شاي العروس – كرنفال ايوب

شاي العروس …دنيا بعدّة الوان 

د.كرنفال ايوب

جريدة (الزمان)

 20/3/2011.

لقد ضمّت الكاتبة ميسلون هادي الى مملكتها  الروائية دنيا اخرى تمثلت بروايتها الاخيرة (شاي العروس) وهي تستل من ثقافتها الطقوسية مصطلحا اخر يؤشرازاء ما يعيشه الفرد العراقي, و يمكن ان نعدّ هذه الرواية حلقة اخرى من سلسلة الكشف عن الواقع العراقي وطرحه برؤى مختلفة في ظل الظروف الاخيرة التي يمر بها , واذا كانت روايتها السابقة (حلم وردي فاتح اللون) قد ركزت على الاحداث الاخيرة بعد عام 2003 وضبابية المواقف وعدم وضوحها لانها اخضعت شخوصها لتجارب جديدة استلتها في ضوء هول الصدامات التي رافقت دخول القوات الامريكية للعراق , نجدها في(شاي العروس) تكشف كشفا مقصودا عن واقعين الاول يتمثل بالاحداث الدامية المعروفة التي شهدها العراق , والثاني بعيدا عنه يتمثل  بالعيش في دول الغرب والخضوع لانظمتها وقوانينها, وكلا الواقعين يعيشهما او بالاحرى يراهمها شاب (اعمى) , ويبدو ان اختيارها لشخصية الاعمى يرمز الى الرؤية الحقيقية المعاشة , اذ ان انتهاج الرمزية مقصود من اجل البث المتواصل للدلالة التي ارادت ان تكشف عنها الكاتبة.

ان الوعي الروائي عند الكاتبة قد اتجه الى رصد التحولات الانسانية  الطارئة في ظل التحولات السياسية بالذات , حين اظهرت تجربة الحرب القسرية حين يتأملها الاعمى ويعيشها على الرغم من اننا لا نستطيع ان نعدها شخصية فوق العادة بل هي مجرد شخصية تعرضت لحادث ادى الى ان تفقد بصرها الا ان المغزى يكمن في مستوى الحدث الذي ارادت الكاتبة ان تجعل له مؤثرا في (الاعمى) مرة في مرحلة ما قبل عماه((كنا نتوقع ان يعود اليك بصرك في اية لحظة بعد سقوطك من السطح, لانك لم تولد بهذه العاهة او ترثها من احد انما السقطة التي حدثت لك هي التي تسببت بها))(1) , ومرة في عماه(( وهو صغير رماه بعض الاطفال بالحجارة  وضحكوا على عماه وقلة حيلته عندما حاول الامساك بخيط طائرة ))(2) ومرة اخرى- وهو الاهم- حين عاد مبصرا((لم يصدق محمود ما راه في المرآة:”وقال لنفسه ماذا يحدث؟؟اهذا انا ؟احقا انا؟وهل ارى؟ وماهذه النقطة السوداء؟ اهذه نملة؟ ثم نظر الى نهاية  يده الممتدة الى حنفية الماء وقال:”وهذه اصابعي؟”ثم الى الماء المنهمر من الحنفية وقال:”وهذا هو الماء؟”..ثم مرة اخرى الى المرآة وقال:”وهذا انا؟ امعقول اني ارى))(3)

حاولت ميسلون هادي ان تكشف عن فيض من الاستفهامات من خلال هذه الشخصية على الرغم من اننا لايمكن ان نسبغ على ادب ميسلون هادي صفة النوعية التي تتقصى الحقائق ضمن اطار واقع معين, استفهامات كشفت عنها الظروف الخاصة التي تصور وعيا خاصا ومختلفا .

لقد ترجمت الكاتبة هواجسها الفلسفية من خلال طابع التوظيف الذي تفعّل فيه دائما الثقافة الطقوسية اداتها في خلق العالم الذي تبغيه, اذ لا تستغني الكاتبة عن المدلولات الشعبية ورموزها والاشارة الى خلفياتها المكانية والزمانية والحدثية الا ان المميز في (شاي العروس) انها استنهضت شخصية مختلفة لتقدم رؤيتها من خلال اطار ثقافتها تلك, فمحمود شاب اعمى تعرض لحادث ادى الى فقدانه البصر وهوصغير فنشأ وذاكرته لا تحمل سوى صورا قليلة الا انه يحتفظ بطابع الحياة ذاك داخل نفسه, يكبر مع عاهته التي تمنحه احساسا اخر بالاشياء والالوان والشخوص وكل عناصر الحياة . توظف الكاتبة شخصيته من اجل الكشف عن مراحل مقصودة تستخدم فيها الوحي الخيالي من اجل مسح الكدرة عن الوجه العراقي فهي تلاحق خطوات الاحداث وتسجلها , فعلى الرغم من احتياج الرواية الى اعداد زمني الا ان ميسلون هادي تلاحق التغيرات وتبدو وكأنها متلازمة مع حصول الاحداث خاصة حين تقيم مشغلها السردي في واحد من اهم منعطفات التاريخ العراقي واخطرها فهي تستند الى تسلسل الاوجاع من خلال دنيا ليست بلونين (كشاي العروس) وانما بعدة الوان فالشخصية تعيش واقع ماقبل العمى في اجواء السلم  على الاكثروتسرد رؤيتها عنها ثم الواقع نفسه والشخصية تعيش حالة فقدان البصر ومن ثم الواقع السياسي الجديد والخطير الذي عاش فيه محمود (الشخصية) وهو مازال اعمى ومن ثم استرجاعه لبصره في ظل هذه الظروف والصدمة التي تعرض لها نتيجة الاهوال التي واجهها اثر ذلك واخيرا حياته الجديدة في خارج العراق التي كانت عبارة عن عقد لمقارنات بين احساسة داخل بلده وبين احساسه وهو يعيش حياة جديدة في خارجه ((كان يرى في تدرج الالوان في حبات العنب من الازرق الغامق الى البنفسجي المائل للسواد , ويعجب كيف يمكن لتلك العناقيد الجميلة التي تتدلى من قمريات بلاده , ان لاتمنع هذاك الخراب هناك, وكيف لايمكن لاقراط النخيل ان لاترفع انظار الناس الى اعلى بدلا من تشتتها مذعورة الى الزوايا والطرقات ؟ كان هناك ايضا في بلاده التين والزيتون والرمان والمن والسلوى فكيف انقلبت الاية هناك))(4)  وكل ذلك البناء عبر ايحاءات رمزية معينة اذ لاتخلو كتابات ميسلون هادي من انظمة رمزية موصلة اعتادت ان تجعلها اساسا لتكوين عوالمها فنصها يفهم دائما من خلال احالاته الرمزية على واقع دلالي ذي مساند تاريخية تحكمه رؤى ناتجة عن الاهوال والصدامات خاصة حين تستند الى الالوان مثلا في تلك الاحالات في اشارة الى عناوين حاسة البصر التي تقوم على رؤية الالوان وتمييزها ومعرفة دلالاتها فاستخدمتها الكاتبة في توثيق المراحل على ما يبدو, في رحلة فردية بطلها شاب اعمى لان دلالتها تجعل الطريق الى النص مفهوما من خلال رمزية اشاراتها وربط الوانها مع اجواءها التي تقيمها ويبدو انها في هذه التوظيفات انما تلجأ الى ما يمكن ان نطلق عليه استخدام الاقنعة(بواسطة اللون) فكل لون عندها يشير الى معاني معينة تحيل بدورها الى دلالات معينة.

ان الكاتبة تجعل للالوان مساحة اعتبارية كبيرة وتربطها بكل مايمكن ان يشكل علاقة مؤثرة بين الشخصية ومحيطها فتاره تكون دلالتها معبرة عن هاجس الخوف ((بعد الاخبار,ظهرت مخلوقات بشعة عملاقة الحجم ومقرنصة الجلود تخرج بالعشرات من مياه بحيرة زرقاء قال عنها المذيع انها التماسيح, فأشماز محمود وقال :”ايعقل ان توجد داخل تلك المياه الرقراقة الزرقاء كل تلك الزواحف المرعبة ذات الوجوه البشعة التي تثير الرهبة والقرف؟”))(5) , وتارة اخرى نجدها (الالوان) تحيلنا الى دلالات الفرح او الايحاء به وفقا لما تقضيه مسيرة الرؤية التي تنشدها الكاتبة في بنائها الروائي ((هذا الكرنفال التنكري هو الذي يجب ان تسميه عمته شاي العروس , وليس جوها المغبر بين الابيض والاحمروالممتد من لارض الى السماء ومن السماء الى الارض .. واولاء هن عرائس المشمش اللواتي لم يجد الغبار طريقه الى وجوههن قط..انهن يحاكين في بياضهن الناصع اول شجرة مشمش يراها بعد ان غادر عماه وقت الربيع..كانت ترتدي حلة طفولية من الزهر الابيض الكثيف فتبدو مثل العروس لحظة زفافها))(6) وتارة تحمّل الكاتبة اللون دلالة اكبر واعمق حين توظفه لاستظهار الرؤية الداخلية والجانب النفسي للشخصية او تفتح بواسطته نافذة رمزية تشير الى معنى مقصود((ابونا..الن نضع لعابة خضرة في هذا المكان؟..لعل العصافير تأتي من جديد وتملأ الدير بزقزقتها.))(7)

ولا تتوقف ميسلون هادي عن هذا اذ ان اغلب مواقف احداث روايتها مرتبطة بلون معين يرمز بشكل يبدو مقصودا تماما خاصة ان موضوع روايتها قائم على فكرة فقدان البصر واسترجاعه والتعرف مجددا الى الدنيا الملونة بعد الظلام لذا كان لابد من التركيز على العناصر والوانها وربطها بالدلالات ((النار والدخان ..هذان هما اذن ماكان يشع البهجة والدفء في حياته ايام الشتاء فيمليء ظلمة روحه بالنور الذي لم يعرفه صغيرا وهو اعمى كما يعرفه الان وهو يرى . الشمس التي كانت تغمره بنورها كل يوم , يشاهدها الان وهي تغيب في لجة الكون العطيم وبما يتبقى في ضوئها , تتلون غيوم السماء بدرجات من اللونين الاسود والارجواني تتوهج وتخبو مثلما قطع الجمر التي يحركها ابوه بالملقط داخل المنقلة))(8), كذلك حين يعقد محمود (الشخصية) اغلب المقارنات للعناصر المحيطة به في داخله نجدها ترتكز في اغلبها على تباين الالوان وتصوره عنها حين كان اعمى وكما يراها بعد استعادته بصره.

لعلنا نعود الى تصورنا الذي اسلفناه في دراسة سابقة عن ادب الكاتبة وهو انها ترتبط بعلاقة قوية بالاشياء والعناصر لذا نجدها شديدة التركيز عليها وعلى خصائصها وادوارها في الحياة مهما بلغت بساطتها ولعل هذا اسند الى حد كبيرتنوع استخداماتها اللونية وتوظيفها كرموز دلالية ..وعلى الرغم من استجلاب الكاتبة لعناصرها الملونة (دائما) من الطبيعة وبساطتها في اغلب الاحيان كما انها لاتستغني عن المدلولات الشعبية ورموزها في الاشارة الى خلفياتها الزمانية  والمكانية والمدنية والشخصية الا انها جسدت بها مواقف مهولة عبرت عن مفصل حاسم من مفاصل التاريخ العراقي , فالوان ميسلون هادي كانت موفقة الى حد كبير في تجسيد وعقد المقارنات بين الصور الواقعية المتباينة من جهة , والمجتمعات المختلفة من جهة اخرى, فضلا عن الشخصية التي استنهضتها لتقوم بادوارها في تقديم رؤية الخاصة عن الواقع العراقي.

2011

مكان النشر غير موجود

                                              المصادر

  1. شاي العروس, ميسلون هادي, دار لشروق للنشر والتوزيع, عمان – الاردن, الطبعة الاولى,2010, ص50.
  2.  المصدرنفسه, ص120.
  3. المصدر نفسه, ص11.
  4. المصدر نفسه, ص167.
  5. المصدر نفسه, ص109.
  6. المصدر نفسه, ص162.
  7. المصدر نفسه, ص121.
  8. المصدر نفسه, ص59.

عن fatimahassann23

شاهد أيضاً

ميسلون هادئ……غزارة الإنتاج وبراعة الأداء.

ميسلون هادئ……غزارة الإنتاج وبراعة الأداءمن الأحداث الفارقة والمائزة في حياتي،هو اللقاء بالروائية المبدعة ميسلون هادي، …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *