أزهر جرجيس – صانع الحلوى

سوداوية السخرية السوداء
في مجموعة “صانع الحلوى” القصصية

د. نجم عبدالله كاظم
( 1 )
حين يتقدم مجموعةَ “صانع الحلوى” القصصية لأزهر جرجيس، قولُ تشارلز ويلفورد “فقط أَخبِرْهُم بالحقيقة، وسيتّهمونكَ بكتابة الكوميديا السوداء”- المجموعة، ص7()، كأننها بالمؤلف يكشف عن طبيعتها. فقصص المجموعة الأربع والعشرون تنقسم موضوعاً وفناً ما بين قصص تغريب فنتازية وعجائبية ولا معقول، وقصص واقعية، ولكن مرجعية جميع القصص بنوعيْها هو العراق وأوضاعه لاسيما في مرحلتي الحصار، والإرهاب والعنف، وجلها معالجة بكوميديا سوداء فعلاً، يعزّز ذلك الحضور المشترك للمهاجر العراقي، وإنْ في بلدان غربية مختلفة، حيث يتكرر، بطلاً أو شخصيةً أو راوياً في غالبية القصص، وكأنه المؤلف نفسه، وكل ذلك مغلّفٌ أو معالجٌ بأسلوب ساخر سخرية سوداء. وربطاً ما بين قصص الفئتين، التغريبية والواقعية، لا يغادر المؤلف في القصص الواقعية، وهو يعي الهوية التغريبية، الفنتازيا والعجائبية واللامعقول، فالقصة إذ تؤكد أن ما ترويه حقيقي، تشرع بكسر افتراض الواقعية هذا بتقديم ما من الواضح أنه غير حقيقي. إنها تسحب القارئ من مألوفية وأمان العالم اليومي إلى شيء أو عوالم أكثر غرابة.() ولكن إذ تلتقي جل قصص المجموعة مع هذا التوصيف، فإن القصص الواقعية غالباً لا تغادر شيئاً منه. وهكذا يتحقق امتزاج ما بين الفنتازيا والعجائبية من جهة والواقعية من جهة أخرى، المر الذي يقرّب قصص المجموعة من الواقعية السحرية، التي “تُعنى بالسحرية، ولكنها تقدم هذه السحرية، الخيالية وغير الواقعية بالطبع، في إطار واقعي يُسهم في فهم الواقع، ونرى هذا أهم ما يُكسب هذا الجنس أو النوع أو النزعة هويته.”() وتتواصل سلسلة التغريب هنا، لتقترب الكثير من قصص المجموعة، في ما يحضر ضمن ذلك من لا معقول، من فرانز كافكا في لا معقوله. والواقع أن بعض قصص المجموعة تكاد تكون كافكوية ًبامتياز. ولعل هذا تماماً وراء أن نجد في بعضها شيئاً من أعمال يحيى الطاهر عبدالله، وإلى حد ما زكريا تامر وإبراهيم نصر الله، وهو الأمر الذي يصل إلى عناوين بعض القصص. وضمن ذلك تحضر الحيوانات المؤنسنة، من تيوس وغربان وكلاب وسمك، لتشارك في القصة برمزية وعجائبية، وفي هذا تحديداً تدخل القصص في الفانتازيا التي تقدم الأحداث في “عالم متخيل، يخضع لقوانين فيزيائية تختلف عن العالم الذي نعيش فيه، ويتناول شخوصاً غير واقعية وخيالية محضة وغرائبية غالباً، أو يصور عالماً يخضع لقوانين فيزيائية لم تُكتشف بعد، أو ميتافيزيقية تتناقض والحاضرَ والتجربة الواقعية. وقد يتحول البشر إلى حيوانات نتيجة التعود على ما مرتبط بتلك الحيوانات من ضرب وإهانة وممارسة أدوار لا تليق بالبشر كأدوار الذئاب والكلاب والكباش والسمك وغيرها، مثل قصة “سيد الخراف” التي يتحول بها ملك إلى كبش بعد أن يكون متعوداً على جلد أحد رجاله ككبش، وقصة “كنْ سمكة”، التي تغادر البطلَ فيها صديقتُه الروسية (صوفيا)، ليكتشف بعد حين أنها تحولت إلى سمكة وتسحبه معه لتحوّله إلى سمكة فحياة السمك خير من حياة البشر.

( 2 )
وإذا ما انتمت بعض قصص أزهر جرجيس إلى نزعات فنية بعينها من نزعات الفنتازيا والعجائبية والواقعية السحرية واللامعقول، وجمعت قصص أخرى بين بعض خصائص أكثر من نزعة بحيث يصعب معها تحديد انتمائها إلى واحدة، فإن هذا ليس بأمر غريب، ونحن نعرف كم تتداخل هذه النزعات أصلاً فيما بينها.
في قصة “الكوخ الهنغاري”، يدخل المهاجر العراقي (سليم) هنغارياً هارباً من الحرب، فيلتقي عجوزاً تبدو طيبة، تدعوه للعمل معها في العناية بالحمير، ولكن على أن لا يدخل قبو النبيذ الذي تعمل في صناعته، وواضح أنه حافز سايكولوجي، وعلى طريقة الحافز في الحكايات الشعبية، سيدفع البطل إلى الدخول إليه بعد حين، فيفعل ذلك فعلاً ليكشتف بوجود قزم محشور في أحد براميل النبيذ، ويخبره هذا بأن العجوز تصطاد الهاربين من الحروب لتضعهم في براميل وتضيف عليهم بول الحمير لتصنع منهم نبيذاً تبيعه للمدعو (مارك) شراباً للعفاريب. فواضح أن في القصة من الأسطورة و”ألف ليلة وليلة” والواقعية السحرية الكثير. لكن القاص لا يكتفي من القصة بهذا لتأتي النهاية معبرة عن الواقع السوداوي لكلا الوطن والمهجر، فحين يسأل البطل ذلك القزم متى ستتحوّله- نعني البطل نفسه-العجوز إلى نبيذ للعفاريت؟، يضحك القزم ويقول بما يعني كم هي كثيرة الحروب في الوطن، وكم هو متواصل استغلال المهاجر العراقي في الغرب:
“أوووه، ما يزال الوقت مبكّراً، يا زميلي، فأنا قد هربتُ من حرب تشرين، وما أزال لم أختمر بعد (…) في الصباح، استيقظتُ على صوت العجوز باربارا: سليم، سليم، استيقظْ، يا عزيزي لقد حان موعد الطعام.”- المجموعة، ص12.
قصة “صانع الحلوى”: قصة كافكوية أكثر منها واقعية سحرية، ونحن نعرف على أية حال علاقة لامعقول كافكا بسحرية هذه الواقعية، وفيها يمتهن المهاجر العراقي (حنا) صناعة الحلوى في هولندا بعد أن كان يحلم بأن يكون مخرجاً سينمائياً. حلواه تقوم على جمجمة أبيه الذي يقتله التكفيريون في العراق. يقرر ذلك لكي يزرع في الهولدنيين الحزن بدلاً من السعادة. هكذا هو يحلم أو يتخيل أو يقرر. فيقرر (حنا)، في لحظة إلهام سوداوي،
“أنْ يصنع من حطام أبيه فنّاً، فأطلق ساقيْه للريح، وتساقطت تحت قدمَيْه الحدود مثل قطع الدومينو حتى وصل هولندا. لكنهم، في هولندا، ومن أن يكون مخرجاً، فرضوا عليه ألا يقرب من سينما الموت، فحديث الموت غير مرغوب فيه لدى الهولدنيين. السعداء لا يفضّلون حكايات الموت.”- المجموعة، ص18.
وفي انتماء صريح إلى الواقعية السحرية، ولكن مع حضور كافكا واضحاً ايضاً، تأتي قصة “حساء جلجامش” واقعية البدء تغريبية التطور والطابع العام، خصوصاً في ما يتعلق بلجنة يذهب بطلها (عبد السلام) لمقابلتها، لأمر ما سنكتشف بعد قبوله في ثاني مقابلة أنه يصير عسكرياً، وفي ما يجري في الذهاب والمقابلة شيء من كافكا، وأكثر من ذلك من (لجنة) صنع الله إبراهيم، بدءاً من الطابور الطويل ثم التعرض في الممر الموصل إلى اللجنة للصفع، وانتهاءً بما يجري في المقابلة:
“شرع رئيس اللجنة بالنبش في التاريخ، وأخذ يسأل عن خصوصيّات أحد القادة الميدانين لمعركة وقعتْ قبل ألف عام ونيّف. كان يريد من عبد السلام أن يخبره بلون السروال الذي كان يرتديه قائد الجيش آنذاك! ممّا حدا بالمسكين أن يتردّد في الإجابة، فاهتزّتْ خصيتاه، وسقط في الاختبار.”- المجموعة، ص76.
وتأتي الضربة في النهاية لتؤكد الانتماء إلى الواقعية السحرية من جهة، والعلاقة بلامعقول كافكا:
“نجح عبد السلام في الاختبار أخيراً، وصار قائداً عسكرياً، يُشار إليه بالبنان، واستغنى عن حساء جلجامش، لكنه، وبعد أعوام من القيادة الناجحة، عُلّقت مشنقة وسط الميدان، وأُعدم أمام جنوده. كان ذلك حين شاهد راية ترتفع وسط مطرّزة بحروف، تنبش في التأريخ، فاهتزت خصيتاه لها، وحُكم عليه بالخيانة، وعدم الثبات على المبدأ.”- المجموعة، ص78.
وإذ تبعد قصة “بشارة غراب” عن الواقعية السحرية، فإنها تأتي كافكوية تماماً. في طريق البطل إلى المنزل، يعترضه غراب وهو يصفّق بجناحَيهْ أمام وجهه، وحين يسأله عمّا يريد يخبره بأن بشارة في انتظاره، وواضح السخرية السوداء في أن تأتي البشارة من غراب:
“ما الذي ينتظرني في النزل؟ لقد فقدتُ منذ عامين عملي كمحرّر ثقافي في الصحيفة لسبب تافه، وما تزال المصائب تتناسل. قالتْ مديرة التحرير يومذاك بأنها تشعر بالاختناق وقلّة الأوكسجين في الهواء، بسبب أنفي الكبير، فأقالتني من وظيفتي بعد أن عجزتْ عن إقناعي بإجراء عملية تصغير له.”- المجموعة، ص61.
وبوصله المنزل يُفاجأ بفتاة تبادر إلى تخديره، ليستيقظ بعد حين فيجد نفسه مكبلاً ومن حوله من يبدون طبيبات يحاولن استئصال أعضاء منه، وبعد مناقشة معهن يخرج منها بأنهن لا يردن لا عينه ولا كليته ولا قلبه ولا عضوه، بل تفاجئه إحدى الطبيبات، في نهاية القصة بنفس السخرية أو الكوميديا السوداء:
“لقد وصلنا إخبار من جارتك العجوز، السيّدة سولفاث هونسن بأنّ أنفك يستهلك ما نسبته خمس وستون بالمئة من الأوكسجين المتاح في الجوّ، لذا قررنا أن نُجري له عملية تصغير، من أجل الحفاظ على البيئة، فأرجو أن تهدأ، وتدعني أقولم بعملي.
“- حسناً، تفضلي عزيزتي، قومي بعملك، لعن الله الغراب وبُشراه.”- المجموعة، ص66.

( 3 )
في معظم قصص المجموعة يحضر المهاجر العراقي مقيماً في حالة معاناة في الغرب، ليقول الخطاب إن هذا المهاجر معانٍ في بلده، مع كونه مواطناً عراقياً، وفي المهجر، مع أن من المفترض أنه ينشد هناك الخلاص والإنسانية. الواقع أن أمر الظلم والإجحاف والمعاناة تلحق هذا العراقي، وفي معظم القصص هو المسيحي العراقي، من جميع العالم وأينما توجه. ففي قصة “شندي الحزين” يقول المهاجر المقيم في النرويج بسخرية، حين يُسأل عن وضع أهله (وواضح أنهم المسيحيون) في بلاده وواضح أنه العراق:
“والله يا أم هاكون، الحكايات كلها تلفيق في تلفيق، فنحن بخير، صديقيني وقرّي عيناً، كل ما هناك أن جاراً شرقياً متيّماً دقّ بابنا، ولم نفتح له إلا بعدما اصطفّ في طابور مهذّب، ودفع الغريب ما على الغريب دفْعه حين يعبر حدود دولة أخرى، وأن جاراً غربيّاً أقسم أيماناً مغلظة، لفرط حبه لنا طبعاً، ألاّ يُفطم من ثدي نفطنا حتى ينشف، وأن جاراً شمالياً يعشقنا حد الجنون، قبّل أقدامنا، ودخل ليدفع الشرّ عنّا من عدو غاشم (…)، وأن جاراً جنوبياً لا ينام الليل دون أن يعدّ الخراف التي أرسلها من أجل هدايتنا، وانتشالنا من مستنقع الزندقة.”- المجموعة، ص59.
ولعل قصة “حامل الحقيبة”، إذ لا تخرج عن هذا الخط، تتعامل مع الموضوع بمضمون ومعالجة تغريبية فلسفية، فتعلقاً بالمهاجر العراقي في بلد غربي وبخلاف القصص الأخرى،، يقرر بطلها (يوسف) ترك البلد الأجنبي الذي هو فيه، ليذهب إلى سوريا أو أفغانستان أو العراق. وحين تسأله امرأة من ذلك البلد، وهما في باص، عن سبب قراره يجيبها، وبالسخرية السوداء عينها التي لا تخلو منها جلّ قصص المجموعة:
“أنا، يا سيّدتي، لا أطيق بلادكم، لأنها أرض صامتة، لا موت فيها. منذ عشرين عاماً، مدة إقامتي هنا، لم أرَ جثّةً ملقاة عى الطريق، ولا رأساً معلّقاً عى شجرة، ولا حتّى يداً مقطوعةً في مزبلة! أنا، أيتها السّيّدة الباردة، أبحث عن أرض، يقتلني فيها أخي، ثمّ يمزّق جسدي، ويلوك أحشائي مثل قطّة جائعة! أبحث عن وطن، يقوده عاهرون، يرتدون جلباب الدِّين والقداسة! أفتّش عن حاكم يضحك على ذقني، ويجثم على صدري بمحض إرادتي.”- المجموعة، ص51.
وإذ نجد واضحةً السخرية السوداء في هذا الخطاب، تبقى غامضة (حقيقة) أن البطل يريد ترك مهجره ليذهب إلى واحد من أكثر البلدان دمويةً وعنفاً وقمعاً، حتى يأتي التوضيح في المفاجأة الطريفة حين تدس المرأة في يده، قبل أن تترجل من الباص، بطاقة صغيرة، وهي تهمس في أذنه:
“تجد فيه عنوان عيادتي الجديد، أرجو زيارتي هناك، لنعاود جلسات العلاج من جديد.”- المجموعة، ص52.
وقد رأينا كيف عبّرت قصة “الكوخ الهنغاري” عن معاناة المهاجر في الوطن وفي المهجر:
“اسمع، أيها القزم: حين تشتعل الحرب في طرف من هذه الأرض، فإنّ سوق التسلية يصبح رائجاً في الطرف الآخر.”- المجموعة، ص12.

( 4 )
ولأن المعاناة مما شهده العراق من دكتاتوريات وتناحرات أهلية وحروب وعنف قلّ أنْ شوهد في بلدان أخرى، لم تكن قصص المجموعة لتعبر عن معاناة الإنسان العراقي، بطل أزهر جرجيس، تعبيراً يوازي حجم المعاناة بدون الحضور الفاعل للعراق بلداً وبيئةً ومكانَ أحداثٍ. وهكذا تقع قصة “حفلة السحل الصاخبة” في العراق فقط، وهي قصة يهيمن عليها قول أم البطل تعليقًا على تساؤله عن سبب قتل أبيه في ثورة 1958 قبل عشرين سنة يوم كان يعمل سائس خيول الملك المغدور:
“غليل العراقيين لا يشفيه غير السَّحْل.”- المجموعة، ص31.
تعبيراً عن تأصّل هذا العنف في العراقيين من جهة أولى، وعن غضب مما صار عليه العراقي من انغماس حيواني فيه من جهة ثانية، وعن دموية وسوداوية بعض ما عرفناه إنجازات وثوريات وانتصارات من جهة ثالثة، وكل ذلك تؤكده نهاية القصة حين تُهاجِم قطط متوحشة البطل المهووس بالعنف والسحل، بقضمه قطعةً فطعة:
“هُرعتْ قطط المدينة كلها حينذاك، وتجمّعتْ حول جثّتي المسحولة مثل عصفور بائس. صفّقتْ، وهتفتْ، وزغردتْ، ثمّ بدأتْ برَجْمي وضربي بالعصيّ والسكاكين. وصلتُ آخر المطاف عند المنصّة مثل خرقة ممزّقة. عُلِّقتُ بحبل سميك هناك، وبدأ سيّد القطط بإلقاء بيان النصر، ثمّ أمر، بعدما انتهى، بإنزال جثّتي، وإلقائها في نهر دجلة.” المجموعة، ص35.
أما أحداث قصة “لقيط”، فتجري أيام الحصار في التسعينيات. بطل القصة يتيم يخرج من الميتم ليبحث عن عمل يعيش من وراده، فيفشل في بعض الأعمال حتى يستقر عند عمل حفر القبور، الذي يكتشف أنه يجعله سعيداً:
“كان يبتسم حين يدسّ أحدَهم في اللحد، وكان يهمس في أذنه قبل أن يخرج: استمتعْ بالتراب، يا ابن القحبة. ثم بدفن القبر، وينصرف. (…) شرب ذات ليلة قنّينة عَرَق كاملة، فسكر. خلع ثيابه، وصعد فوق قبرٍ عليه صورة أفندي يعتمر سدارة. كان واحداً من تجّار المدينة الكبار، مات قبل سنين طويلة. بال سلمان على قبره، وهو يهتف: أنا سلمان النغل، أبول عليكم واحد واحد.”- المجموعة، ص102.
بعد ذلك يُلقى عليه القبض، وفي المعتقل يبول على نفسه ويموت.
وهكذا تأتي، لتقدم واقع العراقي المأساوي، ققص مثل “بريد عزرائيل”: عن وضع العراقيين الذين أبكوا حتى عزرائيل، وقصة “حارس شخصي”: عن وضع العراق والشهادات أيام الحصار، وقصة “يوم أسود”: التي تقدم عراق الموت والعنف، وقصة “انفجار” عن الإرهاب والتفجيرات.
أما قصة “الأسطى” فتلخص، وبأسلوب ساخر ودال، وضع العراق ما بعد الاحتلال، من خلال استذكار البطل، وهو يتوجه جوّاً إلى الوطن، أيام الماضي قبل هجرته له في ظل النظام السابق. وهي عندي تلخّص أيضاً رؤية المؤلف والمجموعة كاملةً. البطل (نوفل) وهو متوجه طيراناً إلى الوطن، يستذكر كيف كان صحفياً أيام الرقابة والتضييق والقمع في زمن النظام السابق، وكيف عُد مقال له مسموماً، ويودى به رئيسه/ رئيس التحرير ـ(سعيد الأسطى) إلى الأمن ليقضي هناك ثلاث سنوات يتلقى خلالها التعذيب والإهانات. ويتواصل السرد بتنوابٍ ما بين توجه البطل طيراناً فهبوطاً، واستذكار أيام السجن في سرداب قذر يتعرف فيه على طبيب يُسجن معه بعد قطع صيوان أذنه لرفضه قطع صيوان أحدهم. ومع هبوط الطائرة في بغداد، ينتهي خط الماضي المسترجع بقرار البطل الهجرة بعد خروج همن السجن. ويلتقي الخطان في فقرة ببكاء البطل حين يغادر العراق في الماضي وبكائه حين يعود إلى العراق في الحاضر. والمفارقة الجميلة الأخرى هي أنه بعد أن يُستقبل من رفيق سجنه (د. مؤيد ويأخذه إلى مطعم يرى جريدة عند بائع جرائد في باب المطعم يخبره مؤيد بأنها جريدة حزب الدعوة وهنا تأتي الصدمة إذ يقرأ اسم رئيس تحريرها (د. سعيد سامي درباس):
“سنتان مظلمتان في سرداب بارد ورطب، با ذنب ولا جريرة، كانتا كفيلَتَينْ باتخاذ قرار الهجرة. لقد عبرتُ الحدود باكياً قبل عشرين عاماً، وها أنا أعود باكياً. بكيتُ كثراً حين غادرتُ بغداد، وبكيتُ أكثر حين شممتُ هواءها. بغداد تلك الأمّ الرؤوم التي رغم حنانها لا تعرف كيف تحتفظ بأبنائها!”- المجموعة، ص72.
بقي أن نقول أخيراً: كثيراً ما يحضر أسلوب الحكاية، وكأن المؤلف قد وجده، ونتفق مع ذلك، الأنسب إلى طبيعة قصصه خصوصاً في تعاملها مع الخيال والسحرية واللامعقول، مما قد يتماهى مع سحرية وخيالية الحكاية، التي اختفت معها الواقعة الحقيقية وحضرت الواقعة الجمالية التي من خلال فاعليتها وتأثيرها الجمالي يصل الوعي بما انطلقت منه، حقيقةً، القصص على أرض الواقع من مأساة. ولكن الكاتب لم يعتمد أسلوب الحكاية كما هو، وكما قد يُفهم من كلامنا، بل حدّثه بكل معطيات القصة القصيرة والسرد الحديث عموماً، ليصل بقصصه إلى أن تكون خطاباً ذا جمالية مؤثرة، وتفرّدٍ يجعل المجموعة، عندنا، واحدة من أجمل المجاميع القصصية العراقية، بل العربية في العقد أو العقدين الأخيرين، ومن أكثرها نضجاً.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وتصب قصة “شيطان الضحك” في موضوعة معاناة الإنسان العراقي في العراق وفي المهجر.
قصة “حانة المشرق”: يفقد البطل فجأة ظله، ثم يرى كلباً يسحب جثة فيحاول أن يبعده عنها لكنه يفشل، ثم يعود عبر الفلاش باك لنراه قبل ذلك بانتظار صاحب حانة من أجل ترتيب لافتة جديدة لها، حين تهاجم مجموعة متطرفين ملثّمين الحانة وتطلق النار على الجميع فيسقط هو أيضاً، وحين يعود إلى الحاضر إلى الحاضر لنرى الكلب يسحب الجثة إلى حفرة ويواريها التراب، لنعرف أن الجثة جثته.
ولعل الحضور الأكثر دلالة، تعلقاً بالقصص التي عُنيت بأحداث الداخل، كان في التأريخ الذي تقع فيه أحداث قصة “شاهد زور”، حيث تبدأ القصة باستيقاظ البطل في يوم 9 نيسان 2003، الذي نعرفه بالطبع يوم سقوط بغداد على يد الاحتلال الامريكي، مستذكراً وصية جدته التي لا يزال يعمل بها: ” قالتْ له ذات يوم: لا تنسَ وضع كيس ملح تحت الوسادة قبل النوم.. الجيثوم يهرب من الملح.” ص53، الذي هو هو حالة من الاختناق وعدم القدرة على الحركة أثناء النوم. “وفسّرتها ابأنّ الأفعال السّيّئة تتشكّل عند النوم عى هيئة عفريت، يقبض على أجسادنا كنوع من أنواع العقوبة.”- ص53. وبما يعني عندنا حضور العفاريت، وكما في بعض القصص الأخرى. بعد ذلك يشاهد نفسه في الحلم يستجيب لطلب مومس بأن يشهد لها شهادة زور في المحكمة بأن تمثالاً ما بأنه يعود لها، وحين تفوز بالقضية تفتح رأس التمثال وتبدأ بإخراج وطاويط تملأ سماء المدينة، ليكتشف حين يستيقظ أنه نسيَ أن يضع كيس الملح تحت وسادته. قصة جميلة وطريفة.

عن fatimahassann23

شاهد أيضاً

دراسة عن دروب وحشية

تشكلات البناء السردي في رواية دروب وحشية للناقد نجم عبد الله كاظم أنفال_كاظم جريدة اوروك …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *