سليمان فيضي: الرواية الإيقاظية
نص دراستي للرواية في كتاب “التجربة الروائية في العراق في نصف قرن”
د. نجم عبد الله كاظم
يقول الدكتور عبد الإله أحمد: “يعتبر سليمان فيضي الموصلي أو من حاول الكتابة في القصة الطويلة (الرواية) في الأدب العراقي الحديث… ولم يكن من هدف الكاتب أن يكتب رواية بالمعنى المعروف للرواية بالقدر الذي كان يستهدف منه نشر آرائه الإصلاحية.. ولذلك خلت من كثير من مقومات القصة”(). ويشير الكاتب نفسه من البداية إلى أنه يقص في كتابه ما رآه في المنام مما قد يثبّت علاقة هذه المحاولة بما يُعرف بقصص الرؤيا التي ظهرت في العقدين الأولين من القرن العشرين في العراق وسبقت ظهور القصة القصيرة الفنية، بل إنها قد تنتمي إلى تلك فنياً وموضوعياً وهدفاً. ولكن إضافة إلى الفروق العديدة بين هذا العمل وقصص الرؤيا، يبرز الفرق الأساس بينهما في كون “الرواية الإيقاظية” عملاً طويلاً، ليستقل بذلك، في الوقت نفيه، عن تلك القصص. ومهما يكن من أمر قيمة العمل سلباً أو إيجاباً، فإنه يطرح، بلا شك، قصة بأحداث متتالية، لم يسبق أحدُ سليمانَ فيضي ألّف ما يُشبهها.
مختصر القصة أن (بافل) فتى جاهل لا يرغب هو ولا أبوه في التسجيل في المدرسة، لكن نقيضه وابن محلته (خضر) ينجح، بعد محاولات عديدة يشرح له فيها فوائد المدرسة في إقناعه للتسجيل معه، ليتم بعد ذلك إقناع أبي (بافل) المحط بالأصدقاء الجهّال بذلك. وبعد أن يلتحق (بافل) بالمدرسة يتم تبديل اسمه إلى (سعيد)، وواضح ما لذلك من دلالة مباشرة. وتمر السنوات ويكمل (خضر) و(سعيد) دراستهما ويُرسلان إلى فرنسا حيث يدرس الأول الطب ويدرس الثاني الصناعة والكيمياء ليعودا إلى الحياة العملية. وتأتي أولى ثمار إتمام الدراسة حين يعوض (سعيد) أباه ما خسره نتيجة غرق سفينته ببضائعها واحتراق أملاكه في الهند. ثم تأتي الثمرة الأخرى التي يتيح فيها الكاتب لبطله رد الجميل. يقرأ (سعيد) خبر اتهام خضر بمحاولة حرق بيت ملك الحبشة التي كان ينقّب فيها عن معدن ثمين. ووسط سلسلة من المصادفات التي لا يمكن أن تقع إلا بإرادة المؤلفين في القصص البدائية، تُتاح لـ(سعيد) فرصة مقابلة وزير الداخلية في الحبشة ليجعله يتدخل لتخليص (خضر) من الإعدام.
لعل أبرز سمة يمكن للمرء أن يرصدها بسهولة في (الرواية الإيقاظية) هي تعليميّتها، التي هي عينها من آثار المقامة في بعض مراحل تاريخها. ونحن نعرف بالطبع أن العمل التعليمي “هو الذي يُكتب أو يُعدّ أو يشرح معارف علمية أو أخلاقية أو دينية… أو يدعم نظرية أو اتجاهاً علمياً أو أخلاقياً أو دينياً أو اجتماعياً أو فلسفياً أو فكرياً…”(). هذا إلى حد كبير ما تعمّد سليمان فيضي تقديم بعضه – الناحية الأخلاقية والتربوية- مما جعلها تتّسم بشيء مما تتسم به الروايات التعليمية على حساب الاهتمام بالجانب الفني. والواقع أن الرواية قد امتلأت بالوعظ والإرشاد وشروح فوائد التعليم وطرق التربية الحديثة مما يقع كله في باب السعي لإيقاظ الناس، وهي أمور ترد بشكل مباشر في الغالب ليُخرج حتى الجيد من أجزاء العمل عن جودته. فمن ذلك لا تسير الأحداث صفحة أو صفحتين حتى يعرج بنا المؤلف إلى الوعظ والحث على التعليم وشرح دور المدرسة في المجتمع وفي تنشئة النشء الجيد، مستغلاً كل فرصة لفعل ذلك. بل إن المؤلف لا يجد ضيراً في التوقف لشرح العبر وتقديم النصائح وتوضيح ما يجد أنه بحاجة إلى توضيح لما فيه صالح القارئ، برأيه، سواء أكان ذلك في متن الرواية أم في الهامش، كما في المثال الآتي:
“بما أن بافلاً جاهل وغير متعلم، فترى أيها القارئ الكريم جميع ألفاظه عادة باللغة العراقية العامية”().
والشعر يأخذ ضمن هذا الميدان دوره موضحاً وشارحاً ومعلقاً على الأحداث والشخصيات، لينتزع من ذلك الغايات التربوية والتعليمية. والواقع أنه في الرواية يلفت نظر القارئ لكثرته غير العادية. فالمؤلف لا يتورع عن الاستشهاد به بشكل مباشر، على لسان الراوي الذي من الواضح أنه المؤلف نفسه، أو بشكل غير مباشر، على لسان الشخصيات، وبإسراف يصل به إلى حد حشر قصيدة كاملة من ثلاثة وثلاثين بيتاً لعبد الرحمن البغدادي دفعة واحدة. ويلاحَظ على الشخصيات في استشهادها بالشعر أنها تتساوى جميعاً في ذلك، فلا فرق بين المتعلم وغير المتعلم، ولا بين الطبيب والإنسان العادي. لكن يبقى صاحب الدور الأساس في إنشاد الشعر تعليقاً على الأحداث هو (يقظان)- صديق (خضر)- في النصف الأول من الرواية، حين يمارس ما يشبه دور الجوقة أو المعلّق الذي ليس له دور درامي. وواضح أن للبطل وللعمل عموماً علاقة حميمة بالمقامة، كما واضح أيضاً أن سليمان فيضي لا يعي تماماً ماهية الشخصية القصصية والروائية ودورها درامياً أو فنياً، وهذا أمر مفهوم طبعاً، ولذا فقد جاءت شخصيات عمله نمطية لا يطرأ عليها إلا تغيرات حاسمة تنقب بها وبشكل مفاجئ من حال وطبيعة إلى حال وطبيعة أخريين وكما لا نراه يحدث للناس في الحياة. وحتى هذا التبدّل أو الانقلاب لا يحدث مع شخصيتي (بافل/سعيد) وأبيه، وإلى حد ما شخصية (خضر). أما باقي الشخصيات فتظهر لتؤدي أدواراً محددة ومحدودة لتختفي، ولا تظهر في الغالب بعد ذلك. وربما من هنا كان أن ارتبطت أسماء معظمها، وبشكل لا يخلو من السذاجة، بما تعنيه تلك الشخصيات للرواية ولأدوارها فيها، ولما يريد المؤلف لها أن تؤديه تعليمياً. ولهذا، إلى جانب المآخذ الفنية الناتجة عن قصور النضج الفني للكاتب، وخاصة تلك المتعلقة بعيوب الشخصيات، فقدت هذه الشخصيات الإقناع، ولم يعد غريباً مثلاً أن نجد أبا (بافل)، وهو الجاهل وصديق الجهلة والسيئين، يقدم لنا في نهاية الرواية، ومرة أخرى بما يصب في تعليمية الرواية، عشر وصايا تربوية وأخلاقية ليس لغير ذوي الوعي والثقافة- المتوسطة على الأقل- أن يعرفها ويعيها.
ومع ما في الرواية/ المحاولة من ملامح وجوانب ترتبط من خلالها بالتراث وبالمقامات وبأساليب الكتابة التقليدية، فإن أسلوبها بشكل عام ينطوي على شيء من العصرية والتميز الحديث نسبياً، خاصة أن الكاتب يبدي وعياً أحياناً بعيوب الكتابات القديمة فيتجنبها بشكل ملحوظ. كما أن المسحة القصصية واضحة على هذا الأسلوب، بل إننا لا نتردد في القول إن سليمان فيضي يمتلك فعلاً حسّاً قصصياً، يبدو به وكأنه يعي أنه يؤلف قصة تختلف عن المقامات والأشكال القصصية العربية القديمة الأخرى، خصوصاً أنه قد استخدم في عمله بعض تقنيات القصة والسرد وتابع بنجاح نسبي أحياناً تطور الحدث وحركة الشخصية. في الجانب الآخر، سلبت أخطاء فنية غير قليلة الكثير مما كان سيرتفع بالعمل إلى مكانة أقرب إلى فن القصة أو الرواية، فسادت الصدف وضعُف الترابط بين الأحداث، ليفتقد العمل بذلك الحبكة المتماسكة والمقنعة، وتفتقد الشخصيات خصائصها الفنية التي تتسم بها في القصة والرواية، كما أشرنا سابقاً.
ونعود لنقول في النهاية إن “الرواية الإيقاظية” عمل قصصي بالمعنى العام لهذه الكلمة وليس بالدلالة الاصطلاحية النقدية المعروفة حديثاً، بالرغم من ابتعادها فنياً عن متطلبات القصة والرواية بوصفهما فنين حديثين. وليس ببعيد عن الاحتمال أن يكون الكاتب قد تأثر بما كان يصل إلى العراق من قصص، وروايات، وروايات عربية مصرية ومترجمة. وفي كل الأحوال لا يمكن، مع ما اشتمل عليه العمل من سمات ومزايا مقارنة بما سبقه وعاصره، عد (الرواية الإيقاظية) رواية، ورما هي محاولة لكتابة عمل قصصي طويل يتجاوز الأشكال القصصية العربية القديمة.
شاهد أيضاً
دراسة عن دروب وحشية
تشكلات البناء السردي في رواية دروب وحشية للناقد نجم عبد الله كاظم أنفال_كاظم جريدة اوروك …