جبرا إبراهيم جبرا – صيادون في شارع ضيق

جبرا إبراهيم جبرا: صيادون في شارع ضيق

نص دراستي للرواية في كتاب “الرواية في العراق وتأثير الرواية الأمريكية فيها
ربما كانت البدايات الأولى لمثل هذه التأثيرات في رواية جبرا الثانية، “صيادون في شارع ضيق”، والتي لا تشملها دراستنا هذه؛ ومن هنا سنكتفي بتأشير أهم ما نراه تأثيراً محتملاً فيها وبشيء من العمومية، ملتمسين من ذلك التدليل على عمق تأثر الكاتب بفوكنر وقدمه وأصالته، إن صح التعبير، والذي سيتعزز في روايتيه اللاحقتين، وهما محور اهتمامنا. فالقراءة الأولى لـ”صيادون في شارع ضيق” تترك فينا انطباعاً عاماً بأن الرواية بشكل عام، وفي بعض فصولها ومن خلال بعض شخصياتها بشكل خاص، متأثرة بالأسلوب الفوكنري لرواياته، ولاسيما “الصخب والعنف”، سواء أكان ذلك في الجو الخاص لحياة المدينة التي عُنيت به، أم في تناول أزمة المثقف الواعي، أم في مشاهد العنف والقتل ومحاولات الانتحار والاغتصاب، أم في الإحساس بالمكان والزمان، أم في تقديم الرواية بصيغة ضمير المتكلم، وفي اعتماد تقنيات تيار الوعي التي قادت إلى استخدام الحرف الفاتح والحرف الغامق في رواية جبرا ترجمةً لاستخدام فوكنر للحرف المائل والحرف العادي، إضافة إلى توظيف اللغة لما يريده للعمل فنياً. ومن هذه العموميات سنكتفي بتأشير جانبين محددين، يؤشران، من وجهة نظرنا وكما سنحاول إثبات ذلك، تأثيرات مؤكدة أو مرجّحة. الجانب الأول: هو الإحساس بالزمن في كلا العملين؛ فجبرا في روايته، كما في جميع أعماله، يستخدم وحده الزمن وسيلةً تقنية، فهو إذ يعمد إلى تحديد امتداد زمني محدد لمحور أحداث روايته، التي– أعني الأحداث– تقع عادة في الحاضر، يعمد إلى استخدام الفلاش باك، سواء أكان ذلك من خلال نقلات مباشرة منه، وهي قليلة، أم من خلال وعي شخصياته، وهي الغالبة، لينقل مسرح الأحداث من الحاضر إلى الماضي. فهو يوسع، في ذلك، المجال المكاني للرواية، ويوظف الزمن لتشغيل تقنيات الرواية ولتطوير أحداثها وبما يقود إلى استمرار تطورها الدرامي. بالإضافة إلى ذلك، وانتقالاً إلى عالم الرواية نفسها وشخصياتها، إن الإحساس بالزمن لا يهيمن على الكاتب فقط، بل يشمل غالباً شخصياته، مثل (جميل) و(عدنان).
أما الجانب الثاني الذي نريد أن نؤشّره هنا بوصفه مكنَ تأثر الكاتب برواية فوكنر، ومن خلال مثال بالذات، فهو الأحداث والمواقف. والمثال هو محاولة (عدنان) و(حسين) الانتحار، وهي تُقَّدم على لسان (عدنان) نفسه في يومياته التي ينقل لنا فيها جوهر أزمته:
“كنتُ في سلام مع نفسي والعالم أجمع، وشعرت أخيراً حين نظرتُ إلى الناس من حولي أن لا خصوصية لي مع أحد، لأنني نويت قتل نفسي نتيجة إحساس بالخيبة واللاجدوى، نتيجة عجزي عن طبع حياتي على كيان المدينة التي أحببت. وموتي لن يكون احتجاجاً بل إعلاناً عن اللاجدوى”- الرواية، ص240().
ونتيجة إحساسه هذا يكتب هو و(حسين) قصيدة وداعية مشتركة إلى العالم، ثم يتوجّهان نحو الجسر عازمَيْن على إلقاء نفسيهما إلى النهر. إن رحلتهما هذه، والإحساس بالزمن الذي يتلبس (عدنان) بشكل خاص، تشبه كثيراً مسيرة (كوينتن) في يومه الأخير– قبل الانتحار– في القسم الثاني من “الصخب والعنف”. ومع أن محاولة (عدنان) و(حسين) لا تنجح النجاح المأساوي الذي كان من الممكن، إن لم يكن من المتوقع، أن يتحقق، بينما ينتهي (كوينتن) منتحراً، فإن ذلك لا يبعد الحدث عن أن يكون الكاتب فيه مستوحياً، عن وعي أو غير وعي، أجواء رحلة (كوينتن) ومشاعره. وعلى أية حال، يجب الإقرار بأن “صيادون في شارع ضيق”، عدا ذلك وعدا أوجه التشابه الأخرى، تفترق عن “الصخب والعنف” في الكثير من جزئيات عالمها ومعمارها وشخصياتها.
وبالرغم من أن التأثير الفوكنري في جبرا، سواء أكان ذلك من خلال “الصخب والعنف” أم غيرها من الروايات، يتخطى، في روايتيه اللاحقتين– “السفينة” و”البحث عن وليد مسعود”– حدود التأثيرات الحاصلة في “صيادون في شارع ضيق”، فإنه– أعني هذه التأثير اللاحق– لَيبدو أصعب تحديداً على القارئ أو الناقد.

عن fatimahassann23

شاهد أيضاً

دراسة عن دروب وحشية

تشكلات البناء السردي في رواية دروب وحشية للناقد نجم عبد الله كاظم أنفال_كاظم جريدة اوروك …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *