حين نرسم صورة للآخر قبل أن نراه
قراءة في رواية رضوى عاشور
“الرحلة.. أيام طالبة مصرية في أمريكا”
منشور
د. نجم عبدالله كاظم
( 1 )
من الجمل الأولى لرواية الراحلة رضوى عاشور “الرحلة.. أيام طالبة مصرية في أمريكا”(
)، نحس، ليس لأنها تُروى بضمير المتكلم أو المتكلمة، أنها سيرة أو تقترب منها، وهو ما يتأكد لنا ليس متاخراً عن ذلك، وتحديداً حين نجد الراوية البطلة تتكلم عن نفسها بأسلوب سِيري، ومتأخراً حين تبدأ تشير إلى نفسها باسم رضوى عاشور وإلى زوجها باسم مريد البرغوثي، وهما اسما المؤلفة وزوجها. وتدعم هذا بإقران الأحداث، ولاسيما رحلة البطلة إلى أمريكا بتواريخ محددة. وربما بسبب أن الكاتبة تكتب سيرتها الخاصة، وتحديداً تجربتها في الدراسة في أمريكا، فإنها تُبدي حرصاً واضحاً على أن لا تهمل أي شيء مما يبدو أنها فعلته أو خبرته أو شاهدته أو اطلعت عليه في تجربتها، مما هو من مواصفات السيرة. وهذا حقيقةً ما نعتقد أنه قد دفعها إلى تضمين الرواية من الأحداث والمواقف والشخصيات والإشارات الكثير مما قد لا يكون من حاجة أو فائدة للمتخيل فيه كما يتطلبه العمل الروائي، أو على الأقل هي تستفيض في ما لا يحتاج إلى ذلك، كما في ص20 مثلاً. وضمن ذلك يأتي تضمين الرواية أشعاراً لزوج المؤلفة البطلة الشاعر العربي المعروف مُريد البرغوثي، كما تأتي على ذكر هيوز وأشعار له وبيكاسو وكولردج وقصيدته المعروفة “الملاح القديم”، وشيللي ونظريته النقدية، وإليوت و”الأرض اليباب”، مما من الواضح، مرة أخرى، أنه من اهتمامات المؤلفة وزوجها الشاعر.
وهكذا، إذن، تبدأ الرواية بالبطلة وهي تنطلق من المطار مسافرة إلى أمريكا، لتختصر الكاتبة بشكل موفّق المسافة والزمان فتنتقل بنا إلى الجامعة التي تتوجّه إليها في أمريكا بوصفها طالبة جديدة مع طالبتين أجنبيتين سرعان ما تعرف أنهما بولندية وإسرائلية ليتوجهوا جميعاً إلى مكتب الطلبة الأجانب. وهي بذلك تُؤكد إعلان العنوان بأنها رحلة، وهي، كما قلنا حقيقية، ولكن الأهم هنا ما تحمله المؤلفة الراوية البطلة من أفكار ورؤى ومواقف من أمريكا ستُعلن عنها سريعاً، لتسير بعد ذلك في طريق كشف ذلك عملياً في تجربة إقامتها فيها، مما سيكون أحد اهتماماتنا الرئيسة فيما سيأتي من وقفتنا القصيرة عند الرواية.
( 2 )
إذا ما تمثل الغرب عموماً، وأمريكا خصوصاً، بنفسيهما بهذا الشكل عبر الشخصيات الغربية في روايات عبد الرحمن منيف ومهدي عيسى الصقر وبعض روايات ميسلون هادي وإبراهيم وآخرين، فإن بطلة رضوى عاشور العربية في “الرحلة” هي التي ترسم ذلك عبر التصور، والأهم الذي تحمله مقدّماً قبل رحلتها إلى الغرب وفي توجهها إليه وإقامتها فيه، وبما يبدو لنا أنه موقف لم تكن، في حقيقة الأمر وحتى وإنْ لم تصرّح أو تعترف بهذا، مستعدة لتغييره. فهي لا تخفي تبنيها لهذه الرؤيا، وتحديداً تجاه أمريكا. ولكن من المهم أن نقرّ، من ناحية أخرى، أنها حين تفعل ذلك إنما تفعله بوعي يجعلها تعلّل ذلك وتحديداً رسمها لصورة أمريكا مسبّقاً، وقبل وصولها أو بطلتها إليها والعيش فيها والتعامل مع أهليها، فتقول ما من الواضح أنه كلام المؤلفة ذاتها، ويؤيد ما نذهب إليه:
“كرفاعة [الطهطاوي]، كنت في طريقي إلى بلاد بعيدة عنا غاية الابتعاد، لتحصيل المعارف، ولكني لم أكن مثله ذاهبة بحياد من لا يعرف شيئاً مما هو مقبل عليه، ولا كنت مثل أجيال لحقته من مبعوثين راحوا وعادوا مدلهين في عشق الأنوار الإمبريالية”. الرواية، ص6.
هكذا من البداية تتخذ البطلة الراوية، أو المؤلفة، الموقف المسبّق من أمريكا والأمريكان سواء أكان هذا في إيجابياته أو سلبياته. وحتى حين تبرّر ذهابها إلى أمريكا للدراسة، فإنها لا تكون مقنعة بأي حيادية، وتحديداً حين تدّعي ذلك باهتمامها “بالأدب الأمريكي الأسود”، فهذا هو ذاته، وهي تنتقي من أمريكا ما هو ضمناً ضد أمريكا، مؤشر لا ينفي بل يؤكد أنها صاحبة موقف والتزام أصلاً، ويعزّز هذا اختيارُها “قسم الدراسات الأفرو أمريكية” تحديداً، في هذه الجامعة. والنتيجة، مرة أخرى، أنه موقف مسبق للكاتبة، أو الراوية، أو البطلة من الأمريكيين سيقودها سريعاً إلى أن تظهرهم عنصريين، تحديداً حين تسعى، بقصدية لا شك فيها أبداً، إلى عكس الجانب السلبي من واقع أمريكا، الذي يقول المنطق إنه لا يمكن أن يكون الوحيد كما تكاد الرواية أن تقرّره بانحياز ومغادرة للموضوعية، من عنصرية وجرائم وعبودية، بل حتى طقس.
لهذا كله لا يتأخر أول صِدام أو لنقل لقاء غير إيجابي بين الشرق والغرب، حين يأتي مبكّراً، ويتجسد في ما يشبه المواجهة غير المعلنة بين البطلة وزميلتها الجنوبية في الغرفة وعلى ما يبدو لم ترتح للبطلة، وغادرتْ الغرفة لأنها غادرت الجامعة أصلاً لسبب غير معروف:
“تركتْ لويز زميلتي في الحجرة الجامعية مكانها بعد أسبوعين من وصولها، فشعرت بارتياح عميق لانفرادي بالحجرة دون سليلة ملوك البرتغال التي اكتشفتُ أن لانكماشها مني أسباباً أخرى أيضاً. كانت الفتاة الجنوبية البيضاء ضائقة مني متوجسة من لون بشرتي، من خلفيتي الدينية، من جنسيتي، كانت باختصار خائفة من مجرد أنني أنا، وأنني موجودة في هذا العالم… لكن المهم أنها انزاحت عن الجامعة وقلبي فاسترحتْ”. ص23-24.
واستجابةً لعين الموقف المسبّق، تسير الكاتبة ببطلتها في طريق دعم رؤياها هذه عبر التقاطها كل سلبيات الأمريكيين والمجتمع الأمريكي التي تصب في صورتها الإمبريالية بشكل خاص، بل هي بصراحة وبثبات رؤيا تكاد تختلق بعض ذلك، أو على الأقل، وهنا نقول بالتأكيد، تفتعل الالتفات إليه وقد تضخّمه.
وهي لا تنسى، إزاء وجود غير الأمريكي، لا تُخفي البطلة- ومن خلفها الكاتبة- انحيازها عنصرياً للمصري والعربي والشرقي عموماً، بل حتى الإفريقي إزاء الغربي وتحديداً الأمريكي، وهو الانحياز الذي يكاد يُفقد البطلة راويةً الموضوعية تماماً وفي النتيجة الإقناع حين يصل الأمر إلى حد أن ترى مبنى الدراسات الأفرو- أمريكية هو أكثر جذباً وفنّاً وإشراقاً من قسم الأدب الإنكليزي. بل، وهي تتعمد إضفاء السلبية على أمريكا والحياة في أمريكا، لم تتجاوز حتى طقسها الذي ارتبط في الرواية غالباً بالمطر والثلج والصقيع والبرد في جانبها السلبي، وهو توظيف للجو يذكرنا جزئياً بتوظيف همنغوي للجو والطبيعة في إيصال معانٍ ودلالات، ولكنه يتعدى عند رضوى عاشور ذلك إلى المواقف.
ولا تُنهي الكاتبة روايتها دون أن تؤكد كل هذا، فتنهيها بفقرة تتساءل فيها هي أو الراوية البطلة عمّا إذا كانت تستطيع ان تنظر إلى أمريكا بعين موضوعية، وبما يبدو أنه خطأ أو سهو أو عودة وعي، قد ينسف جل نظراتها السابقة، على امتداد الرواية، إلى كل ما قيّمته في أمريكا أو حتى مجرد صوّرته أو نقلته لنا. فهي حتى حين تستوقفها مظاهر العمران الهائل والتقدم، تقول في هذه النهاية:
“أتساءل أحياناً إن كان بمقدوري أن أنظر إلى أمريكا بعين موضوعية. وكيف للملدوغ أن يتحدث بهدوء معملي عن خوص العقربة؟ وأين أذهب بذلك القهر الخاص بإنسان العالم الثالث الذي ازداد حدّةً باقترابي من تجربة العنف الاستعماري الآثم الذي تأسست فيه التجربة؟”. الرواية، ص 168.
( 3 )
مع أن الكاتبة لا تسعى، كما يبدو لنا، إلى تقديم رواية فعلاً بقدر سعيها إلى التعبير عن موقفها من أمريكا، وربما الآخر الغربي عموماً، ومن خلال سيرة أو جزء من سيرة هي أيام إقامتها طالبةً في أمريكا، فإنها بمهارة ووعي مقصود، أم هو فاعلٌ ضمناً، تقود هذا الموقف، المعبَّر عنه إطاراً من خلال رحلتها وإقامتها هاتين، بشكل سردي لتتشكل منه الرواية. في الواقع أنها تمتلك أسلوباً وتمكّناً وقدرة على إدارة رواية، إذا صح تعبيري، فعلاً. بل ومن هنا، وبالرغم من قصدية الكاتبة والكتابة وما قتاد إليه من صناعة أحداث ومواقف وحوارات، وواضح أنها لغاية شبه معلنة، جاءت الرواية شيقة إلى حد بعيد. نعتقد أن وراء هذا حس سردي وحكائي وحِرفية كتابة لا تُخفى على أي قارئ. وهكذا لا نتردد في أن نقول، ونعترف أننا هنا معياريون كما كنا في مواضع من وقفتنا النقدية هذه، إنها رواية فعلاً حتى مع افتقادها للثيمة الروائية والخط الحدثي المتصاعد. وربما من هنا حسناً فعلت الكاتبة حين وضعت لها عنواناً جانبياً فكانت أن أضافت إلى العنوان الرئيس (الرحلة) عبارتها (أيّام طالبة مصرية في أمريكا)، إذ هي تقترب فعلاً من اليوميات. وحتى حين تُعنى بالوصف بشكل شبه تقليدي يتناسب مع السيرة واليوميات، فإنها لا تبتعد كثيراً عن السرد الوصفي كما يتمثل في أشكال وأنواع معينة من الروايات، فكان جميلاً كما لم يشكل خروجاً مؤثّراً عن حداثة الرواية.
في المقابل، لعل هذا كان وراء ما بدا أنه لم يوصل العمل ليكون رواية خالصة كما أشرنا ضمناً في البداية ونأمل أن لا يبدون تناقضاً لما قلناه عنه تواً. فإذ تصف الكاتبة أو الراوية الشخصيات، خصوصاً في مظاهرها الخارجية، وتتتبّع الأحداث، وتعبّر عن الأفكار الكثيرة، ولكن ضمن فكرة الإطار التي هي الموقف من الآخر الأمريكي، وتتخذ المواقف الصريحة والضمنية، فإنها لا تُشبع الكثير من ذلك، كما لا تفعل ذلك مع الثيمات المتاحة أو ما يُفترض أن تكون ثيمات للرواية، بل هي تأتي وتمرّ سريعاً لتُنسى ليبقى الشيء الميمن في الرواية وهو شخصية البطلة في مواقفها ويومياتها (الأيام). وتعلّقاً بذلك تتخلل سَيْرَ الخط الحدثي للرواية مشاهد فلاش باك غالباً لا تقدم شيئاً للرواية وخطّها لا فنياً ولا موضوعياً، بل من الواضح أنها من إفرازات يومياتها الذاتية. وضمن ذلك تتكرر إشارتها إلى صديقي أو صديقتي أو زميلي ومعها تتالى أسماء الكثير من الأصدقاء والصديقات من دون أن يكون لغالبيتهم، إن لم نقل جميعهم أية أهمية. فكل واحد يظهر مرة أو مرّتين بإشارة أو حديث ليختفي بعد ذلك، وغالبيتهم من الطلبة، دون أن يترك أي أثر فني أو موضوعي في الرواية، فهي شخصيات مسطحة أقل من أن تكون ثانوية: رفيقة.
وربما تعلقاً بهذا تحضر السياسة، وبخلاف ما يمكن أن يتوقعه القارئ وهو يتعامل مع رواية قضيةٍ، عائمةً أكثر منها موضوعاً روائياً، سواء أكان من خلال العمل السياسي غير المعمّق للطلبة العرب في أمريكا، أو المواقف والقضايا السياسية التي تنطوي عليها بعض اللمحات والإشارات والتصريحات الموجزة والحوارات القصيرة، مثل القضية الفلسطينة وإسرائيل والمقاومة والتسويات في المنطقة العربية واليسار والتحرر والمساواة… إلخ. بعبارة أخرى هي لا تشكّل عادةً محوراً أو خطّاً فرعياً أو جزءاً من موضوع الرواية ولا ثيمة واضحة فيها، بل هي غالباً ما تأتي إشارات وأحياناً توقّفات قصيرة أو آراء مقحمة في هذه القضايا، وللكاتبة منها على أية حال مواقف وطنية.