بلقيس الملحم، هل تشتري ثيابي

بلقيس الملحم: هل تشتري ثيابي؟
قاصة سعودية ودم عراقي

د. نجم عبدالله كاظم
( 1 )
أنْ يتصدّر مجموعة “هل تشتري ثيابي؟”()، إهداء: “إلى الطفل الذي أورثته الحروب كل شيء.. فعاد مسكوناً بها”، ثم قول الدكتور حسين سرمك حسن “مشكلة العراق هو أنه مثل ثمرة البصل، كلما قشرتها أكثر سالت دموعك أكثر”، والرؤية شبه الشعرية التالية، تشير كلها بشكل شبه صريح إلى أن هذه الحروب هي حروب العراق، ويُفترض أن يكون الذي وراء القصص عراقياً من عراق معذّب. لكن الغريب هنا، والمجموعة، في تصديراتها، تعبّر عن انبثاقها من العراق، أن نكتشف أن هذا القاص هو السعودية بلقيس الملحم. والغريب هنا، ليس لأن القصص، جميعها تقريباً، عراقية الموضوعات، بل أن فيها من القصة العراقية، موضوعاً وفناً، الكثير لاسيما قصة العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين. هي قصص مغمسة بماء دجلة والفرات الذي يأتي ذكره في مقدمة الرؤيا شبه الشعرية، ومعجونة بمأساة العراق وتراجيديته بصدق غريب وهو يأتي من إنسان غير عراقي. القاصة تتسلل، بل تقتحم، من خلال قصص مجموعتها، كل محلات بغداد، بل كل مناطق العراق، وشوارعه وأزقته وبيوته لتقدم الإنسان العراقي في مأساة العراق اليومية التي لا تكاد تنتهي. وخلال ذلك هي ترجع إلى عمق العراق القديم الذي يحضر صريحاً ومهيمناً في بعض القصص، وتترجّع أصداء حضارته ومآسيه في قصص أخرى. والجميل الذي يُحسب للقاصة أن الكثير من قصصها، وبالرغم من هذا الحضور المأسواي والدموي والعنيف، للعراق والبيئة العراقية والإنسان العراقي، تشعرك بدفء جميل مقرون بحرارة الوجع لا حلاوة الدفء، ومسروداً بشجن لذيذ فنياً ومؤلم مضمونياً. قاصة تشعرك بذلك، حتى مع قد نأخذه عليها من بعض تفصيلية لا تتناسب مع القصة القصيرة. لكن انطلاق المجموعة كاملة من نية مسبقة للتعبير (فقط) عن بلد معين أو مجتمع بعين هو العراق، قادها إلى تكلّف توزيع القصص، موضوعات وأحداثاً وبيئةً، على جميع العراق بمحافظاته وبلداته وأناسه وأديانه وقومياته وطوائفه ومحلات عاصمته، بل حتى أحزابه ومجموعاته السياسية. نقول هذا مع اندهاشنا من المعرفة غير العادية للكاتبة بالعراق حياةً وأناساً وأحداثاً وتأريخاً، وبدقائق كل شيء وبخفايا كل شيء، ليصل الأمر إلى العادات والتقاليد والعلاقات والطبيعة. وربما من هذا التكلف من جهة، وهذه المعرفة غير العادية من جهة أخرى، جاء الكثير من قصصها صوراً أكثر منه قصصاً، مثل “الذكرى الحزينة”، التي لا تقدم سرداً حدثياً بقدر ما تقدم صوراً من واقع العراق في ظل الاحتلال والعنف والقتل. وتبقى ظاهرة غريبة أنْ يأتي معظم تلك القصص، مثل “الجنة تحت أقدام المنصور”، وهي تستحضر وتتمثل بعض ما يصعب على غير العراقي، وفي زمن أو أزمان بعينها، أن يعرفها أو يحسها أو يعرف بمن مرّ بها، فإذا بقاصة سعودية تفعل هذا، كما مع حالات السجن التي لا تعرف سببها وإلى أين تمضي ومتى تنتهي وماذا يحدث للسجناء خلالها، والاختفاء أو الإخفاء الذي كان يقع في زمن النظام الدكتاتوري السابق وتواصل في ظمن النظام (الديمقراطي) الحالي، وتفصيليات القتل والخطف والعنف. لكن هذه المعرفة للعراق، وهي تغرف في الموضوع العراقي، كان من الطبيعي أن يخونها أحياناً كونها غير عراقية، فتقع ببعض أخطاء بعضها متعلق بالجغرافية وبعض آخر بالمعلومة وبعض ثالث بدقائق اللهجات، دون أن يصيب القصة بشيء فنياً، ببساطة لأن بعضها قد يقع فيه عراقيون.

( 2 )
إذا ما جاءت قصص المجموعة كاملةً كئيبة الموضوعات، فإن وراء ذلك، أولاً، البيئة التي استقت منها القاصة قصصها والحوادث والموضوعات التي قامت عليها، نعني بيئة العراق وحروبه ومآسيه غير العادية، وثانياً انطلاق القاصة، مسبّقاً على ما يبدو، من ارتباط شخصي ذاتي بالعراق والهمّ العراقي وانغلاقها عليه، وهي تنتقل من قصة إلى أخرى من جهة، وثالثاً انشغالها بشكل شبه كلي بالموضوع، وليس بالفن، الأمر الذي جعل قصصها تغرق موضوعاً وفناً بالسوداوية من جهة. المشكلة أن ذلك كله، ولاسيما انشغالها به بوصفه همّها الوحيد، جعلها تُكرّر التجربة، إلى درجة قد تجعلنا نرى أول وهلة، وقد نبدو غير منصفين، أن خمساً أو ستاً أو سبعاً من قصص المجموعة، التي ضمّت 38 قصة، كانت تكفي، ما دامت القاصة قد حبست نفسها في تجارب هي، في الإطار العام، تجربة واحدة مكررة الأحداث والموضوعات. شيء واحد خرج عن هذا التكرار، ولكنه ينبع من نفس ادّعائنا بل يؤكده، وهو التجويد الفني الذي يتميّز في قصص، ويتواضع في قصص، ويضعف في قصص أخرى. وهكذا ما أضافت شيئاً للمجموعة قصص مثل “آخر ليلة في بغداد”، و”أكلت الرز بارداً، “، و”سمكة تدير حانة” و”المدينة الفاضلة”، و”ميرا”، و”خذ الصليب”، والأخيرة لا تكاد تنتمي إلى قصص المجموعة حين تكوّمت فيها كل عيوب الكتابة القصصية من افتعال، وغلبة للرسالة والشعارية، وافتقاد للفنية عموماً، بل حتى بعض سذاجة تتسلل إليها، بل إن المجموعة ضمّت بعض قصص لا تنتبه إليها فنّاً وتجويداً وسلامةً لغوية، مثل في قصة “غزالة”.
وفي العودة إلى موضوعة العراق المركزية في المجموعة، تخوض قصصها في الدم العراقي، بمختلف أشكال إراقته بما في الجنون الذي غلف ذلك كله وحلّ بالعراق. هنا نعتقد أن القاصة بالغت، ولكن لا في تضخيم هذا الجنون وما قاد إليه من جريان دم، كما فعلت قصص مثل “المفرمة، و”الصفصاف حين يبتسم”، لأن هذا الجريان موجود فعلاً، ولكن في تفصيلية تناوله، وقد فات القاصة أن التعبير فنياً عن مأساة لا يقوم على الكم بل على الكيف، بتعبير آخر لا على كثيرة أحداثها وفيضان دمائها وآلاف قتلاها، بل على كيفية التعبير عنها، حتى وإن كان من خلال جزئية صغيرة منها. فتمثّل حادثة مقتل شخص واحد فنياً قد يكون أصدق وأنجح بكثير من تصوير ألف قتيل. القاصة، بدلاً من ذلك، استسلمت لتفصيلية ما يحدث في العراق، وضمن ذلك ما عادت ترى العراقي إلا مقتولاً أو مجروحاً أو مخطوفاً أو فاقداً لقريب، بحيث تفقد إحدى الشخصيات، في إحدى القصص، حياتها لا في عراق الرعب والموت والقتل والعنف، بل تحت جسر الجمرات في مكة في حادث تدافع الحجاج، فمرة أخرى هي لم تكن لتحتاج إلى أن يؤدي وجود أي شخص في مكان ما أو مروره به يجب أن يؤدي إلى مقتله أو خطفه، كما فعلت في هذا القصة، بحيث يموت الأب ثم الأم فالعم وربما ابن العم.. والسلسلة لا تنتهي. بل هي لا تكتفي بهذا، وكأنها ليست واثقة من نجاح إيصال ما تريد إيصاله، فتاتي النهاية المباشرة القاتلة لقصة “الصفصاف حين يبتسم”، مثلاً:
“الآن، القصابون
“يقفون على مفترق الطرقات
“بسواطيرهم وفؤوسهم الدموية!”- المجموعة، ص99.
وهكذا تاتي قصة “لن ينزعوك من قلبي”، كما القصة السابقة وقصص أخرى، وهي تنطلق من عالم المقابر والموت، لتهيمن الكآبة المطلقة، ودون أن يختفي الرصاص، ثم نعرف في النهاية أنها كانت ضحية انفجار مفخخة، وقصة “آخر الرغبات” التي يستشهد فيها زوج البطلة في نهاية الحرب العراقية الإيرانية عام 1988، وغير ذلك تمتلئ به القصص.
والغريب الطريف، الذي كأني بالقاصة لم تنتبه إليه وهي تقوم به وتقدمه أنها، حين خرجت عن تفصيلية هذا العنف العارم، ولكن دون مغادرته هو ذاته، قدمت بعض أجمل قصصها، مثل “اجتياح” التي عبّرت عن المأساة، وبدلاً من تلك التفصيلة والغرق بالدم، بشجن، وقصة “حكاية اسمها بدور”، التي ربما تكون إحدى أجمل القصص أسلوباً وتردّدَ شجن على ما عبّرت عنه معظم قصص المجموعة الأخرى صدى للواقع الذي تعالجه، نعني العراق في ظل الكوارث والحروب والعنف والمعاناة، بينما جاءت “جسور” مكتوبة بأسلوب جميل تقترب فيه من القصيدة، ولكن مع ذات الشجن وأحاسيس الإنسان في ظل الموت.

( 3 )
وكأنها، وتعبيراً عن ذلك كله من حيث عمدت أم لم تعمد، كثيراً ما تقدم القاصة البيت العراقي والعائلة العراقية بكل أفرادها وسط معمعة الأزمة والفوضى والعنف والإرهاب والدم والموت، كما تفعل في قصة “أعلى الساقين” التي تقدم فيها العائلة في ظل الاحتلال الأمريكي وما رافقه من فوضى وإرهاب وعنف وقتل، وما جابهه من مقاومة، وضمن ذلك وجود الابن في سجن أبو غريب، وفساد الأمريكان وما فعلون بالعراق والعراقيين، والمقاومة. أما في قصة “جحيم رائب”، فتعبش (هدى) مأساة موت أخيها (وجيه) في ظل أجواء الأمن المفقود، حيث منع التجوال مثلاً، بينما أمها تشكو الحمى الشديدة، وأبوها يخرج ليلقي خطبة- ربما خطبة الجمعة- في الجامع رغم حظر التجوال. وهكذا أمر قصة “هل تشتري ثيابي؟”، التي تجمع فيها ما بين عراق الحاضر والعراق القديم، ووهي تنطلق أيضاً من الوضع المأساوي للعراق أيام القتل وفقدان الأمن، وكأنها تقوم بما يشبه الموازنة الضمنية بينهما، وهو ما يتعزّز في قصص أخرى، مثل “بكاء الحدائق” التي إذ لا تغادر الحياة العراقية والبغدادية المعاصرة بسوداويتها، تستحضر الماضي القديم وتأريخ بغداد، ويتعزز أكثر في قصة “شهوة بين ظهيرتين” التي تذهب بنا إلى العراق القديم، ومن هناك تأتي البطلة الراوية إلى عراق الموت الحديث:
“كانت تنتحب وهي تهاتفه وبصوت متقطع يصله كلامها: افعلْ شيئاً يا مجيد. أتوسّل إليك، هل جاء زمان تبتلع الأرض من يمشي عليها؟”- المجموعة، ص55.
وتعزيزاً لدور هذا البعد، نعني استحضار العراق القديم في بعض القصص، تذهب قصص أخرى إلى بعد آخر، أو لنقل في هذا جزيئة أخرى تتمثل في استحضار المكوّنات الدينية غير الإسلامية، كما في “خرائط” التي هي عن يهود العراق وما تعرّضوا له في الخمسينيات، وما تعرض له المتبقون القلائل منهم بعد السقوط، وقصة “خذ العذراء”، و”الصليب الأبيض” وهما عن المسيحيين. بينما رجعت القاصة في قصص أخرى إلى زمن النظام السابق، كما في قصة “آخر الرغبات” التي تعود بنا إلى نهاية الحرب العراقية الإيرانية عام 1988، وقصة “عطور” عن معاناة المرأة المعارضة في ذلك الزمن.
واضح أن القاصة تعتمد في عموم قصصها، ما تميزت منها وما لم تفعل، الأساليب والتقينات الحديثة للقصة القصيرة، ولكن مع بعض خصوصيات، كما تتمثل في قصة “المفرمة”، مثلاً وهي حداثوية إلى حد كبير، ولكن دون تجاوز المقومات الاساسية للقصة القصيرة كما يفعل بعض من يعتمدون ما يرونها حداثية حين يفهمون الحداثة والتجريب على أنه ثورة وتجاوز لكل شيء بفوضى لا تصل بهم في كثير من الأحيان إلى فن قصصي حقيقي.

عن fatimahassann23

شاهد أيضاً

دراسة عن دروب وحشية

تشكلات البناء السردي في رواية دروب وحشية للناقد نجم عبد الله كاظم أنفال_كاظم جريدة اوروك …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *