تقديم بقلم د. نجم عبدالله كاظم
((الرواية الإيقاظية)) لسليمان فيضي
ومكانتها في ريادة الرواية العراقية
( 1 )
تتفق غالبية النقاد والدارسين ومؤرخي الرواية والقصة العراقييتن على ريادة محمود أحمد السيد. ولكن مع هذا يبرز هناك خلاف محدود حول جزيئة من ذلك، وتحديداً حول الموقف، ضمن الكلام عن الريادة، من “الرواية الإيقاظية”()- 1919- لسليمان فيضي (1885-1951). فمع أنها المحاولة الروائية الأولى، هناك من يستبعدها حين لا يعدّها رواية أصلاً، وهو الاستبعاد الذي أراه تجنياً عليها وخطأ يقع فيه هذا البعض وقد نسي أننا نتكلم عن المحاولة الروائية الأولى وليس عن أي رواية، وإذا لم تكن رواية، وهي فعلاً محاولة روائية وليست رواية، فإن عمل السيد الأول “في سبيل الزواج”- 1921- هو الآخر، من الناحية الفنية، ليس رواية تماماً بل محاولة روائية، والأمر ينسحب على عمله التالي “مصير الضفاء”- 1922- بينما لم يقترب كثيراً من الرواية الفنية إلا عمله الثالث “جلال خالد”- 1928- الذي هو، كما قلت في كتبي وكتاباتي مرات عديدة، أول محاولة روائية تخطو نحو التطور الفني الذي سيتواصل بعد ذلك عبر أعمال عديدة للآخرين وصولاً إلى رواية “النخلة والجيران”- 1966- لغائب طعمة فرمان، وهي التي نتفق نحن، نقاد الرواية العراقية ودارسيها ومؤرخيها جميعاً، على أنها الرواية الفنية الأولى في العراق.
ولكي يُفهم ما قلته وأذهب إليه هنا بشكل سليم، أقول يبقى المهم أن رائد الرواية العراقية التأريخي، وبما يقترب من الاتفاق بين النقاد والدارسين ومؤرخي الرواية والأدب، هو محمود أحمد السيد فعلاً. نقول هذا، لأن سليمان فيضي في “الرواية الإيقاظية” لم يحقق إلا السبق التاريخي، الذي هو ليس كافياً ليكتسب الأديب صفة الريادة باستحقاق، بل لا بد من توفر مجموعة متطلبات حددت معظمها نازك الملائكة، وأتفق شخصياً معها، وقاد أضيف عليها شيئاً. هذه المتطلبات التي توفرت في تجربة محمود أحمد السيد، وهي: السبق التاريخي، والاستمراية، وتقديم اكثر من عمل وليس عملاً فرداً، والتطوير الفني للتجربة الجديدة، والوعي النقدي للرائد بجدّة ما يبدعه أو يكتبه، وأن يصاحب الحركةَ التأليفية أو الإبداعية جهدٌ نقدي من الرائد والآخرين، وأنْ ينخرط أو يتبع الرائدَ مبدعون آخرون في الكتابة في ما يحقق الرائد فيه ريادته. وكل ذلك تحقق لمحمود أحمد السيد فاستحق أن يُعد من النقاد والدارسين ومؤرخي الأدب رائد الرواية العراقية، وكما هو شأنه في القصة القصيرة العراقية. لكن هذا لم يكن ليعني أبداً تجاوز عمل سليمان فيضي “الرواية الإيقاظية”. فإذا كان مسوّغَ إبعاد عملٍ غير قصصي أو روائي ولكن فيه من القصة أو الرواية شيء أو أشياء، كما هو حال مقامات أبي الثناء الآلوسي مثلاً، فمن غير المسوّغ إبعاد عمل قصصي أو روائي لأن فيه من غير القصة أو الرواية شيء أو أشياء، وهذا الأخير ينطبق، برأينا، على “الرواية الإيقاظية”، الأمر الذي يجعلنا، كما يجعل أي ناقد أو مؤرخ أدبي منصف، نتوقف عند هذا العمل حين التعرض لتاريخ الرواية والقصة في العراق، كما يجعلنا نشد على أيدي الأستاذ حسين المايع في قيام دار نشره (قناديل) بإعادة طبع الرواية بمناسبة مرور مئة سنة على صدورها.
( 2 )
مع كل ما يمكن أن نقوله أو يقوله غيرنا عن بدائية الفن في “الرواية الإيقاظية”، مما هو في الغالب صحيح، فإن لمن الصحيح القول أيضاً، وقبل الدخول في تفاصيل هذا العمل والوقفة النقدية منه، إن العمل الذي يبدأ بداية قصصية أو روائية، “في صباح يوم من أيام الربيع…” ترسّخها مجرياته بعد ذلك، يحقق سبقاً ومشاركة وإنْ محدودة في الريادة لا يمكن لمنصف أن ينكرها، في الكتابة القصصية والروائية. فالعم يتوفّر على شيء ليس بالقليل نسبياً من مقوّمات وعناصر فنية: السرد، والشخصية، والحدث، والحوار، والزمان، والمكان، وإنْ ببدائية عادة ًما تصاحب التجارب الأولى والرائدة والمبكّرة ضمن مسيرة ما تنتمي إليه. ولهذا يكون مقنعاً أن يقول أستاذنا الراحل الدكتور عبد الإله أحمد، وحتى وهو يشخّص، كما نفعل نحن، ما يؤخذ على العمل فنّياً: “يعتبر سليمان فيضي الموصلي أول من حاول الكتابة في القصة الطويلة (الرواية) في الأدب العراقي الحديث… ولم يكن من هدف الكاتب أن يكتب رواية بالمعنى المعروف للرواية بالقدر الذي كان يستهدف منه نشر آرائه الإصلاحية.. ولذلك خلت من كثير من مقومات القصة”(). وإذ يعي عبد الإله أحمد، ونحن وآخرون معه، ما لهذا التجربة الروائية من أهمية، كونها رائدة، وما عليها كونها في ريادتها ناقصة الفنية، فإنها تعبّر عن ذلك من عنوانها وتوصيفها، على الغلاف، بأنها “رواية أدبية انتقادية أخلاقية فكاهية ذات عشرين فصلاً”، مع أنها جاءت أيضاً ضمن الكتابات العراقية القليلة الأولى التي يطلق عليها أصحابها لفظة أو مصطلح (رواية) مع الأخذ بنظر الاعتبار أن العراقيين حينها كانوا يطلقون هذه اللفظة أو المصطلح على المسرحيات أيضاً أحياناً.
والواقع أن الكاتب نفسه إذ يعبر بهذا عن بعض وعي بجدّة ما يقدمه، فإنه في الوقت نفسه لا ينفصل عن ما يمكن أن نسميه التيار الإصلاحي التعليمي في الكتابة والأدب في العراق في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين حين عبّر عن ذلك في عنوان عمله وعنوانه الفرعي التوصيفي، كما رأينا، وفي مجرياته من البداية، وضمن ذلك حين يدّعى في مقدمته بأنه يقص في كتابه ما رآه في المنام، فيقول: “رأيت في منامي كأني في محفل عظيم مزدحم بخيرة الرجال أشبه بالانتظام (بسينما عال العال) له ستة أبواب وفيه غرف ومحراب، فجرى تشخيص هذه الرواية من قبل نبلاء الرجال”، وكل ذلك مما يربط هذه المحاولة وبعض طبيعته بما يُعرف بقصص الرؤيا التي ظهرت في العقدين الأولين من القرن العشرين وسبقت ظهور القصة القصيرة الفنية، وكانت تبغي بعث الأمة وتدعو إلى نهوضها مما جاءت “الرواية الإيقاظية” لتدعو إليه، بل إنها قد تنتمي إلى تلك فنياً وموضوعياً وهدفاً. ولكن إضافة إلى الفروق العديدة بين هذا العمل وقصص الرؤيا، يبرز الفرق الأساس بينهما في كون “الرواية الإيقاظية” عملاً قصصياً طويلاً، ليستقل بذلك عن تلك القصص. بعبارة أخرى إن العمل، بلا شك، وكما سنأتي على ذلك، قصة طويلة بأحداث متتالية، لم يسبق أحدٌ سليمانَ فيضي في تأليف ما يُشبهها، ولهذا كان من الطبيعي أن تشتمل على ما تشتمل عليه البداية من عثرات وتداخلات بينها وبين أنواع الكتابة والتأليف الأخرى، مع هيمنة لما يكون سائداً في وقتها، ومعروف أن الذي كان سائداً هو الكتابة الإصلاحية التعليمية، وهو ما سيبدو واضحاً للقارئ في عرضنا لخلاصة العمل في الفقرة التالية.
( 3 )
تبدأ الرواية إصلاحية تعليمية بامتياز، وتحديداً بالفتى (خضر) متوجهاً إلى المدرسة. وهناك يبدأ الدوام بمحاضرة يبدأ دوام كل يوم بها، وفيها يجوز أن يحضر، إلى جانب الطلبة، من يشاء من الأهلين، حيث كلام المحاضر، الذي تسميه الرواية الخطيب، عن تاريخ العرب وما كانوا عليه من سؤدد وما صاروا عليه من تخلف، وعن الأخلاق وأهمية العلم والمعرفة.. إلخ. وإلى جانب (خضر) التواق للمدرسة والتعلم نجد صديقه وابن الجيران الأغنياء الفتى (باقل) لا يرغب هو ولا أبوه في التسجيل في المدرسة، لكن (خضر) وصديقه الذكي والمهذب (يقظان)، ومَن يُسمى في المدرسة (الموقِظ)، ينجحون بإقناع أبي (باقل) بذلك، فيلتحق الفتى بالمدرسة ويتم تبديل اسمه إلى (سعيد)، وواضح ما لذلك، وكما لأسماء غالبية الشخصيات الأخرى، من دلالة مباشرة. وتمر السنوات ويكمل (خضر) و(سعيد) دراستيهما ويذهبان إلى فرنسا حيث يدرس الأول الطب ويدرس الثاني الصناعة والكيمياء قبل أن يعودا إلى الوطن. وتأتي أولى ثمار إتمام الدراسة حين يعوض (سعيد) أباه ما يخسره نتيجة غرق سفينته ببضائعها واحتراق أملاك له في الهند. ثم تأتي الثمرة الأخرى التي يتيح فيها الكاتب لـ(سعيد) رد الجميل لـ(خضر) الذي هو صاحب الفضل الأول في التحاقه بالمدرسة وفي النتيجة لتحقيق ما حققه، فيُوقع (خضر) في مأزق وتحديداً حين يسافر، وبشكل غريب، مع خادم له إلى بلاد الحبشة “لأجل اكتشاف بعض الآثار القديمة حيث ذكر له فيها معدن مهم”، ليكشف عن الكبريت في أرضها، فيتآمر الخادم عليه لينال ما يعتقد أن سيده سيجنيه من أموال من اكتشافه، ويدّعي للشرطة هناك أن سيده يريد إحراق قصر الملك القريب من منطقة التنقيب، فيُحكم عليه وعلى خادمه بالإعدام، ينفّذ بالخادم على أن ينفذ في يوم تال به. وتشاء الصدفة أن يقرأ (سعيد) في إحدى الصحف خبر اتهام صديقه (خضر) والحكم عليه بالإعدام. ووسط سلسلة من المصادفات التي لا يمكن أن تقع إلا بإرادة المؤلفين في القصص البدائية، تُتاح لـ(سعيد)، حين يُسافر إلى الحبشة في محاولة إنقاذ صديقه، فرصة مقابلة وزير الداخلية في الحبشة ليجعله يتدخل فيعاد التحقيق في القضية وتثبت براءة (خضر) فينجو من الإعدام، ليعود الصديقان منتصرين إلى الوطن.
وكما هو واضح من مجريات أحداث “الرواية الإيقاظية”، لعل أبرز سمة يمكن للمرء أن يرصدها بسهولة فيها هي تعليميّتها، ونحن نعرف أن العمل التعليمي “هو الذي يُكتب أو يُعدّ أو يشرح معارف علمية أو أخلاقية أو دينية… أو يدعم نظرية أو اتجاهاً علمياً أو أخلاقياً أو دينياً أو اجتماعياً أو فلسفياً أو فكرياً…”(). فجل هذا هو، إلى حد كبير، ما تعمّد سليمان فيضي تقديمه تعليمياً على حساب الاهتمام بالجانب الفن، بل إن الرواية امتلأت بالوعظ والإرشاد وفوائد التعليم وطرق التربية الحديثة والعلم والتعلّم، والتمسك بالدين، والأخلاق، والمثل والقيم، والسلوك والتهذيب، واللغة الفصيحة، والإصلاح مما يصب في مساعي إيقاظ الناس، ويرد بشكل مباشر في الغالب، وكما في المثال الذي يبعث فيه (الموقظ) ببطاقة التعريف به إلى ( أبي باقل) ليستأذن دخول بيته. “أما أبو باقل حينما تناول البطاقة صاح بأعلى صوته: تفضل مولانا فلا حاجة للاستئذان، فدخل الموقظ وسلم عليه وقال له: أشكرك على هذا لالتفات ولكن لا يجوز لأحد أن يدخل محلاً أو غرفة قبل أن أن يُعلم من فيها بقدومه، وهذا أمر شرعي… وأن قانون آداب المعاشرة يجب أن يكون مطاعاً ومتّبعاً حتى بين الأخ وأخيه”. وواضح أن المؤلف، وفقاً لهذا، لم يكن يستهدف بشكل رئيس تقديم رواية أو قصة فنية تماماً، فابتعد ولكن ليس عن الفن بل عن الالتزام تماماً بمقوماته، وهو ما يعبّر عنه، إلى حد كبير، نجل المؤلف باسل سليمان فيضي حين يقول: “إن ابتعادهها عن القواعد الفنية سببه التركيز على هدفها التعليمي”(). ونستطيع أن نتفهم هذا ونحن نعرف أنها ظهرت في زمن ما كان لتُقبل فيه كتابةٌ، اجتماعياً وعرفاً وثقافياً، إن لم تكن (ذات فائدة أخلاقية)، مع تعالٍ على (الإمتاع والتسلية) التي لا يمكن للقصة أو الرواية الفنية لتكون بدونهما، وعليه فإنها لم تكن لتحظى بما كان يحظى به الشعر من اهتمام وإجلال. وهكذا في ظل هذا كله توزّع العمل، وبشكل ملفت، بين القصة والرواية والمقالة والكتابة التعليمية والشعر والمسرحية، لكنّ إطارا العام يبقى، ومرة أخرى رغم كل شيء ومهما أخذنا عليها، كان قصصياً أو روائياً.
( 4 )
عود على بدء، مع ما في الرواية/ المحاولة من ملامح وجوانب ترتبط، من خلالها، بالسائد وبالتراث وأساليب الكتابة التقليدية، فإن أسلوبها بشكل عام ينطوي على شيء من العصرية والتميز الحديث نسبياً، خاصة أن الكاتب يبدي، ضمنياً، وعياً بعيوب الكتابات القديمة فيتجنبها بشكل ملحوظ. كما أن المسحة القصصية واضحة على هذا الأسلوب، بل إننا لا نتردد في القول إن سليمان فيضي يمتلك حسّاً قصصياً، حسر ظهورَه كاملاً ما قلناه عن هيمنة طبيعة معينة على الكتابة والأدب في زمنه، فيبدو به وكأنه يعي أنه يؤلف قصة تختلف عن المقامات والأشكال القصصية العربية القديمة الأخرى، خصوصاً أنه قد استخدم في عمله بعض تقنيات القصة والسرد وتابع بنجاح نسبي أحياناً تطور الحدث وحركة الشخصيات. ومن الواضح أن الكاتب قد تأثر بما كان يصل إلى العراق من قصص، وروايات عربية مصرية ومترجمة، إضافة إلى احتمال قراءته لبعض ذلك بلغاته الأصلية، وكان لديه من الإنكليزية والفرنسية شيء. نقول هذا حتى وإنْ سلبت أخطاءٌ فنية الكثير مما كان سيرتفع بالعمل إلى مكانة أقرب إلى فن القصة أو الرواية منها إلى ما صارت عليه، فسادت الصدف وضعُف الترابط بين الأحداث، ليفتقد العمل بذلك الحبكة المتماسكة والمقنعة، كما اضطرب الزمن أحياناً، وتداخل ما هو ليس من القصة في القصة، كما جاءت الحوارات في مستوى واحد وأسلوب واحد هو بلا شكل أسلوب المؤلف مع اختلاف الشخصيات المتكلمة بها عمرياً وعلمياً. وافتقدت الشخصيات غير قليل من خصائصها الفنية التي تتسم بها في القصة والرواية، خصوصاً حين جاءت جاهزة وثابتة. وحتى التغيرات التي تطرأ على بعضها تتم بشكل مفاجئ يحولها من حال إلى حال لتؤدي ما يُراد لها أن تؤديه ضمن غايات الرواية الإصلاحية والتعليمية، مما لا نراه يحدث للناس في الحياة. وربما من هنا كان أن ارتبطت أسماء معظمها، وبشكل غير مقنع، بما تعنيه تلك الشخصيات للرواية ولأدوارها فيها، ولما يريد المؤلف لها أن تؤديه تعليمياً، ولعل أوضح مثال على ذلك تبديل اسم الفتى المتعالي على المدرسة والتعلم (باقل) الذي نعرف أنه اسم شخصية عربية قديمة اتصفت بالعيّ، إلى (سعيد) بعد اقتناعه بالمدرسة وتسجيله فيها. ولهذا فقدت هذه الشخصيات الإقناع، ولم يعد غريباً مثلاً أن نجد أبا (باقل)، وهو الجاهل وصديق الجهلة والسيئين، يقدم لنا في نهاية الرواية، ومرة أخرى بما يصب في تعليمية الرواية، عشر وصايا تربوية وأخلاقية ليس لغير ذوي الوعي والثقافة- المتوسطة على الأقل- أن يعرفها ويعيها.
ونعود لنقول، في النهاية، إن “الرواية الإيقاظية” تجربة روائية بالمعنى العام وليس بالدلالة الاصطلاحية لكلمة روائية، بالرغم من ابتعادها فنياً عن الكثير من متطلبات الرواية بوصفها فنّاً حديثاً. وعليه، ومهما أخذنا عليها فنياً، من غير المسوّغ تجاوزها عندما نريد أن نؤرخ للرواية العراقية، أو ندرسها، أو نتناول الريادة فيها.()
د. نجم عبدالله كاظم
بغداد – 2019