رواية “يا مريم” لسنان أنطون
حين يحضر التطرف والإرهاب، لا يغيب التسامح والتعايش
د. نجم عبدالله كاظم
( 1 )
تتعامل رواية “يا مريم” لسنان أنطون، مع معاناة المسيحيين وما لحقهم من أذى في عراق عام 2003 وما بعده، ومن خلال عائلة مسيحية تمزقت أفراداً بفعل الكراهية والخوف والعنف والتهديد والقتل وسوء التعامل، وبتعبير آخر الإرهاب الديني، مما هو من نتاج وتبعات التطرف الذي اخترق المجتمع العراقي على أيدي إسلاميين متطرّفين، نعرف من الرواية، وكما على أرض الواقع، أنه مما لا يتفق معهم فيه مسلمون، وما عرفوه في ما وعوه وعاشوه وخبروه ويتذكرونه في عراق الماضي القريب والبعيد، مما يعني في النتيجة أن هذا التطرف مما لا علاقة له بذلك الماضي وبعموم مسلميه. ولهذا فإن الرواية تبدأ بالجملة الجميلة والمعبرة التي تقولها (مها) قريبة (يوسف) بطل الرواية وراويها الرئيس الذي تسكن وزوجها في الطابق العلوي من بيته: “”إنتَ عيّش بالماضي عمو!” يا مريم()، فهي إذ تأتي بصيغة إخبار غير حقيقي يعني الرفض والإنكار، فإنها تعني أن قائلتها لم تعد تؤمن بما يعنيه ذلك الماضي وما كان فيه مما سنعرفه سريعاً، مقابل التقرير بأن المخاطب (يوسف) متشبث بذلك الماضي. هذا عينه يوزّع الرواية، وبما يقترب من القطيعة، ما بين من لم يعد يؤمن ويثق بعودة ما كان ممثّلاً بـ(مها) ومن لا يزال يحن والأهم يتشبّث بل يؤمن به ممثلاً بـ(يوسف) الذي يقول معبّراً أيضاً عن تلك القطيعة وعدم الاتفاق:
“قالتها مها لي بعصبية وهي تترك غرفة الجلوس بعد جدالنا الحاد. ارتبك لؤي، زوجها، واحمرّ وجهه وهو يناديها بصوتٍ عالٍ طالباً منها أن تعود: (هاي وين مها؟ تعالي مها!).” “يا مريم”، ص9.
الواقع أن هذه الفقرة الافتتاحية للرواية تعبّر، أكثر من ذلك، عن واقع بتفاصيل كثيرة كلها تصب في ما صار أحد انشغالات الرواية العربية، كما قلنا، نعني التطرف والعنف والإرهاب، مما تعالجه الرواية نفسها، ولكن كما يقع على مسيحيي العراق بشكل خاص. الحقيقة أن الرواية هي عبارة عن معالجة لأزمة المسيحيين هذه من خلال فردَيْها، (مها) المقتنعة بترك الوطن متى ما أُتيح لها ذلك، و(يوسف) المتشبث به مع أمل في أن يعود إلى سابق عهده. مسار الرواية يقوم على هذين القطبين اللذين يلتقيان مرة ويفترقان مرات.ولعلّ أكثر ما يعبّر عما وصل إليه أمر التطرف والإرهاب، وذروته في الوقت نفسه، الذي تعاني منه الشخصيتان، أو العائلة، وبما يعني الفئة، ليس التعصب أو الكراهية أو التمييز أو الترحيل أو التخويف أو القتل، وكل ذلك يحضر في الرواية، بل هو صعود المتطرف الديني الإسلامي على أحد أكثر ما يمثّل السلطة الدينية، نعني منبر الجامع، بما يعنيه من هيمنة على الجامع، واستخدام مكبر الصوت، وإلقاء خطبة الجمعة، وإعطاء الدروس بما يؤمن به، وقيادة البسطاء في طريق التطرف:
“كان صوت الخطيب دائماً يلعلع كل جمعة عبر مكبّرات الصوت ولسنوات طويلة وهو يحث المؤمنين على التقوى والورع ويهاجم الكفر. ولم أكن آبه كثيراً لأني لم أكن أعتقد بأني أنا المقصودة، أو أن الرسالة موجهة لي بالذات كمسيحية. ولكن الفوضى التي احتلّت كل مكان بعد الاحتلال سمحت لما ظنناه ضجيجاً عابراً في البدء لأنْ يُصبح أعلى من قبل، وأنْ يستخدم مفردات غريبة مثل: (أهل الذمة) و(جزية)… بدأ يصرخ بأنكر الأصوات عبر مكبّرات الصوت قائلاً إن على أهل الذمة أن يدفعوا جزية قدرها 25 ألف دولار شهرياً، أو أن يُشهروا إسلامهم علناً في الجامع… كان هناك من يُنصت إليه وينفّذ تعاليمه. فتطورت التهديدات الكلامية المسموعة إلى رسائل مكتوبة بخط اليد، تمّ وضعها عند مدخل البيت، أعطت مهلة أسبوع لاختيار واحد من اثنين لمن يريد البقاء: الجزية أو الإسلام… أَحرَقوا كنيسة الآثوريين، وهجموا على كنيستنا، كنيسة يوحنا المعمدان، التي كنا نذهب إليها كل أحد، وحطّموا الصليب الذي كان على قبتها. ثم انكسر شباك المطبخ ذات ليلة بفعل الرصاصات التي أُطلقت، واستيقظنا لنجد كلمة (كفار) مخطوطة بالأحمر على باب البيت الخارجي. لم تنفع الشكاوى للشرطة أو الاستغاثات التي رفعتها الكنيسة بالنيابة عنّا إلى الحكومة. أقفل أبي الدكّان وجمعْنا ما يمكن جمعه بسرعة وهربنا…” “يا مريم” 119 -121.
الأهم هنا هو أنه حين يسيطر المتطرف على ما يشكل الرمز الأهم لجماعة أو ملة أو دين أو قومية، فإنه سيستهدف، عاجلاً أم آجلاً، ما يرمز إلى الآخر، وهو في هذه الرواية الكنيسة، ليعني الدعوة لإزالة الآخر إن لم نقل فعلَ إزالته، وهو ما تمثل في ذروة رواية سنان أنطون الذي وبتماهٍ أو تمثُّلٍ لواقعة إرهابية حقيقية شهدتها بغداد، وهي واقعة اقتحام المتطرفين الشهيرة لكنيسة “سيدة النجاة” في بغداد، وما تبعه من اقتحام لقوات أمنية عراقية لها. فهذا الحادث أو الفعل الإجرامي المتطرف لا يعني القتل ولا التخويف ولا دفع المسيحيين إلى مغادرة البلد فحسب، بل هو فعل رمزي يعني تغييبهم وإزالتهم من المشهد- إذا جاز لنا استعارة اللفظ والتعبير الفنيين- أي إزالتهم من فضاء الوطن.
فإذا كان كل شيء يتعرّض له الفرد أو الجماعة، غير القتل، يهون ويُحتمل في الغرب، مثلاً، فإن الأمر يختلف في الشرق، حيث قد يهون ويُحتمل القتل والكراهية وعموم المعاناة، ولكن ليست الإهانة ولا المس برمز الهوية والانتماء. ولهذا رأينا،على أرض الواقع، ما فعلته جماعات متطرفة سنّية وأخرى متطرفة شيعية من إهانة كل منهما للآخر وحرق الجوامع والحسينيات، في ظل أنْ صارت الهوية الطائفية سبيل خلاصك أو موتك، وكما عبّر عن بعض ذلك(جاسم) فلاح الحدائق وصاعود النخل، لـ(يوسف):
“عمّي حتى النخل صار بي سنّي وشيعي.” يا مريم،ص84.
( 2 )
ولهذا حسناً فعل سنان أنطون حين لجأ، أولاً، إلى الواقعة الحقيقية، فتمثّلها؛ وجعلها، ثانياً، ذروة الرواية فنهايتها؛ وعمد، ثالثاً، إلى التفصيل غير الممل فيها، ببساطة لأن هذا الفعل، وهنا نتكلم عن المتخيّل تحديداً، كان النتيجة المقنعة لكل مجريات الرواية، وفي الوقت نفسه الصرخة التي أطلقتها تعبيراً عن الألم والموقف والرفض. ولكن لم يكن ليكون هذا مقنعاً قبل المرور بحلقات الألم والقتل والتذويب، ومن خلال ذلك كله ممارسة التخويف، وهو ما يكاد ينطبق على المنطقة، وليس العراق فحسب. فإذا ما كان هناك من خوف في أحيان قليلة قديماً، وأكثر من ذلك قليلاً مؤخرا، فقد جرى حاضراً “انتقالٌ من الخوف إلى التخويف…
حدث هذا، تحديداً، مع اتخاذ الإرهاب بعداً عالمياً في الخطاب السياسي، وفي المخيال الجماعي.”() وهو ما يتمثل، في رواية “يا مريم” في تأزّم (مها)، ليقابلها أمل يبدو أنه يتضاءل شيئاً فشيئاً، كما يتمثل في تشبّث (يوسف) به، الأمر الذي كثيراً ما يثير (مها)، خصوصاً حين تراه يهرب من الاعتراف بحقيقة ما يحدث متشبّثاً بتبريرات مختلفة، كأن يقول:
“بس دولة ماكو والأقلّيات ما حَّد يحميها غير الدولة القوية. إحنا لا عدنا حزب ولا ميليشيا ولا بطيخ [فترد عليه (مها):] ليش بس هوني؟ حِتيني بمصر. وبمصر أكو دولة قوية. واشو هم قيذبّحون المسيحيين ويحرقون كنايسهم. راح يظلّون ورانا ورانا. يريدون يطلّعونا مثل ما طَلْعوا اليهود. منو طلّعهم؟ ليش راحو؟.” يا مريم، ص25.
لينتهي بها الأمرإلى القول صريحةً ومؤلمة:
“الأَسلام ميريدونا، بكل بساطة، علمود يظل البلد بس إلهم.” يا مريم، ص26.
( 3 )
تعميقاً لنقاء (يوسف) وإيمانه بالوطن وتشبّثه به، وأمله في أن يعود التعايش والحب واحترام الآخر، تجعله الرواية، حتى وهو يتشبث بالماضي أو يعيشه، على حد تعبير (مها)، يتجاوز بعض ما كان في السابق من عدم التلاقي، وتحديداً ما بين المسلمين والمسيحيين، كونه بالطبع كان محدوداً. من ذلك حين أحبّ في السبعينيات الموظفة الجديدة العائدة من دراستها في بريطانيا (دلال):
“كانت مسلمة وهو مسيحي، وهذا يعني جبالاً اجتماعية شاهقة الارتفاع لا بد من تسلّقها… جُنّ يوسف بحبها إلى حد أنه كان مستعداً لأن يخاطر بكل شيء من أجل أن يكون معها…. لم تكن دراسة أبيها في أمريكا قد غيّرت تفكيره المتحجّر. أما يوسف فلم يفاتح حنّة [أخته]، فقد كان يعرف رأيها مسبّقاً بالزواج من غير المسيحيين مما تقوله عن أولئك الذين يغامرون ويقترفون الفعل المشين، وهو الرفض القاطع.” “يا مريم”، ص64-66.
وعلى العكس هو يسترجع بلذة وألم، في الوقت نفسه، ما يتذرع به أمام ما تعبّر عنه (مها) من معاناة، بل ما صار يصعب عليه أن يكذّبه أو يهرب منه.فها هو يسترجع صداقته هو المسيحي والمسلم (سالم) واليهودي (نسيم) في الأربعينيات والخمسينيات، وعمله الوظيفي الاعتيادي في دائرته وزمالته لموظفي الدائرة من الانتماءات المختلفة بين السبعينيات والتسعينيات، وعلاقة الحب التي تقوم بينه وبين (دلال) في السبعينيات، مع أنها لم تثمر بالطبع، والأهم الصداقة التي ربطت بينه وبين (سعدون) المتواصلة من السبعينيات إلى حاضر التطرف والذي لا يكاد يعرف أحد كيف ظهر،لا بين المسلمين والمسيحيين فحسب، بل ما بين المكوّنات الفرعية أيضاً. ومن أجمل التعبيرات عن هذه الصداقة ما يرويه (يوسف)، حين يقول عن (سعدون):
“كان قد حضر قدّاس وجنازة حنّة ورافق تابوتها إلى المقبرة وساعدني في إنزاله إلى القبر. جلس في الصف الأول في الكنيسة وقرأ الفاتحة مرّتين على روح حنة، ونظر إليه بعض الحضور باستغراب يومها. لم تكن تلك أول مرة يدخل كنيسة فيها في حياته، لكنه حضر عند وفاة ميخائيل وحبيبة. تهدّج صوتي قليلاً:
“(تسلم عيوني. آني أشعِلِلْها شمعة بمكانك.)
“(أي، الله يخلّيك. والله مثل أختي. الله يرحمها) “يا مريم”، ص78.
لكن ما وصلت إليه الطائفية والتعصّب والتطرف جعل من الصعب على أبناء الجيل الجديد، جيل (مها) مثلاً، تخيّلُ أنْ كان هناك زمن ليس فيه هذا، حتى وإن خبرَ بعضهم بعض ذلك، بل إن بشاعة هذه الطائفية والتطرف وما نشأ عنها من عنف وكراهية وقتل مجاني يجعل حتى من عاشوا الزمن الجميل في العراق- كما صار يُسمى- يشكّون في أنه كان هناك هكذا زمن. يقول (يوسف) لصديقه(سعدون):
“(العمايم تنكلب[تنقلب]. بس هي، مها، ما مصدكة إنه جان أكو وكت بلا طائفية.)
“تنهّد سعدون وقال:
“(لَمّن تنكلب العمايم إحنا يمكن نكون شابعين موت. هاي إذا انكلبت. ضاع البلد بين إيران والعربان والأمريكان. والله ما أدري يعني جانت كل هالطائفية موجودة وإحنا ما حاسّين بيها؟ معقول؟ وين جانت خاتلة؟… هاي سندس [ابنته] كِدّامك، مو متزوجة شيعي؟ أشو ما جانت مشكلة قبل 15 سنة؟).”يا مريم”، ص81.
لهذا يصل الأمر بابن هذا الجيل إلى التعبير عن رغبة إنسانية بسيطة ومشروعة، وفق كل شرائع الأديان والأمم، لا يجد إمكانية تحقيقها تطرف الحاضر، كما تعبّر (مها) عنها:
“كل ما أريده هو أن أعيش في مكان أكون فيه مثل الآخرين. أمشي وأخرج وأدخل ولا يُشار إليّ أو يتمّ تذكيري بأني مختلفة. قال لي أحد الموظفين، ذات يوم، وهو يقرأ استمارة ملأتُها بالمعلومات الشخصية لأُكمل معاملة، معلّقاً على اسم والدي: (اسم جورج أجنبي مو؟)، فأجبته بحزم: (لا مو أجنبي، عراقي.)
“(شلون مو أجنبي؟ مثل جورج بوش.)
“(لا، مثل جورج وسّوف.. وجورج قرداحي.)
“دمغ الاستمارة وأعادها إليّ وأحسست بالتعالي والكره يسيل من نظراته عندما تبرّم قائلاً: (يعني قحط أسامي؟ شوفولكم أسامي عربية.) لم أقل شيئاً، فما فائدة الجدال مع جاهل حقير… تعبت لأن كل شيء وكل شخص يذكّرني، بمناسبة وبدونها، بأني أقلّية.” “يا مريم”، ص111.
والأكثر سوداوية في ظل هذا الذي تقدمه الرواية، ومثل هذا الآخر الديني يرى كراهية المقابل له وعدم قبوله به، هو ما ينكشف من إحساس هذا الآخر، كما تعبّر عنه (مها) بألم حين تعترف لنفسها، قبل الاعتراف لأحد آخر، مما قد يعني أنْ ليس من أمل:
“في لحظات اليأس المطلق هذه كنت ألجأ إلى يسوع وأقول في قلبي: سامحني يا يسوع. أعرف بأنك قلت (أَحبّوا أعداءكم)، لكني لا أستطيع أن أحبهم.. لا أستطيع، لا أفهمهم ولا أستطيع أن ألجم الحقد والتقزز اللذين أشعر بهما كثيراً. خصوصاً حين أرى المعمّمين الغاضبين، ذوي الحواجب الغليضة مثل قلوبهم، أو أراهم يجعرون على الفضائيات. لا يمكن أن يكون في قلوب هؤلاء حب أو رحمة.” “يا مريم”، ص141-142.
وواضح أنه حتى حين لا يكون هناك أذى جسدي يصيب الآخر، مسيحياً أو غير مسيحي، فإن الأثر النفسي حاضر، وقد يكون أحياناً أقسى في تأثيره في من يلحقه، ولهذا يحضر التأزم والحيرة بين مغادرة الوطن والتشبّث به في من يقع عليه. وحين نقول هذا ونرصده، فإنه لا ينطبق على رواية “يا مريم” فحسب، بل في العديد من الروايات، مثل “طشاري” لإنعام كجه جي التي تخوض جزئياً تجربة “يا مريم”، خصوصاً في اضطرار المسيحيين إلى مغادرة البلد مع افتقاد التعايش والمحبة وقبول الآخر، كما كان عراق الخمسينيات، بحيث حتى هجرة وتهجير اليهود يبدو استثناءً ووراءه ما وراءه مما هو غير مصرح به في الرواية. تُخبرنا (وردية) بطلة الرواية أن عائلتها تلقت، قبل خروجها من العراق، تهديداً إرهابياً وطلباً بتسليم ابنتهم (ياسمين) زوجةً للأمير. وتتعرض”سِفْر الترحال” لفاطمة العريض، لمعاناة بعض يهود مصر في الخمسينيات والستينيات، بينما تعرض رواية “الذئاب لا تنسى” للينا الحسن، لمعاناة المرأة الأزيدية من تطرّف قومها، إضافة إلى ما تتعرض المرأة بشكل عام من قسوة المتطرف الديني ووحشيته. أما في رواية “عذراء سنجار” لوارد بدر السالم، فيعود (سربست) الأزيدي من المخيم إلى سنجار الأسيرة مع ورقة إثبات التوبة في جيبه، ويحمل اسم آزاد المسلم، و”لم يقلق سربست كثيراً حينما دقق الملتحي بأوراقه الشخصية وقرأ (غير كافر) في وثيقة العبور التي تسمح له بالتجول بين ولايات دولة الخلافة. ولكنه عندمايصل سنجار أو شنكال، يجدها متحولة إلى مدينة أشباح لم يتبق فيها سوى من أُجبروا على تغيير ديانتهم.أما الباقون فإما هربوا أو تم سبيُهم وأسْرهم.” عذراء سنجار، ص18.()
ونتعرّف على ما يتعرض له طبيب الأسنان المسيحي (بطرس) في رواية “أعالي الخوف” لهزاع البراري، لأنه أحب مسلمة وأحبّته، بينما تتمثل رواية “جنين 2001” للفلسطيني أحمد مراد، كما تفعل بالطبع العشرات من الروايات العربية، ولاسيما الفلسطينية، معاناة الفلسطينيين مسلمين ومسيحيين من المتطرفين اليهود والصهاينة.
( 4 )
وتصل قمة ما تقود إليه، معاناة الإنسان من العنف والقتل والكراهية في وطنه، إلى الكفر بهذا الوطن، وكما يعبّر عنه، مثلاً، علي بدر في روايته “الكافرة”، التي تبدأ بالبطلة الراوية وهي تقول:
“أنا هنا قربك، قادمة من بلاد الحروب التي لا تنتهي، من الأرض الملعونة، من خضمّ أحداث القتل الغامضة، من عالم الشعوذة، من خنق الزوجات، وقتل الصبايا، وسائر الوقائع التي تدور، في إطار مرعب.”الكافرة”، ص7.()
إن رفض الآخر وعدم الاعتراف بوجوده لا يقتصر على عدم تلاقي دين مع دين، أو أصحاب دين مع أصحاب دين آخر، بل يتعداه إلى رفض هوية الآخر، ولذا لن يكون غريباً أن تنتهي “يا مريم” بواقعة اقتحام الكنيسة التي هي ليست رمز الدين فقط بل رمز الهوية، وهو أحد أهم ما أرادت أن تقوله الرواية، ليكون صرختها، كما أشرنا، بدليل أنّ من يتعرض للقتل ليس المتدين المتمثّل بـ(مها) فحسب، بل غير المتديّن أيضاً، المتمثّل بـ(يوسف)، فهي عندنا تعبير رمزي عن ذلك.فبعد وصول كل منهما، على حدة، إلى الكنيسة، ومن دون اتفاق مسبّق:
“ارتبك يوسف… لمح مها تندفع من أقصى اليسار نحو المذبح. همّ باللحاق بها وناداها مرتين ولم تسمع، لأن الأبواب الثلاثة التي في المدخل كانت قد انفتحت على مصراعيها، ودخل رجال يحملون رشاشات وبدأوا بإطلاق الرصاص بكافة الاتجاهات وعلى كل شيء. ابنبطح يوسف أرضاً مثل البقية.” “يا مريم”، ص146.
لتبدأ مأساة هجوم المتطرفين فاقتحام القوات الأمنية التي تصيب (يوسف) كما تصيب (مها)، لأن الانتماء إلى هوية بعينها تجمعهما، سواء أرادا أم لم يريدا. وعليه فهما عند المتطرف مقضيّ عليهما، كما على هويتهما ورمزيتها، الكنيسة. فالمسيحية، وتماماً كالإسلام، قد لا تكون عند الكثيرين ديناً أو تديّناً، بل انتماءً وهويةً:
“كانت تعرف بأن الموت قريب جداً، وأنه قد يجيء في أي لحظة… فكّرت بيوسف الذي لم تعتذر منه. كانت الكنيسة مليئة عندما وصلتها ولم تجد مكاناً إلا في أقصى اليسار. بحثت عن يوسف أثناء القداس وهي متأكدة بأنها رأت رأسه قرب المقدمة حيث يجلس الرجال عادةً. لكنها لم تره عندما بدأ الهجوم… قرّبت المسبحة التي كانت في يديها من شفتيها وقبّلتها. ستطلب النجاة له ولها وللجميع.” “يا مريم”، ص147.
( 5 )
يبرز هنا تساؤل مُقلق()، ولكنه مقرون بدغدغة التشبث الذي يبقى ينبض في الدواخل: أليس من أمل؟ نعتقد، مع كل ما نحسه، لا في شخصيات مثل (مها) فحسب، بل في المؤلف نفسه، من حزن عميق يقترب من اليأس بأن يكون هناك انفراج وعودة إلى الحب والوطن والهوية المشتركة وقبول الآخر، يُطلق المؤلف، في نهاية روايته،ما يشبه الهمس المعبّر مثل هذا الأمل، في أعقاب الرمي والتفجيرات والقتل الذي يجري في الكنيسة، فيقول من وجهة نظر (مها):
“سمعتْ وقع خطى تقترب منها ثم شعرتْ بيد تهزّها، فخافت وانكمشت. لكن الصوت قال لها” (لا تخافي أختي، إحنا إخوانكم العراقيين). رفعتْ رأسها فرأت جندياً مدجّجاً بالسلاح يرتدي خوذة وفوقها جهاز صغير يشبه الكاميرا يشعّ منه ضوء أحمر صغير. ساعدها على النهوض ومشى معها نحو باب الكنيسة وهو يمسك بيدها. كان هناك آخرون يرتدون زيّاً مماثلاً يحومون داخل الكنيسة ويرافقون الناجين إلى الخارج.” “يا مريم”، ص148.()
هذا الأمل المتذبذب الذي تنتهي به رواية “يا مريم”، بمأساويتها، يتعزز في العشرات من الروايات، حين يحضر خطاب الأمل والتعايش ورفض التطرف والكراهية وربما مواجهتهما. إن الرواية العربية المعاصرة، ومن منطق ما موجود ويحدث على أرض الواقع، إذ تمثّلت التطرف والإرهاب، وإلى حد ما المتطرف والإرهابي، وعالجت ذلك من منطلقات عديدة نظن يجمعها وجع الروائي الإنسان ممثّلاً للعربي الإنسان، فإنها عمدت إلى تقديم خطاب رفض التطرف والإرهاب، وهذه المرة ليس من منطق ما موجود ويحدث على أرض الواقع فحسب، لأنه في الواقع منحسر إلى حدّ كبير أمام موجة التطرّف والكراهية والإرهاب، بل من مصدر آخر هو نفسه، إلى حدّ كبير، وراء لا التطرف الديني، وكذلك الطائفي والقومي أو العنصري، بل وراء جلّ عداوات شعوب الحاضر وأممه وملله وقومياته وطوائفه وكل مكوّناته الأصغر على امتداد العالم، نعني الماضي وتبعاته المترسّخة في ذوات البشر. إن الارتباط الجامد بالماضي، البعيد خصوصاً، والتبعية المطلقة له ولصراعاته أحد أسباب التطرف والتصلّب والتعصب كما نراهما على أرض واقع المنطقة متمثلاً بالحركات الإرهابية وببعض الجماعات الدينية السلفية، ووفي النتيجة تمثّلها في العديد من الروايات العربية، وكما تعبر عنها رواية لينا الحسن، مثلاً، في روايتها “الذئاب لا تنسى”، حين تقول “إنه عواء الماضي.. يسمّمنا جميعاً في النهاية. هذا السمّ المتجول الأبدي فينا، سمّ الطوائف، سيقتلنا ويمحونا من الوجود. الجميع يَقتل وهو يصيح من أجل الوطن.” “الذئاب لا تنسى”، ص24.()
المفارقة أن الكثير من التشبث بالانفتاح والتسامح والتعايش هو الآخر من إفرازات الحنين إلى الماضي، هذه المرة القريب خصوصاً، واستحضاره، حين كان المسلمون والمسيحيون واليهود يعيشون مع بعض، وهو ما رأيناه في رواية “يا مريم”، متمثّلاً بشكل خاص من خلال شخصيتي (يوسف) المسيحي، وصديقه (سعدون) المسلم.