توظيف المحلية ووصفية السرد

توظيف المحلية ووصفية السرد
في رواية “أيوب شاهين” لسالم آل تويه

د. نجم عبدالله كاظم
( 1 )
قد لا يعرف الكثيرون، بمن فيهم المتخصصون، دارسين ونقاداً، الكثير عن الأدب العماني. وإذا شملتْ قلة الاطلاع هذه الشعر مثلاً، فمن الطبيعي أن يكون الأمر أكثر مع السرد، ولاسيما الرواية. في الحقيقة أن البحث المعقول في هذا الأدب يكشف للقارئ والدارس أنه يمرّ، وربما من تسعينيات القرن الماضي، بحالة نهوض، ولاسيما في أجناسه السردية. في الواقع، لقد برزت، منذ نهاية ثمانينيات القرن الماضي ومروراً بتسعينياته، ووصولاً إلى المدة التي انقضت من القرن الحادي والعشرين، أسماء لا يُستهان بها في الكتابة السردية، قصةً قصيرة ورواية، نذكر منها على سبيل المثال والأهمية: سعود المظفر، وإيمان المعشر، ومحمد سيف الرحبي، وعبد الرحمن منكو، ويحيى بن سلام المنذري، وسالم آل تويّه الذي نتوقف هنا عند روايته “أيوب شاهين”(). ولأننا سنتناول، من خلال هذا النموذح، ظاهرة فنية وموضوعية، وهي البيئة المحلية، المفهومة بالطبع، ثم الوصف وصفية السرد التي من المفيد المرور بشكل مختصر بمفهوميْها.
يقول مجدي وهبة، في معجمه الأدبي: “الوصف إنشاء يُراد به إعطاء صورة ذهنية عن مشهد أو شخص أو إحساس أو زمان للقارئ أو المستمع. وفي العمل الأدبي يخلق الوصف البيئة التي تجري فيها أحداث القصص”(). وهو كلام نعتقده صحيحاً ووافياً، مع اختلافنا جزئياً مع تعبير “يخلق الوصفُ البيئةَ”، فنحن نعتقد أنه لا يخلقها بل يتمثّلها ويرسمها ويقدمها. وهنا تحديداً، وكما يشير التعريف، تحضر البيئة، المحلّية عادةً، التي تجري فيها الأحداث، وهي في الرواية التي نتناولها في دراستنا هذه، البيئة العمانية بالطبع، كما سنأتي إلى ذلك بعد قليل. في هذا نلتقي مع من يقول عن الوصف: “هو الرسم بالكلام الذي ينقل مشهداً حقيقياً أو خيالياً للأحياء أو الأشياء أو الأمكنة بتصوير خارجي أو داخلي من خلال رؤية موضوعية أو ذاتية أو تأملية”()، ونضيف بما فيه من أناس هم، في العمل السردي، شخصياته. ولكنْ، لكي لا يُفهم من كلامنا تخطيئاً لما يذهب إليه مجدي وهبة، بقدر ما هو اختلافٌ معه في استخدام كلمة بالتحديد في ذلك، وهي (يخلق)، يجب أن نقول إن ما تنطوي عليه هذه الكلمة، من حضورِ ذاتِ المؤلف أو الواصف، موجود في عملية الوصف، ولا سيما الإبداعي الفني والأدبي، إذ “ليس الوصف عمليةً محايدة تكتفي برصد خصائص الموصوف، ولكنه كشفٌ لذاتية الواصف وموقفه. ومن هنا تنبع ضرورة استجلاء وجهة النظر التي يصدر عنها”()، وهو ما سنُعنى به، ضمناً غالباً، في تناولنا لرواية سالم آل تويّه.
وكما يمكن أن نلاحظ، إن الوصف عادة ما يرتبط بسرد الإنسان لأي شيء، وتبعاً لذلك كان من الطبيعي أن يحضر فاعلاً في السرد الأدبي، قصةً قصيرة وروايةً. والأصل أن السرد والوصف يحضران الواحد إلى جانب الآخر، ولكنهما في حقيقتها لا يندمجان، كما قد يُظن، ولهذا قيل إن الوصف في القصة والرواية يعني توقف السرد، أي أن مسيرة السرد تصير صفراً. ولكن في التقنية الحديثة صار من الممكن للسرد يأتي هو ذاته وصفياً. وكلا الحالين سيكونان محط اهتمام مقالتنا في تحليل رواية “أيوب شاهين”، مع اهتمام في كل الأحوال بحضور البيئة العمانية من خلال الوصف.
( 2 )
تحيلنا المحلية في رواية “أيوب شاهين” إلى موضوع البيئة المحلية في السرد العماني. فعموم الكُتّاب العمانيين يُبدون، برأينا، ميلاً إلى البيئة المحلية واهتماماً بها يكاد يكون عند بعضهم عشقاً. وغالباً ما تحضر هذه البيئة من خلال الطبيعة ولاسيما طبيعة القرية الزراعية التي حضرت في الكثير من النصوص.. “قرية ذات طبيعة زراعية تحفّ بها أشجار النخيل العالية وأشجار الليمون… مكان لا يبعث إلا على مشاعر الهدوء والسكينة من خلال استخدام لمفردات العشب الأخضر الناعم وزخات المطر الخفيف المتراقص كأغنية وصورة الحمامات الملونة التي تبعث على السلام وأمن القرية وصوت خرير الماء في الفلج، هي كلها صور تنتقل من النص لتبعث في نفس المتلقي ذات الهدوء والسكينة”(). ولكنّ هذا لا يعني أن البيئة لا تحضر إلا عبر هذا الجانب، بل عبر جوانب عديدة سنمر بها. وفي كل الأحوال، حين يحس هؤلاء الكتّاب بتأثير البيئة ويفعلون ما يفعلونه معها، فإنهم كثيراً ما يسمحون لها بأن تهيمن عليهم سردياً، وكأنها تطاردهم وتأبى أن تتخلى عنهم، أو بتعبير أصح تأبى عليهم أن يتخلوا عنها، وهو ما عرفناه عند قاصين عمانيين عديدين، ولاسيما من الجيل المؤسس والجيل الذي تلاه. هي تحضر بقوة وبمعناها الواسع وبأبعادها الثلاثة: الأول المكاني حيث المكان والطبيعة والبلدات والبيوت وتفاصيلها؛ والثاني الزماني حيث التاريخ والموروث والماضي كما يحضر في واقع أحداث العمل ومسارها، أو استرجاعاً، بتأثير البعد والحنين مثلاً؛ والثالث البشري حيث الناس العُمانيين بكل ما عُرف عنهم من طيبة وتهذيب وتنوّع وقبول التنوع والموقف من الآخر. ولكن هل يتم توظيف هذا الحضور فنّياً بما يصبّ في فائدة السرد؟ نعم إلى حد كبير، وهو ما انتبه إليه بعض النقاد فبحثوا في هذا، كما فعلتْ مثلاً شُبّر بن شرف الموسوي حين كتبت مرة عن “دلالة البحر في القصة العمانية المعاصرة”(). وعلى أية حال إن هذا ما نظن أن الكتّاب يختلفون فيه كما تختلف فيه أعمالخك، وتبعاً لذلك هو يحتاج إلى تردّد وعدم الحسم، إلا بالحدود التي يسمح كل عمل نقرأه او نحلله أو ندرسه بأن ندّعيه. هذا ما سنفعله ضمناً ونتيجةً في تناولنا لرواية “أيوب شاهين” لسالم آل تويّه الذي يجب أن نقول إنه يسعى بوضوح لتوظيف البيئة، أما مدى ما يذهب إليه في ذلك وما يقنع فيه وما لا يقنع، فهو، مرة أخرى ما نعوّل على دراستنا أن تكشف عنه.
هنا، وقبل الذهاب إلى ما يقترن بحضور البيئة العمانية، نعني الوصف والوصفية وضمنهما وصف البيئة، يجب أن نقول: إن سالم آل تويّه يعبر، في ذلك وفي غيره، وفي روايته عموماً، عن الهم الإنساني، ولكن من خلال محلية قد تتسع إلى أن تكون عربية أو شرقية، حتى وإن وردت أسماء عمانية شعبية أو جغرافية أو غيرها. وهي إذ تحقق هذه العمانية والمحلية وتبعاً لذلك العربية والشرقية، فإنها تكتسب بعداً إنسانياً أيضاً، “وخاصة من خلال أزمة الفرد المأزوم الذي انطلق منه الكاتب. وإذا ما كان كل هذا يتشكل عبر التمثّل، فإن التمثّل في السرد يعتمد أصلاً على الوصف، ومن هنا حين نتكلم عن حضور البيئة، وتحديداً العمانية، أكانت مقتصرة في دلالتها على عمانيتها، أم تذهب في هذه الدلالة إلى العربية أو الشرقية، وربما الإنسانية، فإنها تحضر عبر الوصف الذي يرتبط في السرد بالتمثّل. والتمثّل يفرض أن يحضر به أو معه، ووفقاً لما يقترحه الناقد المغربي جواد بنيس في دراسته، التي مرت الإشارة إليها، الواصف والموصوف اللذان يقابلان في السرد وفي تعبير البعض الراوي والمروي، ونضيف نحن إليهما المروي له، على اعتبار أن للراوي والمروي تأثيراً في الكيفية التي يكون عليها المروي وصفاً، حتى وإنْ لم يكن هذا المروي في مرجعيته على أرض الواقع بالشكل الذي يوصف به.
( 3 )
أما رواية “أيوب شاهين”، فلعل أكثر ما تطرحه، تعلّقاً بالبيئة العمانية والإنسان العماني، أنها لعبت على ما قد يكون مسكوتاً عنه فيها، وإنْ بدرجة، وهو تنوّع المجتمع العماني في مكوّناته، الذي يزيده تنوّعاً المقيمون من مصريين وهنود وباكستانيين وغيرهم. وكان من الطبيعي، كما يمكن أن يحدث في كل مجتمع يشتمل على مثل هذه المكونات، أن يقود، بدرجة أو بأخرى، إلى تمايزات وحساسيات، مع كل ما معروف عن الإنسان العُماني من تهذيب وأدب تعامل وتقبّل للآخر(). الرواية قائمة في مستوى من مستوياتها على هذا، كما يتمثل بشكل مباشر وغير مباشر في نظرة البعض من مكوّنات معينة إلى أبناء مكونات أخرى، وفي تحسس آخرين مما قد يكون صحيحاً أو غير صحيح من نظرة الآخرين إليهم، وانتشار الفساد بين مجموعات بشرية معينة كما هو الحال، في الرواية، في عديد الأطباء والممرضين من جنسيات معينة، والشذوذ الجنسي بين الرجال، كما تتمثّله الرواية في زوج حميدة. والأهم من ذلك كله، أن مثل هذا يتمثل في رفض (يحيى بن صقر) تزويج ابنته (حميدة) لـ(أيوب) لأنه، كما يقول الجميع، من (مكران) وأنه غير عربي، والرواية في بعض مسارها تقيم بناءها على هذا الرفض، ولكن ليس عليه فقط. فإذا ما كان الإحساس بالنظرات غير الإنسانية أو (العنصرية) حاضراً في (أيوب) أصلاً، فإنه على ما يبدو متعوّده ومتقبّلٌ له بشكل أو بآخر، كما كل شيء يعتاد عليه الإنسان، حتى وهو يُمارَس في إقامة الصلاة:
“هنا في هذا المسجد بالذات طالما تعرّضَ للاحتقار. كان مُقصى في آخر الصفّ دائماً أو الصف الأخير، مثلما كان والده شاهين مراد، مثلما كان عبيد ووضّاح ومنين وشنجوب وسليم وكنكوس وتيسير و.. ومثلما هو الآن واقف هنا يصلّي صلاة الظهر في أقصى طرف الصف الثاني.”- الرواية، ص49.
لكن ما يثير ألماً حقيقياً فيه، فهو حين تقود هذه النظرة أبا (حميدة) إلى رفضه زوجاً لابنته:
“يحيى بن صقر الذي لمّا يزل يرعد في أذنيه وعينيه: (مهما سوّيتوا أنتوه ما من هذي البلاد. الله خلق الناس درجات. لا ترفعوا روسكم فوق. انتو أقلّ منا. وطنكم مكران. انته انته شاهين مراد عمرك كله ما لبست خنجر. وحتى لو لبسته يبقى أسلك من مكران).”- الرواية، ص60.
ليبقى ذلك بشكل سؤال كبير يرنّ في أذنيه ولا يجد له جواباً، ليكون عاملاً أساسياً في مرضه الذي يشكل جوهر خط الرواية:
“لماذا تبدو مكران تهمة دائماً؟. لو كان يعرفها على الأقل! لو زارها! لو تحدّث بلغتها لذهب إليها، فما عاد يريد الكثير من هذه الحياة… أبوب ووالده متّهمان من قبل والد حميدة بما لا يتخيّل أيوب أبداً ولا يفهم كيف يمكن اعتباره تهمة: أصلهما من مكران!، وأيضاً طامة أخرى: مذهبهما سني!: هذا لا يستقيم مع أوهام الفرقة الناجية!”- الرواية، ص74.
الرواية تقوم على شخصية مركزية من المهم انكشاف عالمها الداخلي وانفعالاتها وتأزّماتها، وهذا العالم الداخلي وما حوله هو من جميل ما تستحضره المحلية، بكل مكوناتها وأناسها، كما رأيناها مثلاً في موقف (يحيى)، لتُصاغ منها، في الوقت نفسه وفي كثير من المواقع والمواقف والمشاهد، معادلات موضوعية. في الحقيقة، إذا ما قال إليوت: “إن الطريقة الوحيدة للتعبير عن الانفعال في صورة الفن إنما تكون بإيجاد (معادل موضوعي)، أو بعبارة أخرى مجموعة من الموضوعات ومواقف وسلسلة أحداث تكون صيغة ذلك الانفعال بشكل خاص، بحيث إذا ذُكرت الحقائق الخارجية التي لا بد أن تنتهي إلى تجربة حسّية مثل الانفعال في الحال بالذهن”()، فإن رواية “أيوب شاهين” تكاد تكون كلها، خارج حدود شخصية البطل (أيوب)، معادلاً موضوعياً للوضع النفسي للبطل، لاسيما في ما تقدمه في وصفيتها. ولمّا كان للمعادل الموضوعي، حتى بمعزل عن أن تكون الرواية كلها كذلك، من أهمية في التعبير عن دواخل الشخصيات ونفسياتها وتأزّماتها، ولأنه قائم عادةً على الوصف والوصفية فإن هذا الوصف وهذه الوصفية يحضران بقوة في الرواية، بل إن الكاتب ينجح بشكل غير عادي في توظيف المعادل الموضوعي، وما يقوم عليه من وصف ووصفية ليُكمل به رسم البيئة المحلية من جهة والشخصية المركزية والتعبير عن أزمتها وانفعالاتها من جهة أخرى:
“… شعر أيوب بوحدة موحشة، وكان ضوء القنديل يخبو هنااااااك، في رأسه، بقي قرابة دقيقة يضؤل اندلاعه ثم انطفأ؟. من جديد يسحقه الشعور بالوحدة، يلتفت إلى الجهة الأخرى. لا ضوء سيارة يُمزَّق الظلمة. الدكاكين مغلقة.”- الرواية، ص86.
( 4 )
وإذ ينطبق الكاتب من عين البيئة العمانية المملوءة بالقيم والطقوس والعادات الشعبية، ومن أناس تلك البيئة، وهي بيئة عربية شرقية، فإنه يضفي على شخصية البطل (أيوب) من خصائصها الكثير، بل ربما لا نبالغ إذا ما قلنا إن اسمه يستدعي ما هو أكثر من ذلك، من دلالات دينية وتراثية بل إنسانية، ولاسيما بما يتميز به صاحب الاسم الأصلي، وهو النبي أيوب، من صفات ارتبطت بالصبر وبتحمل المصائب والآلام والفّقْد، ومعها كلها الوحدة التي فرضتها أمراضه عليه. فلعل أشد ما يكتشف (أيوب شاهين) متأخراً أنه يعانيه، وحين يأخذ المرض يطوّقه بمحبس من الذبول والخمول والوهن والإنهاك وضعف الجسد والذاكرة، هو عزلته عن البشر من حوله، مع ما يكنّه الكثيرون منهم من حب له:
“عندما وخزته الوحدة ثانيةً وخزاً حاداً قاسياً شديداً عرف أنه لم يرافق أحداً في حياته مثلما رافق دراجته، ولم يفهمه أحدٌ مثلما فهمتْه.”- الرواية، ص91.
وفوق أن هذه الوحدة أو العزلة، هي متحققةً أو متخّيلة إحساساً، هي أقسى ما يمكن أن يواجهه الإنسان، فإنها تكون أشد عليه حين تأتي من وسطه أو بيئته بأناسها وانقسامهم الاجتماعي كما لم يكن منتظراً منها أن تفعله به، وهو الذي لم يقابلها، أرضاً وبساتين وبيوتاً وأناساً، إلا بالحب. ولكن، وكما كل الناس غير العاديين طيبةً وصلاحاً، ينكشف أيضاً، إلى جانب ذلك، ربما لنا هذه المرة أكثر مما هو له، كم هو جزء جوهري في الحياة عينها من حوله. بل إن هذه الشخصية المتخيّلة تكاد تشعّ هالات تقترب من السحرية. هي، بتعبير أدق، هالات من الطيبة والتديّن والمصالحة مع النفس وقوة الجذب، وهو صفات، على أية حال، تُوصل إلى مثل هذه السحرية. فإزاء مواصفاته الخَلْقية والخُلقية وسلوكياته، تنجذب إليه غالبية الناس من حوله بفعل هذه القوة الخفية غير المفصَح عنها المُوهبة له، ونفترض ابتداءً أنها الغالبية الخيّرة. وسيتأكد هذا حين لا ينجذب إليه من هو ليس بسويّ أو ليس بخيّر، مثل (يحيى بن صقر) أبي حبيبته (حميدة) الذي يرفض تزويجها له، و(محمد أمين) كبير المزورين في المستشفى التي يُنقل إليها (أيوب) مريضاً، و(موهن) الطبيب المزور فيها. فمقابل هذه القلّة، هو يكون محط حب الجميع غيرها فعلاً، وكما أنهم محط حبه هو، مثل حبيبته (حميدة) التي تبقى تحبه حتى بعد تزويجها لغيره، ورفيق عمره (جمعة بن حارب)، ومعلمة القرآن (زمان)، وطبيب المنطقة (حسن)، وأخيراً خالته (سكينة) وزوجها (دوست)، وللخالة تحديداً حضور قويّ بسبب موت أمه وهو في الرابعة. وكل ذلك يتم بتلك القوة الروحية أو السحرية الغامضة التي يضفيها السرد، ضمناً، على شخصيته، وكأنه صاحب كرامات أو بركات تذكّرنا في النتيجة بشخصية (الزين) في رواية “عرس الزين” للطيب صالح. ولعل من جملة ما يجسّد هذا التشابه لجوء الآخرين إليه متبرّكين، ليصوم هو عنهم نذورهم، لتكون النتيجة أنه يكاد يكون صائماً دوماً، وكأن أجْرَ أنْ يصوم (أيوب) عنهم هو أضمن من أجرِ أنْ يصوموا هم أنفسهم، الأمر الذي يجعله، خصوصاً وهو مريض ومن أعراض مرضه النسيان، يسجل نذور الصيام. فحين تطلب منه المعلمة (زمان) أن يصوم عن والدها،
“أخرج أيوب قلماً ودفتراً أزرق صغيراً مجلّداً بورق مقوَّى، قلب أوراقه حتى أول ورقة فارغة بعد منتصفه، كتب: سِندي أبو عامر النخلة والد المعلمة زمان. قلَبَ الصفحة السابقة التي قبلها والتي قبلها المكتوب عليها نهاية تأريخ آخر صوم، الصوم الحالي: عن عيسى بن سيف 35 يوم. بداية الصوم: الخميس 28 صف 1413 ه.
بعد أربعة أشهر بحول الله خالتي زمان. قبل هذا بَصُوم عن واحد من الشارقة وواحد من الشوار”- الرواية، ص43.
ولكن من جميل ما يتحقق هنا أن كل هذا إذ يُضفي على الشخصية ما يشبه الصورة الأسطورية، فإنه لا يكون بمبالغة في الإسطرة تُبعدها عن الإقناع، ففي كل الأحوال يبقى (أيوب) شخصية واقعية، في رواية واقعية.
ولعله تماشياً مع امتلاكه أبعاد الطيبة المحلية والسحرية والأسطورية هذه، يأتي رد فعل (حميدة) على تزويجها بغيره، بأن تقرر أن تقضي حياتها مع الزوج متمرّدةً على كل شيء وصولاً حتى إلى الانغماس في المجون والعلاقات بغيره، وكأنها تريد الانتقام من أبيها وزوجها، خصوصاً بعد أن يتأكد لها شذوذ الزوج الجنسي. بينما يأبى (أيوب) نفسه أن يأتي بما قد يشوه شخصيته هذه، فيأبى حتى الاستجابة لـ(حميدة) حين تقترح عليه:
“عندك جواز سفرك وعندي جواز سفري، لم لا نعود إلى أفريقياً؟.”- الرواية، هامش ص111.
فيختار، أو ربما يرتجي أن يموت ببطء، بعد أن ينعزل عن الحياة قبل المرض. ولكن كراماته إنساناً تبقى. فبينما يُطيح معنوياً بأبي (حميدة) ما يؤول إليه زواج ابنته الذي أراده لها، تتفاعل وجدانياً كل طيبة أهل البلد وتبقى قلوبها تنبض بحب (أيوب)، وتعبّر عن نفسها قوية وغير عادية:
“بعد يومين من تنويمه في مستشفى إبرا كان خبر مرضه قد انتشر في البلدة والبلدات المجاورة. ما أنْ حلّت الساعة العاشرة صباحاً حتى بدأ بعض أهالي البلدة يتوافد لزيارته… وقت الزيارة المسائية… جاؤوا فرادى أو كل اثنين وثلاثة وأربعة معاً. على متن باص المدرسة جاء رجال ونساء من العرْق… وقفوا عند رأسه، عند قدميه، أحاطوا به… .”- الرواية، ص190.
( 5 )
تقنياً قَدّمتْ الرواية كل هذا العالم وبمركزية بطلها، بضمير الغائب، وبتبنّي وجهة نظره بشكل شبه مطلق. ولأنها هكذا فإنها تبدو وكأنها تُروى بضمير (أنا) هذه الشخصية، أي بما يسمى (هو) المتكلم. أما ما يخرج عن ذلك، نعني حين تعبر الرواية من وجهات نظر شخصيات أخرى، أو من وجهة نظر راوٍ خارجيّ، فإنه يصبّ في إكمال صورة شخصية البطل وفي ما يريد أن يعبّر عنه من شخصيات أخرى وأحداث وبيئة وما تكتنزه. وهكذا، فالسرد بضمير الغائب (هو) الذي قد لا يخدم كونَ الرواية ذات شخصية محورية بعوالم داخلية مهمة، لا يفوّت على الرواية الاستفادة من هذا الضمير لأنه (هو) المتكلم، كما قلنا، في وقت أسهم فيه هذا الاعتماد على ضمير الغائب لا ضمير المتكلم، من خلال الراوي الخارجي، في أن تكون الرواية رواية شجن، ففي تقديم الشخصية المركزية في أوضاع نفسية ووجدانية خاصة من خلال عيون آخرين تنظر إليها، صار الشجن كامل الأركان.
لقد سارت الشخصية من أسطر الرواية الأولى، وهي تقطر بإيقاع ألم هادئ ولكنه يتردد في ما حولها وفي مَن مِن حولها، بينما شكّلت الشخصيات الأخرى، بما تتركه فيها من تأثيرات، جوقة تردد هذا الشجن: الخالة (سكينة) وزوجها (دوست)، والدكتور(حسن)، والصديق المخلص (جمعة)، ممن يعني (أيوب) لهم جميعاً شيئاً خاصاً قد يصعب تحديده أو وضع اليد عليه، هو روحي أو سحري أو لا إرادي أو غيبي أو ميثولوجي يصبّ ما قلناه عن خصوصية شخصيته. وفي النتيجة تتحقق جمالية إيصال إلى القارئ تنقل هذا الشجن إليه. وإذا كانت النهاية مكتوبة بوصفها موت (أيوب)، فإننا قبل الموته فعلياً لن نكون متأكّدين من أنه قادم إلا في الكلمات الأخيرة من الرواية:
“قبل سبعة وثلاثين عاماً لم يكن هناك إنسان على هذه الأرض يُسمّى أيوب شاهين. أيوب شاهين يمضي الآن لينقضي في ذاك العدم الذي جاء منه: وطنه الوحيد الذي لا ينازعه عليه أحد، لن يحتقره فيه أحد. الذكرى أصبحت تخُصُّ روحاً تعود إلى منبعها. ذكرى الأحياء لإنسان غاب للأبد، إنسان لن يعود موجوداً إلا مستدعىً من قِبَل ذكرى يتناهشها الزمن حتى يُفتِّ روحها هي الأخرى.”- الرواية، ص244.
ولكي يتواءم مسار الرواية فنياً مع نَفَس الشجن الذي اصطبغت به شخصية بطلها، وهي من روايات الشخصية، كان من الطبيعي أن يسير خطها الحدثي بإيقاع بطيء. هنا يجب أن نسجل على هذا الإيقاع البطيء المناسب والمبرَّر موضوعياً وفنياً، ما شبها من أفقيةً نعرف أنها ليست مستحبة في العمل السردي ولاسيما الروائي، خصوصاً حين يقترن بتفصيلية وإطالة غير مسوّغة (انظر، على سبيل المثال، الفصلين السابع والثامن، ص108-126). لكن حضور حركاتِ تصاعد جزئي في بعض مراحل هذا المسار، وتصاعد جميل في الربع الأخير من الرواية تقريباً، قد خفف من وقع هذا البطء، متناسباً تماماً هو الآخر مع نَفَس الشجن، وتحديداً خصوصاً حن تتدهور صحة (أيوب) وتنكتب النهاية موتاً في وعيه كما في وعي الشخصيات من حوله، وفي وعينا نحن القراء. بقي أن نقول كان أمام الرواية، وهي تعتمد كثيراً تقنية الفلاش باك، أن تحقق تصاعداً أكثر، خصوصاً من خلال ما يستدعيه وعي (أيوب) من وقائع مهمة كأنها هي وراء ما هو عليه من أزمة وتيه بل مرض، وما الورم الذي يبرز في رقبته، إلا العارض المادي لذلك، من ذلك: واقعة رفض (يحيى) تزويجه ابنته (حميدة)، وواقعة زواجها من شخص آخر ستكتشف سريعاً أنه شاذ جنسياً، وواقعة زيارة عمه (لقمان) له هو وأبيه أيامَ كان صغيراً، وقبل أن يختفي تماماً، وما ينكشف له من خلال أحاديث يسمعها تجري بين عمه وأبيه، وبعض الوقائع الأخرى المتعلقّة بعلاقته بـ(حميدة)، وبعلاقته بالبيئة وأناسها من حوله.
إذا كان لنا، في وقفتنا الأخيرة هذه، أن نأخذ على الرواية شيئاً، غير الذي انطوى عليه ما سبق من مقالنا، فهو الهوامش التي استخدمها المؤلف بكثرة غير عادية وغالباً غير مبرَّرة، فمنها، أولاً، ما هو يُكمل شيئاً- حدثاً أو شخصيةً أو أمراً ما- في النص، وهو ينقسم بين ما كان يجب أن يضعه في المتن، وما ليس من فائدة في؛ وثانياً ما هو ترجمات لمفردات، وعبارات، وفقرات، وحوارات ترد على ألسنة الشخصيات بلغات ولهجات مختلفة، وكان من الأجدى أن ترد غالبيتها بالعربية في النص مقرونة بإشارة الراوي إلى أن الشخصيات تقولها باللغة الفلانية، والقليل منها بالعامية وهي عادة مفهومة؛ وثالثاً، ما هو معلومات عن مناطق وبلدات وأشياء وغير ذلك، لا نظن القارئ بحاجة إلى شرح إلا القليل منها.
وإذا ما سجلنا هذا على الرواية، فإن مما يُسجل لها لهو متضمّنٌ في عموم المقال الدراسة، مما هو أكثر مما يمكن نعيد الإشارة إليه.

عن fatimahassann23

شاهد أيضاً

دراسة عن دروب وحشية

تشكلات البناء السردي في رواية دروب وحشية للناقد نجم عبد الله كاظم أنفال_كاظم جريدة اوروك …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *