شاي العروس – نجم عبد الله كاظم

قراءة في رواية شاي العروس لميسلون هادي

دنيانا ودنياهم

د. نجم عبد الله كاظم

موقع الناقد العراقي

7-10-2016

تبدأ رواية “شاي العروس”(1) للعراقية ميسلون هادي بأن تضع (ربيكا)، التي سنعرف أنها معالِجة نفسية أمريكية، قدحَ شاي أمام (محمود)، الذي سنعرف أنه عراقي أعمى يستردّ بصره حديثاً ويصل مؤخراً إلى أمريكا مهاجراً. ومع قدح الشاي كانت هناك ورقة ينظر إليها بعد أن تضعها (ربيكا) أمامه، وسنعرف أنها تحمل شكلاً من تلك الأشكال التي تُستخدم في التحليل النفسي، وواضح أن ذلك فعلٌ يحمل دلالات قد نتوقعها، وقد لا نستطيع فننتظر حتى تنكشف لنا عبر مسار الرواية، خصوصاً أن الفصل الأول (الباب والنافذة) ذو صفحة واحدة وبعض الصفحة، ولا نعرف فيه غير وضْع (ربيكا) الورقة ذات الرسم الخاص أمام (محمود) وهي تقول له:
“- ليست هناك إجابة صحيحة أو خاطئة.. فقط أخبرني بما ترى.”- الرواية، ص7.
هو سؤال قصير، ولكن من الواضح أنه يفتح عالماً، قد لا نستطيع، مرة أخرى، أن نتعرّف عليه إلا عبر الآتي من مسار الرواية. وهو ما سيبدأ سريعاً، حين ننتقل من حاضر الفصل الأول في أمريكا إلى ماضي فصول تالية في العراق عبر الاسترجاع لنكون في النتيجة، وكما ستقدمه الرواية، ما بين عالمين وزمنين وعهدين وواقعين.
وهكذا بعد أن ينتهي الفصل، ولا نعرف فيه غير أن (محمود) أعمى يسترد بصره، وأنه حاضراً في أمريكا وتحديداً بين يدَيْ معالجة نفسية، يُفتتح الفصل الثاني بالاسترجاع الذي نتوقع أن نعرف من خلاله قصةَ (محمود) في العراق، وكأن هذا الاسترجاع سيكون هو الرواية، وتبدأ سردياً- لا زمانياً- من صباح استرداد البطل لبصره، وفي مقطع يخلو من البراءة، بل هو عميق الدلالة :
“حدث ذلك عندما كان ينثر الماء البارد على عينيه القديمتين، ويغسل وجهه بالصابون الذي يتقلّب بين يديه.. ارتجت شبابيك الحمّام فجأة وتكسّر الزجاج في مكان قريب. ولم يكن ما حدث سوى انفجار آخر أدخل قليلاً من الصابون العاطر إلى عينيه، فأراق محمود عليهما ماءً كثيراً، فاض من مآقيه وتدلّى على شكل قطرات صغيرة جداً تعلّقت بأهداب جفنيه المتهدّلين… فتح محمود عينيه تماماً بعد أن انتهى من غسل وجهه ويديه، فمرّت من أمام عينيه نقطة سوداء تسير على سطح أبيض”. الرواية، ص9-10.
فلأن البطل في الرواية سيكون، بالضرورة، بين عهدين، عهد ما قبل استرداد نظره وعهد ما بعده، وستتمثل الرواية العهد الثاني تحديداً بالطبع، فإنه بالتأكيد سيكون عهداً جديداً على البطل لأنه سيقدم له العالم، الذي يُفترض أنه كان يعيشه، لكنه لأول مرة يراه، فقد قدم لنا الراوي أول ملمح له وأهمّه، وهو الانفجار، ببساطة لأن العراق هو عراق انفجارات وإرهاب وتقاتُل. وكأننا بميسلون هادي قد وجدت أن هذا العالم، وسط الفوضى العارمة، بحاجة إلى أنْ يُنظر إليه من زاوية على شيء من الحياد والجدة، مع محاولة فهمه وتنميطه، فتُقدّم ذلك من خلال عينَين تريانه لأول مرة. ومع أن استرداد إنسان أعمى لبصره هو موضوع أو حدث كبير، فإنه لا يشكل قضية الرواية على ما يبدو بقدر ما هو آلية أو سبيلٌ أو بوابة لقضية الرواية الحقيقية التي هي أكبر من ذلك بكثير، والذي قد يكون الاطلال على الواقع من مكان ما تمثله، هنا، النظرة الحيادية، ابتداءً على الأقل، لـ(محمود) المستردّ لبصره توّاً. ولهذا، وابتداءً على الأقل أيضاً، فكل شيء يصير مهمّاً عنده، وهو يفتح عينيه فيرى الأشياء لأول مرة تقريباً، كما تصير حياته عبارة عن أسئلة لا تنتهي، يجد لبعضها أجوبة ولا يجد لأخرى، فتبقى محيّرة له وربما معذّبة. والمفارقة أن دخوله العمى حين كان في السادسة من عمره، وهو بعدُ لم يرَ الحياة بما يكفي ليكوّن خزيناً منها في ذاكرته، كان قد جعل حياته حينئذٍ أيضاً سلسلة من الأسئلة التي لا تنتهي.

( 2 )
لعلها انتباهة ذكية من الكاتبة، أنها لم تُغرَ بأن تجعل البطل، وهو يبصر لأول مرة، يُصدَم بواقع الموت والقتل والعنف في عراق ما بعد 2003، إلا بعد حين. فإن مثل هذا كان سيعني تجاوز الحالة الطبيعية بأن يكون فَتْحُ عينيه مصدرَ فرح متبوعٍ بحب كل شيء يراه، وهو ما كان فعلاً في البداية، فكان أول رؤيته للعالم والأشياء كأنه رؤية لـ(جنة). بل هي لم تجعل (محمود) يذهب إلى الأشياء التي فتح عينيه عليها، أكثر من جعْل الأشياء وكأنها تأتي إليه وتقدم نفسها له، ببساطة لأنه أعمى يستعيد نظره توّاً، فلا يعرف الأشياء إذ يراها لأول مرة. بل إزاء التجربة الفريدة هو يجد حتى للكلمات وقعاً غير الذي كانت عليه وهو أعمى:
“ما للكلمات هي الأخرى تبدو غريبة عندما يقولها وهو يرى وكأنها تتصادى مع نبضات قلبه الذي أخذ يخفق بعنف.. فتتناغم عندما يلفظها بلسانه، مع الهواء بموسيقى وروي!؟”. الرواية، ص16.
ولكن لم يكن لهذا أن يتواصل، فيبدأ يتكشّف له أن هذا الذي يراه ليس جنة فعلاً؟ لم يكن للأمر ليكون طبيعياً لو (ثبُت) هذا فعلاً، ببساطة لأنه ما كان للواقع إلا أن يحضر، وما هو إلا واقع عنف وقتل وتفجيرات وطائرات حربية.. وما إلى ذلك، وهو ما ينكشف له بعد بدء الاسترجاع بقليل حين يهز العالم من حول (محمود) انفجار وتحلق في سماء هذا العالم الذي يراه لأول مرة طائرات هليكوبتر أبت إلا أن تؤكد له وهو مبصر العالم الذي كان يسمعه وهو أعمى، فتصير التفجيرات شبه اليومية بعض صورة عراق ما بعد الاحتلال الأمريكي، بل كأن هذا العالم هو أكثر عنفاً ومأسوية الآن، ففي الفصل (19)- ص139- لا يكون قد مضى على استرداد (محمود) لبصره أكثر من أسبوع، ولكن حين نستعيد ما جرى نجد أن أهوالاً قد حدثت، وبما قد لا يبدو مقنعاً كثيراً، لكن الرواية تعمّدت ذلك لسبب بسيط، وهو أنها تدور بوقائعها في العراق في زمن غير طبيعي وغير عادي، انقلبت فيه الدنيا وتدمّر الإنسان وبغداد والبلد وسُحقت القيم وكاد يضيع كل شيء.
ولأنّ بلداً في هكذا ظروف غير عادية، وكما هي فعلاً على أرض الواقع، يكون بلداً طارداً، تحضر فكرة ترك البلد والهجرة والتطلّع نحو الغرب، وتحديداً أمريكا، وكما يعبّر عنه بشكل خاص (عصام) صديق (محمود) المقرّب، وبما يعني أنه يحمل عامل الإغراء أو التحفيز للبطل للإقدام على هكذا فعل، الهجرة، وسط ما يصير البلد عليه من أوضاع تخطّت كل ما هو معروف من عدم الأمن والأمان:
“ولكن الموت أصبح يلعب لعبة الغميضة في الطرقات.. والمنايا ترمي سهامها خبط عشواء.. فيكون الذهاب إلى الصديلية بدلاً من الرجوع إلى البيت حائلاً دون الاحتراق بسيارة مفخخة أو يصبح تغيير الطريق بعد دقيقة من شراء الخبز هو الحد الفاصل بين النجاة من الموت أو التحول إلى أشلاء مبعثرة في انفجار رهيب.. وماذا يمكنه أن يجعل الأجل أقرب إليه من حبل الوريد؟ شريط حذاء يجب ربطه أو ذبابة يجب طردها أو وقفة قصيرة من أجل شربة ماء؟.. ألم يمت فادي بسبب طائرة ورقية، وعمّته بسبب علبه ملح، وسائق التكسي بسبب قدح شاي…؟”- الرواية، ص204.
ولذا يأتي سعي عصام وإغراؤه لمحمود للهجرة، قبل هجرته هو وما بعدها، طبيعياً ومقنعاً، ولا يتعارض مع حب الوطن، مثلاً، والموقف الوجداني والوطني، فينتهي الأمر بأنْ يلحق (محمودُ) صديقَه، وهو الفعل الذي نتوقعه من البداية، ببساطة لأن الرواية تبدأ بـه في أمريكا، وما جاء بعد ذلك، كما رأينا، إلا استرجاعاً في بنية دائرية كان لا بدّ أن تُعيدنا إلى البداية، وبما يعني حضور الآخر الغربي أو الأمريكي.

( 3 )
واضحٌ أن الآخر، أو لنقل موطن الآخر، ممثلاً بأمريكا، أول ما يحضر في الرواية يحضر ملاذاً أو منقذاً أو حتى ربما وطناً بديلاً وإنْ اضطراراً، وهو ما يبدو، وإنْ ظاهرياً، من أول افتتاحية الرواية نواجه أمريكا من خلال المعالجة النفسية (ربيكا) الطبيبة، كما رأينا، وهي تُعنى بمريضها العراقي (محمود). وكما تبدأ الدائرة السردية بأمريكا والأمريكي تكتمل بهما حين نصير في الفصل (20)- ص151- في أمريكا وتحديداً بانتهاء خط الاسترجاع الذي ضمن ما يحكيه مبررات هجرة (محمود) إليها، وما يتضمنه ذلك أو نهايته، ضمناً، من سؤال: هل الهجرة مقنعة بأسبابها التي تضع إنساناً مثل (محمود) أو (عصام) في وضع مأزوم ومعانٍ وتدفعه إلى ترك الوطن والتوجه إلى المنافي، وهنا تحديداً أمريكا؟ وهل هذا يعني انتهاءً للتأزم والمعاناة؟ هذا ما تسعى الرواية بعد الانتقال، بانتهاء الاسترجاع، من الماضي إلى الحاضر، إلى الإجابة عليه. هذه الإجابة تأتي على وجهين: الأول استمرار المأساة العراقية ومعاناة البطل منها وهو في مهجره حين يتلقى أخباره وأخبار أبيه وعمّته، والثاني تجربة العلاقة بالآخر، وأي آخر؟ أمريكا المسؤولة عن جل مأساة الوضع العراقي. ولعل مما تنفرد به الرواية، تعلقاً بحضور الآخر أنها تنحبك، كما تنحبك قضيتها، من تشابك هذين الوجهين. وما نظن هذا من اختيار الكاتبة بقدر ما أنه فرض نفسه كون هذا الآخر الذي يذهب إليه البطل وستُربكه العلاقة به هو المسؤول عن الوضع الذي أوصل (محمود) و(عصام) إليه لاجئاً لجوء المستجير من الرمضاء بالنار، وهو ما يشكل تمثّلاً لواقع صار العراقيون يعيشونه ويخبرونه. ولكن إذا ما بدا هذا جديداً فإنه في الحقيقة وجه آخر لتجارب جل الروايات العربية التي تمثّلت الآخر وتجربة الـ(أنا) أو الـ(نحن) معه، وتحديداً حين يذهب العربي إلى الآخر إوروبياً أو أمريكياً لاجئاً أو دارساً أو باحثاً عن الأمان أو الرفاهية أو الوطن البديل، وهو يحمّله، في وعيه أو لا وعيه، مسؤوليه ما هو وبلده فيه. وكان من الطبيعي أن تفعل هذا بشكل خاص روايات ما بعد الاستعمار وأهمّها على الإطلاق، برأيي، رواية الطيب صالح الشهيرة “موسم الهجرة إلى الشمال”- 1966، ولكن دون أن ننسى “الحي اللاتيني”-1953- لسهيل إدريس، و”نورا”- 1981- لناجي التكريتي، و”الرحلة”- 1983- لرضوى عاشور، و”طفل السي إين إين”- 1996- لإبراهيم أحمد، و”أمريكانلي”- 2003- وغيرها.
ولأن تجربة (محمود) مع هذا الآخر جديدة، وهو يُقدِم عليها بفعل عاملَين لا دخل له هو بهما، الوضع في العراق وحث (عصام) له، ولأنّه يأتي أمريكا خالياً من أي تصوّر أو رؤيا معينة عنها، غير كلام صديقه عنها الذي لم يكن مقتنعاً به بشكل تام، تبدأ تجربته معها بمفاجأة رؤية الآخر، ولا نقول صدمة اللقاء به، حين ينفتح البطل على عالم جديد يثيره أكثر من أن يجذبه أو يصدّه، لأنها رؤية النظرة الأولى غير المتأملة وغير الغاطسة في ما يراه بقدر ما هي ناظرة إلى السطح:
“نظر، ولم يكن ثمة خلف الدرب شيء، لا وادٍ و زرع ولا شيء سوى الأفق. امتلأتْ نفسه بالأسى وتضاربت مشاعره وشعر بطعمٍ مُرّ كالعلقم تحت لسانه، ولم يجد في نفسه الصبر على عبور تلك العتبة التي قال عصام أنْ لا بد منها لدخول العالم الذي سيعيش سعيداً فيه إلى أبد الآبدين. ولكنه هدأ بعد قليل وهو يجد المنظر جميلاً إلى درجة أنه أغمض عينيه عدة مرات لكي يفتحهما على روعته من جديد.”- الرواية، ص158.
وهكذا لا يكون التعمّق وما يتبعه من إثارة أسئلة، وبالتحديد حين يرافق النظرةَ إلى عالم الآخر الأمريكي استحضارُ الـ(أنا) أو الـ(نحن) العراقي. فعندما تقضي عمته في انفجار يكون (محمود) هناك يتعالج لدى المعالجة النفسية (ربيكا).. وسبب العلاج هو صدور بعض التصرفات عنه منها صراخه في الطيارة ورسوماته التي تعبّر عن الأشلاء البشرية، وإرساله رسالة فارغة إلى نفسه، وكل ذلك إنما هو تعبير عن واقع كما ينقذف فيه من قبل ينقذف منه إلى أمريكا الآن، هو اقع عراق العنف والقتل والموت والدمار الذي سبّبته أمريكا. هنا يبرز وجه آخر لأزمة (محمود) عراقياً، فبعد أن يشجعه صديقه (عصام) أو يغريه بالسفر إلى أمريكا تخلّصاً منها أو ربما هروباً منها، ينثار فيه، بعد مدة قليلة من وصوله، الكثير من المتناقضات وتحديداً حين لا يستوي ما فعله الأمريكان ببلده وما يجد الأمريكان فيه.. ومنها الجمال البيئي والبذخ في الاستهلاك، مما قد يكون على حساب بلدان وأقاليم، ومنها بلده، تَشن أمريكا الحروب عليها. ولذا تحضر بالضرورة، ومع الوعي الجديد الذي يخلقه انتقالُه ما بين عالمين، مقارنةٌ مُبكية وضمناً استنكار من ذلك الذي يعبّر عنه خطاب ما بعد الاستعمار العربي حين يتعلق للآخر الغربي أوروبياً وأمريكياً، حين يحمّل ذلك الآخر بشكل مباشر وغير مباشر مأساوية ما عليه الشرق والمنطقة العربية، وفي الرواية العراق:
“نحن في وادٍ يابس وهم في وادٍ أخضر… نحن في الأرض وهم في القمر… هم كل شيء ونحن لا أحد.. هكذا تقاطع متاعنا مع متاع آخر يجري إلى أمام ويصطنع له وادياً آخر هو وادي الأنوار التي تشبه الظلمات.. تقاطعت كوابيسنا مع أحلامكم السعيدة، فكانت هاجر[عمّته التي تقضي في انفجار] وقوداً لغرفتك الدافئة أكثر مما يجب ولسجادتك الدافئة أكثر مما يجب.. فما رأيك، يا ربيكا، في أن تضعي رأسها المقطوع في مدفأة عيادتك ورجلها المبتورة في مدفأة بيتك، وإذا تبقّى شيء من الأصابع فضعيه في مدفأة سيارتك.”- الرواية، ص204.
وحتى حين يتصرف الآخر بلطف فإنه يمثل تعاطف الآسر بالأسير أكثر منه تقديراً أو احتراماً:
“علاقة الآسر بالمأسور ليست علاقة جميلة على أية حال.. مهما بالغ الأول في إظهار التسامح والطيبة سيزداد الثاني إنكساراً.. هكذا يراهم يظهرون في شاشات التلفزيون في أفلام الحروب، فيبادر المنتصرون إلى مصافحة المهزومين فيزداد الأسير ذُلاًّ والآسر بشاعةً. كانت ربيكا تجلس أمامه وساقاها مكشوفتان إلى منتصف الفخذين تلصفان بياضاً تحت تنورة سوداء قصيرة زادت بياضها إشراقاً.”- الرواية، ص179.
ولهذا ليس غريباً أن يأتي تفكير (محمود) إزاء كلام المعالجة النفسية (العقلاني) أو (المنطقي) أو (العاقل)، تهكّمياً وبألم:
“فعنْ ماذا تتحدث هذه الطبيبة النفسية وجاره ألبرت قد استلم عشرة آلاف دولار تعويضاً عن خطأ أدى إلى قلع ضرسه السليم بينما فادي [الطفل الذي يتمزق أشلاءً أمامه في انفجار ببغداد] اختلط التراب بدمه وفمه وتقطّعت أوصاله من أجل السعادة الأبدية لمن فجّره ومن جاء بمن فجّره إلى هذا العالم؟”- الرواية، ص198.

( 4 )
الأصل أن الرواية بضمير الغائب من وجهة نظر البطل، ولكنها تتحول إلى ضمير المتكلم على لسانه، في جزء من الفصل (20)، ونعتقد أن هذا كان سيكون واحداً من أفضل ما تناغم فيه الأسلوب الفني أو التقنية مع المضمون، لو أنه تواصل طالما البطل في أمريكا. فقبل ذلك يكون (محمود) في العراق واحداً من الآخرين مما يعني (هو)، بينما حين يصير في أمريكا فإنه لن يكون كالآخرين فلا يبقى (هو) بل يصير (أنا) في وضع دفاع ضمن ماكينزمات/ الدفاع وهو وسط الغربيين أو الأمريكان الذين نعرف أن الإحساس، بحق أو بدونه، يحملهم مسؤولية كّل ما جرى ويجري للوطن أو الأوطان وتحديداً بلاد العرب أو الشرق. لكن الكاتبة لا تواصل هذا إلا بضع صفحات ثم تعود إلى ضمير الغائب، وهو ما يثير تساؤلاً وحيرةً، لا نجد لهما إلا إجابةً قد لا تُرضي القارئ الخاص إلا جزئياً، نعني أن الكاتبة أتاحت لهذه الـ(أنا) أن تعبر عن نفسها بما قد تراه- نعني الكاتبة- كافياً، يساعدها أننا نعرف أن ميسلون هادي تتقن، كما لا يُتقن الكثير من الكتّاب منْحَ شخصياتها خصوصياتهم وقدراتهم على التعبير عن كل ذات بما يتناسب معها. والواقع إذا ما عُرفت ميسلون هادي، بين الروائيين العراقيين بلغتها وحسّها اللغوي، فإن هذه الرواية قد تميزت فعلاً بأسلوب رائق ولغة مسبوكة بإحكام، وتنساب طيعة مع موضوعها الخاص وهو يسير مستحضراً شجنَ هذه اللغة. وربما انطلاقاً من هذا الحس اللغوي، إلى جانب وعيها بالكلمة منطوقةً، نعني الجزء الحواري في الرواية، وبعلاقة الحوار بالشخصيات الناطقة به، وبدور الحوار في العمل الروائي فنّياً وموضوعياً وحتى فكرياً، يأتي إتقانها لهذا، فتتغير عندها طبيعته بتغير الشخصيات والحالات الوجدانية والمواقف والظروف والما حول عموماً. ولذا فطبيعة حوارات (محمود) مع عمته، مثلاً، هي غير طبيعة حواراته مع (عصام)، وإنْ اقتربتْ منها، وهي غير حواراته مع شيخه التي تختلف عنها كلّياً، وهذا هو الوعي الذي يحتاجه الكاتب بدلاً من نسيان الكثير من الكتّاب أنّ من يتكلم ليس هو الروائي بل الشخصيات التي ما أن يخلقها حتى يصير لها كيانات مستقبلة عنها، تفرض، من جملة ما تفرضه، أن تتكلم بلغاتها ولهجاتها وأساليبها وطرق كلامها وثفافاتها بدل أن يكون الكاتب ذاته وراء ذلك كله .

 (1) ميسلون هادي: شاي العروس، رواية، دار الشروق للنشر والتوزيع، عمّان، 2010.

عن fatimahassann23

شاهد أيضاً

نبوءة فرعون – وسن مرشد

وسن مرشد   توظيف التراث الشعبي وأهميته، قراءة في رواية “نبوءة فرعون”لـ (ميسلون هادي) يعد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *