤولة والعابثة أو غير المستقرة. في الجهة المقابلة نجد بطل (الأنهار) رجلاً متفائلاً طموحاً وذا كبرياء، ربما مبالغ فيه أحياناً، وقد يكون وراء أنْ جاء في الوقت نفسه أنانياً ومغروراً ومتبجحاً، وخشناً أحياناً، ولاسيما في علاقته مع (هدى). ومع كل هذه الاختلافات بين (جاك) و(صلاح)، فإننا لا يمكننا إغفال تأثير معالجة همنغوي لشخصية (جاك) في معالجة الربيعي لشخصية (صلاح)، وذلك ما سنأتي إليه في بحث وتحليل علاقتي (جاك– بريت) و(صلاح– هدى) بعد قليل. ويبدو لي أن الربيعي قد تعاطف مع بطله بشكل خرج عن الموضوعية أحياناً إلى الحدّ الذي أثر في تصويره لشخصية (هدى) في محاولة لإظهارها فتاةً غير محبوبة ورديئة الطبع، وربما فاسدة، وهو يستعير، في محاولة تصويرها بهذا الشكل، الكثير من صفات (بريت) مع خلاف عضوي يكمن في أن همنغوي، على خلاف الربيعي، لم يكن يحاول، عن قصد واضح، خلع مثل هذه الصفات على بطلته، ولذا فقد كان مقنعاً دائماً في تعامله معها وتصويره لها. فلنحاول، قبل التوسع في هذا، أن نرى أي نوع من الفتيات هي (بريت)، كما تُفهم من سلوكها بشكل خاص. تبدو (بريت) فتاةً ضائعةً لا تعرف ماذا تريد بالضبط، تماماً كما لو أنها قد فقدت رغبتها وشهيتها بالحياة وبكل ما فيها، وهي لا تستطعم شيئاً ولا يعرف الاستقرار طريقاً إلى حياتها ولا إلى أي شيء تحبّه أو تفعله، حتى وإن بدتْ، ظاهرياً وفي انطلاقها وبحثها عن اللهو والعبث والمتعة، غير ذلك في كثير من الأحيان. فهي لا تميل إلى شيء أو تحبه إلاّ لتعود فتملّه وربما تبغضه بعد مدة قصيرة، وذلك واضح في سلسلة علاقاتها الطويلة بالرجال بشكل خاص. فهي امرأة متزوجة، لكنها تحب (جاك) الذي لا يستطيع أن يلبي حاجاتها الجنسية، كما نعرف، لذا فقد وجدت ذلك عند أشخاص آخرين، فتكون على علاقة بـ(الكونت ميبيو بولس)، ويدرك (جاك) بعد ذلك أنها كانت على علاقة قصيرة بـ(كون) كما تخطط للزواج بـ(بيل)، لكنها سرعان ما تقع في حب (بدرو روميرو) الأسباني الذي لم يستمر، هو الآخر، معها لتعود أدراجها إلى (جاك) الذي وجدتْه ملجأها وصديقها المملوء حباً وحناناً، كما هي تجده متى ما تحس بالوحدة والضياع.
ولنا أن نتوقع من الربيعي، وهو يتعامل في روايته مع مجتمع يختلف عن مجتمع “والشمس تشرق ثانية”، أنْ يرسم صورة (هدى) بشكل مختلف عن صورة (بريت) بالتأكيد، وذلك ما فعله فعلاً وما أشرنا إليه سابقاً. لكن الذي يهمنا هنا أنه قد استعان بالكثير مما أضفاه همنغوي على بطلته، في رسم شخصيته، فكانت (هدى) الطالبة في أحدى الكليات على علاقة حب بزميلها (صلاح)، لكننا نعرف مع سير الرواية أنها كانت ترتبط بعلاقات عديدة سابقة مع عدّة رجال في مدينتها بعقوبة، قبل أن تدخل الكلية. وحين تضطرب علاقتها بـ(صلاح) تُخطب بسرعة لرجل غني يُدعى (محمد الثامر) لكن الخطوبة لا تدوم، وسرعان ما تُفسخ بعد أن يعرف خطيبها بماضيها. وفي الفصول الأخيرة من الرواية، وكأنّ الروائي لم يرد أن يفّوت فرصة دور طعنه لبطلته، يخبرنا (حسين عاشور)، إحدى الشخصيات الثانوية، بأنه هو الآخر كان قد أقام علاقة قصيرة معها بعد انتهاء علاقتها (بصلاح)، لتنقل بعده إلى طالب آخر، ثم آخر… وهكذا. ومع وضوح الهوية العراقية في بطلة الربيعي، كما قلنا، فان التشابهات تبدو كبيرة وعديدة بينها وبين بطلة همنغوي.
وإذا ما درسنا العلاقة بين (صلاح) و(هدى) لوجدنا خطوط الارتباط بينها وبين علاقة (جاك) و(بريت) كثيرة، مع فوارق في مواقف الكاتبين لا تنفي التأثّر الذي نعتقده بقدر ما تعززه. فمن الفصول الأولى من رواية الربيعي نعرف بالعلاقة القائمة بين (صلاح) و(هدى)، وبأنها علاقة حب معروفة جداً بين الآخرين، ولكن قبل أن نعرف أكثر عن متانتها وحياتها وديمومتها نقرأ رأي (خليل الرازي) بها حين يقول:
“- علاقة محيّرة، ولا أدري لماذا لا أتفاءل لها؟
“وردّت عليه سامية سعيد بصوت ناعم:
“- ولكنهما قررّا الزواج.
“وأطرق إسماعيل ثانية ليتم رسم صورتها وهو يقول:
“- هل يكفي القرار وحده”؟- الرواية، ص30.
ونحن نعرف بأن ليس القرار وحده في هذه العلاقة، بل هناك الحب، ولكنه الحب الذي يبدو أن الكاتب قد حكم عليه من البداية بالفشل والموت، على الأقل لأنه وبطله يريدان ذلك. وإذا ما ذكّرنا هذا بما فعله همنغوي إذْ اصطبغت علاقة بطليه (جاك) و(بريت) بالموت، عندما جعل بطله عاجزاً جنسياً، فإن الربيعي بدلاً من أن يجعل سبب فشل العلاقة بين بطليه بايولوجيا أو ظرفياً، سعى إلى تشويه شخصية (هدى)، محاولاً أن يظهرها فتاةً فاسدة ومشاكسة؛ فطبيعي مثلاً، في العراق، أن لا نتوقع زواج رجل مثل (صلاح) من فتاة مثل (هدى) يحمل عنها فكرة سيئة ويتعامل معها بطريقة يجسدهما الحوار الغريب الآتي:
“- صلاح
“ورفع إليها وجهه مجيباً: نعم.
“- أتعرف بأنني قد حذفت من قاموسي كلمة سمعة منذ أن عرفتك؟
“- وهل كنت تعرفينها جيداً؟
“وزفرت بانتكاس: لماذا لا تكف عن اهانتي؟”- الرواية، ص40.
ونشير هنا إلى أننا نجد مثل هذا الحوار بين (جاك) و(بريت)، ولكن ربما مرة واحدة، عندما كانا يستعدان فيها لرحلة إلى أسبانيا بعد إنهاء (بريت) لعلاقتها القصيرة بـ(كون):
“نظرت إليَّ بريت وقالت: أريد أن أقول: هل سيشترك روبرت كون في هذه الرحلة؟
“- نعم، لماذا؟
“- إلا تجد أن ذلك سيكون مؤلماً له بعض الشيء؟
“- ولماذا يكون كذلك.
“- ومع أي شخص تعتقد أني قد سافرت إلى سان سيباستيان؟
“فقلت: تهنئتي لك.
“واستمرينا في سيرنا.
“- لماذا قلت ذلك؟
“- لا أدري.. ماذا كنت تودين أن أقول؟
“- لقد ظننت، في الواقع، أن ذلك سيكون مفيداً له.
“- ربما أنت تمارسين الخدمة الاجتماعية.
“- لا تكن خشناً”().
لكن مثل هذا الحوار لم يتطور ولم يتكرر في رواية همنغوي، كما لم يغطّ بما فيه على شعور (جاك) وموقفه من (بريت)، كما حدث في رواية الربيعي.
ومن الأمور المهمّة بخصوص البطلتين أن كلتيهما ضائعتان وبائستان؛ يقول (إسماعيل العماري) في (الأنهار):
“- أما هدى فأهلٌ للحب، لأنها ضائعة منسحقة دفعتها ظروفها المرتبكة إلى هذا الوضع المتعب”- الرواية، ص90.
بينما تعبّر (بريت) عن نفسها وإحساسها عندما تقول لـ(جاك):
“آوه. حبيبي، أني بائسة جداً”().
وبسبب موقف الربيعي غير الموضوعي وغير المبرر من شخصيته (هدى) فإن بطله لا يتفق رأياً وموقفاً مع موقف (إسماعيل العماري) المتعاطف مع الفتاة، بل هو حتى لا يقترب منه ولو بدرجة بسيطة. هو لا يكاد يألو جهداً في تحطيمها وإسقاطها تماماً، حتى حين تستجدي منه العطف والحب، وهو الذي يفترض أن يكون حبيبها في كل الأحوال. فلنتأمل مثلاً موقفه ورد فعله وهو يسمعها تلتمس منه ذلك في المقاطع الآتي:
“- أنا إنسانة بائسة يا صلاح، فهل تستطيع أن تعوضني عن كل ما فاتني من مباهج وأفراح؟ عاملْني كطفلة، اشترِ لي الحلوى والدمى، امسح بيدك على شعري، اطرد عن حياتي كل الأحزان، أبعد عني الألم واليأس.
“ثم خّرت على الأرض كالمصلّي، ومدَّ أنامله لتمسح الدمع.
المنحّدر عن عينيها. وهبّ من مكانه. وتقدم بخطوات عريضة باتجاه باب الكلية… بعد ذلك سأله إسماعيل:
“- إلى أين؟
“- لا أدري، لن استطيع أن أمكث في الكلية.
“وتمتم إسماعيل بخفوت لم يسمعه: أيّها الهارب من ظلّه”- الرواية، ص161.()
هو هارب فعلاً، من أية مسؤولية أو مواجهة، بل هو يهرب من أقل المواقف خطراً أو صعوبة أو مسؤولية كأي جبان. أمّا حين تلتمس بطلة همنغوي (بريت)، مساعدة (جاك) في نهاية “وتشرق الشمس ثانية”، فإنه يستجيب لالتماسها ويهرع إليها بدون أي تردد، رغم بعده مسافةً غير قليلة عنها، ورغم كل ما كان قد جرى منها مما آلمه وربما جرحه.
وواضح أن تأثير رواية همنغوي يمتد إلى أبعد من ذلك، حتى يطال الشخصيات الأخرى في الرواية والجو السائد في الكثير من مشاهدها كتأثير الأجواء التي نتحسسها في فصول “وتشرق الشمس ثانية” الأخيرة في فصول “الأنهار” التي تتعامل مع الماضي. فالطريقة التي يقضي بها الطلاب الأصدقاء في رواية الربيعي أوقاتهم، والأجواء التي تسود لقاءاتهم والأحاديث التي تدور بينهم أثناءها، في البارات والمقاهي، تُشبه كثيراً ما يسود تجمعات شخصيات همنغوي وجلساتهم وأحاديثهم في مقاهي أسبانيا. بقي أن نشير إلى أننا نحسّ روحَ إحدى شخصيات همنغوي في واحدة من شخصيات “الأنهار” الثانوية، الأمر الذي يستحق الإشارة هنا. فـ(حسين عاشور) شخصية ضعيفة، همّه منصب أساساً على إقامة علاقة مع أية فتاة، ولكن دونما نجاح، إلى أن نعرف في نهاية الرواية بأنه قد أقام علاقة مع (هدى) سرعان ما انتهت بعد أن استبدلته بطالب آخر. فهو، في هذا، يماثل كثيراً (كون) في “والشمس تشرق ثانية” الذي نعرف أن (بريت) قد أقامت معه علاقةً من نوع ما لبعض الوقت، والذي يقول عنه (جاك):
“لقد تحدد أفق حياته بشكل مطلق بزوجته، خلال أربع سنوات. وخلال ثلاث سنوات، أو ما يقارب الثلاث سنوات، لم يعرف أبداً غير (فرانسيس). إني لواثق أنه لم يعرف الحب، طيلة حياته”().

عن fatimahassann23

شاهد أيضاً

دراسة عن دروب وحشية

تشكلات البناء السردي في رواية دروب وحشية للناقد نجم عبد الله كاظم أنفال_كاظم جريدة اوروك …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *