إسماعيل فهد إسماعيل – كانت السماء زرقاء وبقية الرباعية

إسماعيل فهد إسماعيل
كانت السماء زرقاء، وبقية الرباعية

نص دراستي للرباعية في كتاب “الرواية في العراق وتأثير الرواية الأمريكية فيها
بطل (كانت السماء زرقاء)– الجزء الأول من رباعية إسماعيل الصادرة سنة 1970– رجل ينضم إلى مجموعة هاربة باتجاه الحدود، لسبب غير صريح تماماً وإنْ جاء انضمامه أو هربه بعد انقلاب عسكري. المهم أنه يجد نفسه، بعد ذلك، مختبئاً مع ضابط جريح من الهاربين في أعقاب مهاجمة الشرطة لهم. وينطلق الكاتب من هذا الحيز المكاني والزماني ومن هاتين الشخصيتين، وعن طريق تيار الوعي، والطريقة السردية أحياناً، ليعكس خلفية بطله، متنقلاً بين الماضي والحاضر، باستخدام تقنية (الفلاش باك)، وكل ذلك عبر دواخل الشخصية الرئيسة بشكل أساس، فنعرف أنه غير منتم. “إن تجربة هذا الإنسان اللامنتمي تبعث على التأمل والدراسة، فهو وإن كان يمتلك وعيه الخاص الذي أمسك به زمام أموره، لكنه يفقد أشياء كثيرة: الناس المحيطين به، وطنه الذي أحاله إلى شبح قاتم سوداوي، وواقعاً جعل منه مجرد فكرة غير متحققة. هذه التجربة وإن بدت خاصة أو فردية، فإنها عامة، لكونها تشمل معاناة جماعية، يستشعرها معظم أفراد جيلنا، خاصةً بعد أن أحسوا أن الواقع يضيق عليهم، وأن الإنسان مهما أوتي من قدرة على قهر هذا الواقع لا بد أن يقع فريسة له… وعليه أن يقرر كما يقرر أي إنسان متمرد لا منتم”(). إن هذا الواقع، على ما يظهر، لم يؤثر في السياسيين حسب، فحين يسأل الضابط:
“- هل أطاحت بك الثورة أيضاً؟!”
يجيب البطل:
“- لستُ سياسياً.. أنا هارب فقط.
“- ممن؟!
“- من كل شيء”- ص20().
ولهذا الـ(كل شيء) دلالته هنا.
إن إسماعيل فهد إسماعيل يحقق، في روايته، مدخلاً ينطوي على الكثير من الجدة في الكتابة القصصية والروائية العربية، وبتحقق معظم ذلك من جانبين: الأول الموضوع، ونعني به معالجة قضية الإحباط، السياسي بشكل خاص، الذي أصبح سمة أساساً لواقع الستينيات في الوطن العربي. أما الجانب لثاني فيتمثل بالتقنية التي تركزت في استخدام تيار الوعي، الواضح التأثر بجيمس جويس، وربما بشكل أوضح بوليم فوكنر، في أسلوبه وحرفياته التي جاءت عليهما روايته الشهيرة “الصخب والعنف” التي كان جبرا قد ترجمها ونشرها سنة 1961. بقي أن نقول إن إسماعيل إذا كان قد فعل ذلك كله بإجادة واضحة محققاً سبقاً فنياً عربياً، فإن شيئاً غير قليل من ذلك يبدأ بالتخلخل– مع أنه لا يصل حدّ التداعي– في بعض الأجزاء التالية من رباعيته.
يبدأ الجزء الثاني من الرباعية، “المستنقعات الضوئية”– 1971– ببطلها سجيناً مُداناً بقتل رجلين. ومرة أخرى نبدأ بالتعرف على القصة، من خلال مشاهد “الفلاش باك” المتقطعة والمتداخلة، ومن خلال وعي البطل، مع أحداث الحاضر. ومع أن الرواية ليست أقل حِرَفية في التقنية والأسلوب من الرواية الأولى إلا بدرجة محدودة، فإنها لا تضيف إلى تجربة إسماعيل الشيء الكثير، بل هو يكاد يكرر كل صغيرة وكبيرة استخدمها في “كانت السماء زرقاء”.
ولا تبتعد الرواية الثالثة كثيراً عن هذا التشخيص، فتتكرر تجربة الكاتب السابقة في “الحبل”– 1972– مع إيلاء الجانب السياسي اهتماماً أكثر في معالجة موضوعها مما فعله في معالجة الروايتين السابقتين، وكما يبين صراحةً وفي دلالاتها. فبسبب كتابة بطل “الحبل” أشعاراً يهجو فيها عبد الكريم قاسم، حاكم العراق الأوحد بداية الستينيات، وبدون هدف واضح، يُعتقل ويعامل بوصفه سياسياً خطيراً. يكون هذا الاعتقال، وهذا الموقف منه المحطة الأولى في طريق رحلته التي تقوده بعد ذلك إلى قضاء ستة أشهر في السجن، ثم فصله من دائرته، وسفره إلى الكويت بشكل غير قانوني، ومروراً بقيام ضابط حدود، في طريق عودته، بسرقة نقوده القليلة وهديته الصغيرة التي كان يحملها إلى زوجته، ووصولاً إلى الوضع الذي نجده عليها ابتداءً وهو ممارسة سرقة بيوت ضباط الشرطة مستخدماً الحبل في تخصصه الجديد، والذي كان عنواناً للرواية وربما رمزاً فيها.
من الطريف أننا لا نعرف، حتى صدور رواية إسماعيل فهد إسماعيل الرابعة، “الضفاف الأخرى”– 1973– أن الكاتب يكتب رباعية أو أن هذه الأعمال تشكل وحدة موضوعية وفنية واحدة. والواقع أن هذا الجزء، وهي العمل الطويل الوحيد بين أعمال إسماعيل القصيرة، هي التي تجعل من هذا الأعمال رباعية، وذلك من خلال استحضار الكاتب فيها للشخصيات الرئيسة للروايات الثلاث السابقة، مع أن أغلب هذه الشخصيات تظهر هنا بأسماء مختلفة؛ والكاتب يستحضر، إضافة إلى ذلك، بطل رواية الربيعي “الوشم” لتشارك هذه الشخصيات جميعاً ثلاث شخصيات أخرى جديدة بطولة “الضفاف الأخرى” لتكون بطولتها جماعية. يضع الكاتب هذه الشخوص في اختبار يتمثل في (خطة إضراب عمال في معمل) ليتابع ردود أفعالهم وتطوراتهم السلوكية والفكرية وطبائعهم الحقيقية التي يكشفون عنها تدريجياً، لتصل بهم إلى مصائرهم” فـ(كريم الناصري)– بطل (الوشم)– ينتهي خائناً، و(وكاظم جواد)– بطل (الحبل)– يصبح متطرفاً ويهرب، بعد أن يؤدي تصرفه غير المتزن وغير المنضبط إلى سقوط (الزاير) العامل البسيط، الذي هو رئيس حرس السجن في (المستنقعات الضوئية)، بينما ترتبط السكرتيرة (فاطمة)– وهي ذات الرداء الأزرق في (كانت السماء زرقاء)– بشكل نهائي بنضال العمال الذين يمثلهم في الرواية النقابيان (أحمد عبد الله) و(جعفر علي). وكأن الكاتب يريد أن يقول من ذلك بأن سقوط المثقفين والبرجوازيين، سواء أكان ذلك بالهرب أم الخيانة، وثبات مواقف العمال يعني أن قيادة النضال إنما هي بيد الطبقات الكادحة().
عن أسلوب إسماعيل في عموم الرباعية يقول روجر ألين: “إن الأسلوب هو الذي يبرز هنا، وهو ليس سرداً نثرياً اعتيادياً على أية حال. إن التنظيم الدقيق للأداء، الذي اختاره إسماعيل على أنه أفضل الطرق لترجمة الأهداف الكبيرة المتعددة المستويات للعقل الباطني لشخصياته، قد ألزمته باستخدام كلماته بكل المهارة الفنية للنثر الشعري أو جدارة أداءِ أقصر القصص القصيرة”(). لكن هذا كله لم يتطور لدى الكاتب في أعماله التالية، بل ربما لا نتجنى عليه إن قلنا إنه تراجع في بعض ذلك. فقد كتب إسماعيل فهد إسماعيل، بعد هذه الرباعية، أربع روايات أخرى حتى سنة 1980، وقراءة لها تكشف مرة أخرى عن أن الكاتب لم يضف شيئاً لتجربته الروائية. بل إنّنا لنستطيع القول إن إسماعيل بدأ في الرباعية وانتهى فيها، وذلك أنه، على ما يبدو، لم يضع في باله مشروع مسيرة متطورة تضيف وتعطي الجديد. بل راح يستنسخ ما وضعه في الرباعية ليفعل بذلك ما قد يعني، ونأمل أن لا يكون هذا فعلاً، إنهاء مسيرةِ تطورِ كاتبٍ كان من الممكن أن يضيف الكثير إلى التراث الروائي العراقي والعربي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من الكُتّاب الآخرين الذين نرى بعض تأثُّرٍ لهم برواية “الصخب والعنف”، إسماعيل فهد إسماعيل الذي ظهر أول تأثره في رباعيته متمثلاً في استخدامه الحرف الغامق والحرف الفاتح، وهي الطريقة التي كان قد استخدمها قبل ذلك جبرا في ترجمته لرواية “الصخب والعنف” بديلاً عن استخدام الحرف العادي والحرف المائل. كما يظهر التأثر في استخدام إسماعيل لتقنيات تيار الوعي، وبروز الماضي، وتناوب أحداثه وأحداث الحاضر من خلال وعي الشخصيات بها، بل تداخلهما أحياناً بشكل يقترب من التداخل الذي رأيناه من قبل في “الصخب والعنف”، وما نتج عن ذلك من القطع أو اللاستمرارية في السرد، مستخدماً في ذلك وسائل بلاغية عدة مثل: التكرار (repetition)، وإيجاز الحذف (elliposis)، وفقدان التتابع (anacoluthon) أو الفصل– والانتقال المفاجئ من جملة إلى أخرى قبل أن تتم الأولى، والإيجاز (brachylogy)().
إن أكثر ما قلناه عن جوانب تأثّر إسماعيل فهد إسماعيل بفوكنر، يمكن أن يُقال، إلى حدّ بعيد، عن عبد الرحمن مجيد الربيعي، في روايته القصيرة “الوشم”، خصوصاً أنها ورباعية إسماعيل تلتقيان فنياً وموضوعياً في أكثر من جانب، كما سبق أن وضحنا في فصول سابقة. كما يمكن لبعض ما شخصناه من مواضع التأثّر، كاستخدام تقنيات تيار الوعي والتداعي الحر بشكل خاص، أن ينطبق على مقارنة بعض أعمال عبد الرزاق المطلبي، وبشكل خاص روايته “الأشجار والريح”.

عن fatimahassann23

شاهد أيضاً

دراسة عن دروب وحشية

تشكلات البناء السردي في رواية دروب وحشية للناقد نجم عبد الله كاظم أنفال_كاظم جريدة اوروك …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *