السعي إلى الخلاص
في رواية “ميهود والجنية” لأحمد عبد الملك
د. نجم عبدالله كاظم
( 1 )
يتقدم رواية “ميهود والجنية”()، للقطري أحمد عبد الملك، القول الآتي لمن يسميه الكاتب (ميهود)، الذي يبدو وكأنه المؤلف نفسه، وبعد أن يشير إلى روايته السابقة “أحضان المنافي”- 2005:
“بعد غيبوبة استمرَّت اثني عشر عاماً، أَعود، من جديد، كي أُواصل الرواية مع تحوُّلاتٍ جديدة وصُوَرٍ أخرى؛ تطوَّرت لديَّ بعضُ الشخصيّات، وتوارت شخصيّاتٌ، ودخلت الروايةَ شخصياتٌ جديدة.”- 25.
ليعني هذا بالطبع استحضار الرواية السابقة ببعض أحداثها، ضمناً على الأقل، وبعض شخصياتها. وهكذا تبدأ أحداث الرواية في حي (وردة) في الدوحة، مروية بضمير المتكلم، وتحديداً على لسان بطلها (ميهود) نفسه، ولكن من خلال ما يبدو تداعيات في وعيه، لتؤشر ابتداءً أنه في وضع غير عادي، قد يكون مرضاً أو تأزّمات نفسية أو انفعالات حادة. وإذا كان هذا متوقعاً ليلائم سردياً طبيعة التدعيات، فإن ما يتلو ذلك قد لا يكون مقنعاً جداً، وتحديداً حين ينكشف لنا أن ذلك الوضع غير العادي للبطل متاتٍّ من إحالته على التقاعد أو المعاش. فمع جمالية مشاعر البطل والتعبير عنها بأفكار وتداعيات واستذكارات وأحلام، وحتى مرض وتعرّضِ للموت كما سنرى فيما، يبدو وكأن الكاتب، إذ يضع بطله في هكذا أوضاع، لا يوفّر الأسباب المقنعة لها، فما كان التقاعد يوماً، بحدود ما نعرف، مسبباً لانهيارات كما نراها في بطل الرواية، وإذا ما فعلت الإحالة إلى التقاعد شيئاً في أحدٍ، فلا نتوفعه إلا تأثيراً محدوداً وآنياً ومؤقتا. أما أن يتواصل طيلة سنوات، فيبدو أنه لن يكون مقنعاً. ولكننا هنا، برأيي، نظلم الكاتب، إذا ما حاججْنا هذا الفعلَ أو الحدث وتبعاته وتأثيراته في البطل دون وضع أنفسنا في موقع البطل بوصفه قطرياً أو خليجياً وفي ظروف خاصة قد لا نكون نحن فيها في أوطاننا، وهو ما نعتقد غير ممكن، فما البديل عن المحاججة وعن وضع النفس في موقع البطل إذاً؟ البديل هو واقع العمل نفسه أو داخل العمل. فليس عيباً أن يأتي الروائي بما لا يكون مقنعاً مقارنةً به على أرض الواقع، بل أن لا يكون مقنعاً في واقع العمل نفسه، وهو ما يخلقه أو يهيّئه الروائي، أي روائي، اعتماداً على ما يمتلكه أو لا يمتلكه من إمكانية وقدرة. في هذا يمكن أن نعدّ أحمد عبد الملك أحد أكثر الروائيين وعياً بما يفعل وبما يقدمه في روايته، ولهذا فإنك، حتى حين تجد في روايته ما لا يرضيك أو يقنعك، أو ما قد تراه مأخذاً عليه، سرعان ما تشعر وكأنّ الكاتب سبقك في توقع مثل هذا منك، فيقدم قبل أن تصل إلى هذا الإحساس أو معه أو بعده، ما يبرره لك، وما يتجاوز فيه المأخذ، أو على الأقل يجد له مسوّغه بغض النظر عن اتفاقك معه أو عدم اتفاقك. فأنت، في كل الأحوال، ووفقاً ذلك، لن تستطيع أن تدّعي أنك على حق وهو على خطأ، بل أن تدعي لك وجهة نظر تفرزها القراءة في ضوء مرجعياتك وخلفياتك وثقافتك النقدية، وله وجهة نظر يفرزها الإبداع والكتابة في ضوء مرجعياته وخلفياته وثقافته الروائية.
( 2 )
ربما من هنا يلتفت الكاتب مصيباً إلى ما يبدو أنه أحسه ضرورياً، نعني تفصيلية الحدث، حدث الإحالة على التقاعد، ووقعه على شخص بعينه، نعني البطل، متبوعاً بعد حين بطبيعة حياة البطل من قبل ومن بعد. مع أننا قد نأخذ على الرواية الإطالة غير المحسوبة أحياناً، وتحديداً في ما لا يحتاج إلى إطالة، كما هي الحال هنا، وكما هو في كثرة سفريات البطل إلى البلدان المختلفة التي لا نقول لا مبرر لها، بل لا مبرر أو مسوغ فني لدخولها الرواية، فإنها قد تكون مبررة حين تتعلق بالأزمة النفسية، بدءاً بالصدمة، كما يحسها البطل ويراها، حتى قبل أن يكشف عنها، وتحديداً حين يحاول أن يتذكر أين هو وما الذي جرى له؟ هل تعرض لحادث أم ماذا؟ ثم يتذكر واقعة تسليم مراسل الدائرة ظرفاً يجد فيه سطرين: “سطران، فقط، أَنهيا حياتي المهنية، وقضَيا على أَحلامي الكبيرة في خدمة وطني؛ كان ذلك في مارس، عام 2007 سطران، فقط، قطعا الوريد الذي يربطني بـ(وردة(، وجعلاني لا شيء.”- الرواية، ص10. وإذا كان هذا من مدة وتحديداً من سنة 2007، وسنعرف أننا في الحاضر عام 2018، فهل هذا يعني أنه استعادة، ولكن هل هو رواية أحداث فحسب، أم هو في ما يشبه الغيبوبة في ظل وضع نفسي غير عادي تجعله يرى كل ما مر من حياته بعد الإحالة على التقاعد وقتاً مقتطعاً من حياته الفعلية؟ أم هو كان في غيبوبة فعلاً، وكلا الحالين تؤيدهما المقدمة القصيرة للرواية كما مرت بنا “بعد غيبوبة استمرَّت اثني عشر عامًا، أَعود، من جديد، كي أُواصل الرواية”؟ هذا ما نفترض أن تكشف عنه الرواية.
ونعود إلى وقع الإحالة على التقاعد، لنجد أن هذه الإحالة قد شكلت للبطل ما يشبه نهاية العالم، مع أن كونَ (ميهود) مثقفاً وعنده ما يفعله غير العمل الوظيفي كان منتظراً منه أن يخفّف من وقع تأثيرات وإحباط وألم الإحالة على التقاعد في. ومرة أخرى يبدو كأن الكاتب قد وعى هذا مسبقاً، فبرر ضمناً هذا الوقع المؤلم، حين جعل الإحالة تبدو له عقوبة، ليبدأ باسترجاع مجريات السنة التي سبقت تقاعده ليحاول أن يجد سببها، خصوصا ًوهو حين يحال على التقاعد يكون غارقاً في التحضير لمهرجان مهم قادم. وإذ لا يجد شيئاً يستدعي التوقف عنده في المسار الوظيفي، فإنه يستعيد حادثة مهمة وخطيرة قبل يومين من الإحالة حين يكتشف أن فاتورة شركة إعلان للمهرجان يمتلكه شخص نافذ هي (750) ألف ريال، بينما المرفوع للوزارة كانت بقيمة خمسة ملايين، ويتذكر كيف أن المدير وضع كفيه على رأسه هلعاً. بعدها تأتيه مكالمة من جهة معينة تحمل في طياتها تهديداً تجعله يغلق الخط.
( 3 )
لأن من الطبيعي، كما أشرنا ضمناً، أن تدفع الأزمات، والصدمات، والتأزمات النفسية الإنسان إلى الذات، لتكون التداعيات والمونولوغات الداخلية والمناجاة وسلاسل التفكير والمراجعات والتأملات، يترجع في أذنه، في لحظات خاصة، صوت سبق أن سمعه يوماً ما وفي مكان ما، يقول له: “عُد إلى قلمك، فهو المؤثِّر، وهو الذي سيبقى حيًّا، حتى بعد موتك!.. نبرةُ الصوت ليست غريبة على أُذني! جمدتُ برهةً، أَستذكرُ نبرةَ الصوت تلك. إِنها ليست غريبة عني. عرفتها.. عرفتها.. إنها نبرةُ صوت أخي (عيسى(، رحمهُ الله”- الرواية، ص36- الذي مات قبل مدة بالسرطان، وتذكر أياماً معه في لندن حين كان يتعالج فيها، ليكون ذلك مؤثراً في دفعه إلى العودة إلى الوعي وإيجابية التفكير والفعل. ولكن مع أن (أبو خالد)، في ما يبدو، ظاهرياً على الأقل، يعمل على وضع نهاية لأزمته، نعني المعاناة من وقع التقاعد عليه ليقلب صفحة ويحاول أن يتجاوز الأمر كما ينصحه (أحمد)، ليبدأ يتنقل ويكتب ويمارس أنشطة مختلفة، فإن شيئاً من الأزمة تبقى، حين يبقى البطل يأمل في أن يتصل به يوماً مسؤول يعتذر عما جرى له. وفعلاً بعد ثلاث سنوات من تقاعده يستدعيه الوزير ويعرض عليه مسؤولية مشروع مهم، لا يشرح ما هو فيتردد بقبوله. لكنه يعتذر عن قبول العرض. والأمر يتكرر مع محاولة بعض المسؤولين تقريبه فيعرضون عليه التعاون والعمل في ما يُخطَّط له من نشاطات ومشاريع، وكأن هناك رغبات في تعويضه وإصلاح ما وقع له، بعد أن تشهد الدولة تغييرات كبيرة في توجهاتها ومعالجة أخطاء مسؤوليها ودوائرها. قد يبدو موقف البطل هنا غريباً، وهو الذي يُصدم من المسؤولين ويُصدم بما يرى أن (إخلاصه) قد ناله حين أحيل على التقاعد. لكن الكاتب في هذا أراد إلى ما هو أبعد من قضية القبول والرفض، وأبعد مما يعنيه العرض عليه من تعويض، هو يريد إيجابية الحالة التي ينتقل إليها البطل، حين يبدا ينتفض داخلياً على نفسه وعلى وضعه، ليحقق هو نفسه لنفسه ما هو أهم مما تحققه له الوظيفة والمنصب. فلأنه حين يأمل في هذه المحاولات، فإنه يأمل فيها ردماً لما ترتكه في نفسه إحالته الظالمة على التقاعد من كسر، وليس حاجةً فعلية للعودة إلى الوظيفة والمنصب والمسؤولية، ومن هنا تأتي اعتذاراته عن قبول أي عرض، مفضلاً الالتفات إلى ذاته أكثر من التفاته إلى ما هو خارج الذات الذي لم ينصفه من قبل.
وهكذا يبدأ يحلم كثيراً ويتخيل بل يتكلم مع من يتصور أنهم يظهرون له، وضمن هذا تخرج له أخيراً، وهو وحيد في غرفة فندق، مَن اسمها (جنة) لتسأله عن (سعود) الذي تقوم بقتله في الرواية السابقة التي تبدأ الرواية الحالية بإشارة إليها. وحين تسمعه زوجته (أم خالد) يتكلم مع أحد وتأتي إليه لا تجد معه أحداً لأنه كما نعرف يكلم شبحاً لا وجود حقيقي له وهو (جنة). وأخيراً يقول لها إنه يتكلم مع شبح يخرج له، ليعني هذا بالضرورة اكتشاف الزوجة أنه في حال غير طبيعية، فترتعب وتطالبه بترك الفندق والذهاب إلى فندق آخر. ثم وهم على الشاطئ، يقول له صاحبه (علي): أنت تمشي وأنت نائم، ليؤكد هذا ما انكشف للزوجة. ولأن كل هذا يأتي من وعي وحِرفية، فإن الكاتب يكمّل هاتين الإشارتين إلى حالته غير الطبيعية بالخطوة الثالثة المهمة: تظهر له الجنية (زنغانة) وتطلب منه إنقاذ أختها الجنية (نائلة)، وإلا فإن (نائلة) ستلاحقه دائماً. فيستجيب لها، وينطلقان ليصلا تلة تطلب منه الدخول معها في فجوة فيها ليرى (نائلة) مقيدة إلى شجرة، ثم تقول لها (زنغانة) بأنهما يجب أن تخرجا قبل أن يراهما عمها وابن عمها. ثم يذهبون إل نهاية نفق ليجدا كبير الجن الوقور، وحين يسأل عن سبب وجود (ميهود) تقول (نائلة) لأنها تحبه، وحين يسأله إنْ كان يحب أن يعيش معهم يحتار بماذا يجيب. وفي فصل أخير، وتعبيراً عن أن البطل كان، في كل هذا، في حالة ما بين الحياة والموت، يفتح عينيه ليجد نفسه في مستشفى وكل العائلة حوله والطبيب يعتبر عودة وعيه معجزة، ليتساءل هو في النهاية وقد وعى أنه يستيقظ من (غيبوبة): “هل أَنا الذي رويتُ حياتي؟، أَم أَن هذه هي حياةُ إِنسان عاشَ في زمنٍ شقيّ، وتداخَلت شخصيتهُ بشخصيَّتي؟! قد يبدو الأَمرُ كذلك!.”- الرواية، ص 279. وفي كل هذا، وإذ يقدم الكاتب (ميهود)، وعلى امتداد الرواية، بين حالين أو وضعين أو وعيين أو لماذا لا نقول عالمين؟، فإن بطله يحقق الخلاص من هذا التأرجح الذي لا يمكن لأنسان أن يُسعد به. ولم يكن مثل هذا الخلاص ليتحقق له، كما لا يمكن أن يتحقق لأي إنسان في وضعه، بدون الإرادة النابعة من الداخل الإنساني.

