اشتباك الحقيقة والوهم في رواية ميسلون هادي
“سعيدة هانم ويوم غدٍ من السنة الماضية“
د. نجم عبد الله كاظم
( 1 )
لعلي في هذا المقال القصير أُخالف كل كتاباتي السابقة والأخرى، خصوصاً التي كتبتها أو أكتبها عن أعمال سردية، روايات وقصصاً قصيرة، فأدخل الموضوع من بعض استنتاجاتي النهائية، فأقول ابتداءً إن تجربة ميسلون هادي في كتابة روايتها “سعيدة هانم ويوم غدٍ من السنة الماضية” تفعل أمرين قد يبدوان متناقضين. أولهما أنها تحافظ على أحد ملازمات تجربتها الإبداعية، كما تتمثل في غالبية أعمالها القصصية والروائية وهو اعتمادها الكبير لبنية الوهم والإيهام.([1]) وثانيهما أنها تخرج عن مسار تجربتها هذه حين تقدم عملاً يكتنفه غموض لا يزول حتى مراحل متأخرة من الرواية. والواقع أن هذا الأمر الثاني تحديداً يقودنا إلى القول إن الرواية تحتاج إلى قراءتين إنْ إردنا تحقيق تلقًّ مُرضٍ لها.
والآن، في العودة من النهاية إلى البداية، نجد أنفسنا بدايةَ، أمام اقتباس للشاعر الأسباني خوان رامون خيمينيث (1881-1958) يتقدم النص الروائي، ويكتسب دلالة نحس شيئاً منها ستثبت صحتها في قراءة الرواية، وفيه يقول:
“أنا لست أنا. أنا هذا الواحد السائر بجنبي الذي لا أراه، الذي أحياناً أستطيع أن أزوره، وأحياناً أنساه؛ الواحد الذي يبقى صامتاً بينما أتكلم، الواحد الذي يسامح بلطف عندما أكره، الواحد الذي يتمشّى عندما أكون في البيت، الواحد الذي يبقى واقفاً على قدميه حين أموت.” الرواية([2])، ص5.
( 2 )
لم يكن وصف بعض النقاد، ونحن منهم، تجربة (الوهم والإيهام) الكتابية والثيماتية عند ميسلون هادي بالبنية اعتباطياً، بل هو يأتي من وعي هؤلاء النقاد، ومع إدراكهم بأنها ثيمة أيضاً أو حتى تقنيات، بأنها بنية فعلاً تقوم عليها الكثير من قصص ميسلون هادي ورواياتها. وهي بنية ترتبط، ثيمياً في الرواية التي بين أيدينا، بأحداث العمل ومساره أو مساراته، لكنها تبقى هنا وكما في الأصل بنية وفنّاً. ولهذا لا نُفاجأ حين يأتي موضوع الرواية وقضيتها، كما سنأتي إليهما بعد قليل، مقرونَيْن بتجربة فنية غريبة ولكنها جميلة وفريده، حين تبدو الرواية أول وهلة محكية بضمير الغائب، ثم سرعان من تبدأ الظاهرة الغريبة، مؤقتاً على الأقل، المتمثّلة بازدواجية استخدام ضميرَي الغائب والمتكلم متداخلين ليبدو هذا الاستخدام غير مقنع أو على الأقل مُربكاً ومحيّراً، مؤقتاً مرة أخرى، بل هو حتى بعد انكشاف سببه وأنه متعمّد ومبرَّر، في مكان متأخر من الرواية، قد لا يُرضي بعض القرّاء أو يقنعهم، خصوصا حين يكون التداخل ما بين (أنا) و(هو/هي) عموماً، وما بين أنا (سعيدة) وأنا (مليكة) الشخصيتين الرئيستين في الرواية، مع ضمير الغائب، وبما يوحي للقارئ وكأنه خطأ تقني تقع فيه الكاتبة، إلى أن ينكشف لنا أن هناك سبباً موضوعياً وراءه يتعلق ببنية الرواية وخط أحداثها وشخصيتيْها، وهو أن (سعيدة هانم) و(مليكة جان)، كما سينكشف في الفصول الأخيرة من الرواية، هما شخصية واحدة. ومن هنا نرى أن الرواية صعبة كتابةً، وهي صعبة قراءةً بحيث نعتقد أنها تحتاج إلى قراءتين.
( 3 )
والرواية هي تَمثّلٌ، من زاوية ما، لعوالم المرأة في ظرف وأجواء غير عادية وغير طبيعية، ولاسيما في علاقتها بالرجال، وبالماحول عموماً الذي مكوّنه الرئيس، ونحن نتوقعه شرقياً، الرجل. وفي الكثير من أوصاف (سعيدة) و(مليكة)، اللتين سيظهر متأخراً، كما قلنا، أنهما شخصية واحدة، تناقضٌ وعدم التقاء، لأن هذه الشخصية تعيش نوعاً مما يُسمى (ازدواج الشخصية)،([3]) الذي نتيجة له تقوم الشخصية بتصرف متناقض. وإذا كان هذا التصرّف المتناقض “يصدر عن شخص معيّن نتيجة لوجود مفهومين متناقضين كحالة تكيفيّة لظرفين متباينين تقتضيهما الحالة الإجتماعيّة”، فإن هناك عدة إشارات إلى أنه، في رواية (سعيدة هانم) يأتي “نتيجة الظرف والماحول عموماً. وهذا يعني عادةً ووفق حالة أو مرض (ازدواج الشخصية) أن تأتي شخصيتَيتا الرواية متناقضتين وربما متعاديتين أحياناً. فـ(مليكة) تكره الخروج إلا لإيصال أختها، لاسيما ليلاً حين لا تكون على ما يرام، بينما تصير في حال أفضل نهاراً، وضمن ذلك تكره الخروج على سيارة الأزبال، بل هي كما تعبّر الكاتبة أو الراوية “لا تحب أن تكون مرئية من آخرين”، ولا تحتمل وجود الناس، بل هي مبهذلة في الخارج ونظيفة في البيت. هي كثيرة الشكوى، ولا تحب السياسة والتأريخ. في مقابل هذا كله هي تحب الغناء والرقص، والأكثر الرسم فتنغمس فيه، ولكن لأنها عموماً غريبة وغير طبيعية، وربما غير سوية، فإنها حتى في لوحاتها التي ترسمها، والتي يُفترض أن ترتاح لها وتجد نفسها فيها ليست طبيعية فترسم مخلوقات غير مألوفة وترسم ملابس كأنها أشخاص، لكنها بدون أشخاص، والأشخاص الذين تعرفهم أو تراهم في الواقع يتحولون في لوحاتها إلى حيوانات.
وإذا ما كانت (مليكة جان) في طفولتها تحب (فنسنت)، فإن (سعيدة هانم)، كانت تخافه، ولكن فيما عدا هذا وما يعنيه، كونه ليس طبيعياً كما نعلم، هي طبيعية، فلا تخاف الخروج ولا الناس، بل هي تخرج بومياً لأنها مدرسة للغة العربية. وهي، بعكس (مليكة)، تحب سيارة الأزبال، وتحب السياسة والتاريخ. هي إذن منفتحة، كما أنها تحب العمل والفعل.
وإذا ما قبِلنا القول بحاجة الرواية إلى قراءتين، فإن دخول القارئ، إلى بعض مفاصلها، في القراءة الثانية، لن يكون مثل دخوله إليها في القراءة الأولى، فيفهم في الثانية ما قد لا يفهمه في القراءة الأولى، ومن ذلك التداخل ما بين الشخصيتين وما بين ضمائر الحكي. كما يكون الأمر حين نقرأ في أحد الفصول الأولى الآتي المروي من (سعيدة):
“استمرت الشمس في الغروب، وتركت في السماء الحمرة مع اللون الوردي والذهب، وعبر الظل بسرعة من الحديقة الصغيرة إلى الواجهة الأمامية للبيت.. وعلى الرغم من أن الأشجار اختفت عن الأنظار هي وظلها، فمن الواضح أنها كانت موجودة في خيال مليكة جان، وإذا كنت أنا لا أراها فأكيد أنها موجودة هناك وستبقى هناك.. كانت جالسة تراقبني عن كثب، وأنا أصحّح دفاتر الطالبات في المساء، متكورة على نفسها مثل قطعة مخربطة من غطاء الفراش. كان جلوسها ذلك يعبر بشكل مضحك عما كانت عليه فعلاً. فهي مشوشة على الدوام لأنها تريد أن تجمع بين ما تفكر به، وبين ما يجب أن تفعله، فتجده متناقضاً إلى حد كبير.
“رفعتُ عيني عن الدفاتر إليها، وسرحت بعيداً لأجدها تمسك يدي بقوه بين صفوف الطالبات في المدرسة، نجلس في زاوية من زوايا المدرسة لنتناول طعامنا، ثم كبرتُ لأجدها أذكى مني وتتعلم كل شيء قبلي.. من الرسم إلى السياقة إلى السباحة، ولكني كنت أجرأ منها في الخروج مع صديقاتي إلى الأسواق والمطاعم…” الرواية، ص51.
وهو الفهم الذي ليس ممكناً له أن يتحقق في القراءة الأولى، ولكنه يبدأ بإحساس بأن شيئاً ما غير طبيعي يجري، ليأتي فهم أولي في موقع متأخر من الرواية، لكنه لن يكون مفاجئاً في كل الأحوال حين ينكشف أن الأختين شخصية واحدة هي (سعيدة):
“قلنا كل شيء في الحديقة، فلما علِمَ بموافقتي أخيراً سقطت مليكة جان من السطح وأصبحت موجودة على مقربة منه، ولكن أخي سليمان بيك لم يرها ولا شعر بوجودها على الأرض… لم يتمكن من النظر إلى مليكة جان التي سقطت ممددة على أرض الحديقة، لأنه لم يرها أصلاً، أما أنا فقد تأملتها ملياً فوجدتها مرتدية ملابس الخروج، وعلى وجهها تعبير من سمِع للتو جرس الباب، فانزعج وبرطم لأنه لم يكن مستعداً لفتحه ولقاء زائر غريب. كانت معتادة أن تظهر حية في كل مكان أظهر فيه، مرتدية ملابس بُنّية مثل هذه التي ألبسها الآن. ولكنها هذه المرة كانت ترتدي سترة وردية فاتحة اللون.” الرواية، ص170.
ثم يتم الإفصاح التام عن ذلك بشكل صريح في إحدى الصفحات الأخيرة من الرواية:
“أنا أعلم جيداً أن مليكة جان ميتة، بل غير موجودة بالأساس، إلا من خلال أفكاري التي أحاول أن أعمل عليها بجد بين البيت والمدرسة، ولكني أفشل في تفضيل الواقع على خيالي، وإذا ما حاولت ذلك، سيرفض عقلي وجسمي ذلك… في لحظة أكون سعيدة بهذا الواقع من خلال السبورات والدفاتر وضوضاء الطالبات، وفي اللحظة الأخرى لا يعني شيئاً بالنسبة لي على الإطلاق، وأمسخه في اللوحات التي أرسمها.” الرواية، ص176.
( 4 )
وتمشياً مع علم النفس وتشخيصه لجل الاختلالات والأمراض النفسية، وتبعاً لذلك مع المنهج النفسي في قراءة العمل الإبداعي الذي يقدم شخصيات مصابة بها، لنا أن نتوقع أن يكون للفلاش باك حضور مهم وفاعل، كون جل مسببات هذه الأمراض والاختلالات والأعراض النفسية ترجع إلى الماضي، وغالباً إلى الطفولة والصبا، مما يعني أن علاج مثل هكذا شخصية سايكولوجياً على أرض الواقع، وفهمها قرائياً ونقدياً في الإبداع لا تتم إلا مع الرجوع إلى ذلك الماضي أو به. وفي كل الأحوال إن المسببات تكمن في واقع الماضي البعيد والماضي القريب وربما الحاضر. ولهذا فكل شيء تعبّر عنه الرواية من خلال الشخصية/ الشخصيتين هو من إفرازات الواقع غير العادية، هو واقع بغداد والعراق. وإذا لم يحضر هذا الواقع واضحاً أو مباشراً أو قوياً، فمن الواضح أنه أصلاً وراء هجرة الأخ (سليمان بيك) إلى كندا وترك أخته وحدها ليزيد عليها المأساة مأساةً، حتى قبل أن تتحول بالنسبة له إلى عبء بسبب وجودها في بيتهما الذي يريد أن يبيعه، فينشغل بمحاوله تزويجها، ليتخلص من عبئها. كما أن هذا الواقع سيحضر صريحاً في الفصل (30) متمثّلاً بسقوط قذيفة هاون على غرفة البطلة. وكأن الرواية أرادت أن تختصر كل ذلك في النهاية يأتي سقوط القذيفة على غرفة (مليكة) أو (سعيدة). ولتعبّر الرواية عن استمرار المأساة العراقية المترجَمة، في مسارها، في ازدواج شخصية البطلة، يأتي صناعة (مليكة) من حجارة انفجار القذيفة التي تسقط على غرفتها تمثالاً لمسخ، ستعبّر الأخت به لأخيها عن الكثير مما لم تنطق به له صراحةً:
“لم يبق من تلك الحجارة شيء على ممر الحديقة.. تحوّلت إلى جسم غريب الملامح يشبه جسم رجل مشوه وضعت مليكة في يده قنينة الرضاعة التي كانت فاتن [جيرانها] قد نسيتها في الحديقة.. قالت لنا بعد ذلك ارموها في الزبالة لأنها قد تلوثت بما يكفي من التراب، ولكن مليكة جان لم تفعل ما فعلته أمي في طفولتها، ولم ترمها إلى الشارع، وإنما وضعتها في فمها، ثم عادت وأرجعتَها لتضعها بين يدي رجل مشوه.. نحتته على شكل الرقم أربعة الإنكليزي، فجعلته على شكل عمود بعين واحدة وإذن واحدة ورِجْل واحدة تنبثق من بطنه يد معقوفة من جهة المرفق تحمل قنينة الرضاعة الملوثة التي تركتْها فاتن في بيتنا.
جفل سليمان بك بشدة عندما دخل البيت ورآه أول مرة.. نظر طويلاً إلى ذلك المسخ المختبئ بين جذوع الشجر، فشعر وكأنه جاثم فوق أنفاسه.. لم تكن مليكة جان تظهر للعيان عندما يأتي أخي سليمان بك.. فهي متعبة ومعذبة دائماً، ويستبد بها الرفض للقائه كلما حضر. ولكنها الآن ممدة بيننا على الحشيش وأخونا العزيز سليمان بك لا يراها ولا يعرف عنها شيئا.ً” الرواية، ص173.
ومع حضور المأساة العامة، المتمثلة في واقع بغداد والعراق والعراقيين، والمأساة الخاصةن المتمثلة في أزمة البطلة، لا تجد ميسلون هادي أنسب من السخرية السوداء الذي بدأته من قبل في رواية “حفيد البي بي سي”، ثم عزّزته في رواية “أجمل حكاية في العالم”، وكأنه يتعزز كثيراً هنا ليصير منهجاً، أو أسلوبَ كتابةٍ في هذه الرواية، ولعل قمة يتجسّد في الفصل الخامس عشر (حبريش حورية)، ومن الدراما الساخرة، ولكن الدالة، أن يصير النعال (المداس) موضوعاً ليتكرر ذكره في الرواية، بل يصير أيضاً علامة بين (سليمان بك) وأخته (سعيد هانم)، كما حين يقول لها:
“نيالكم تكدرون تسافرون وتشترون نعالات لاستيك… آني منا لهنا ما أكدر أسافر، لأن ما عندي فلوس حتى اشتري نعال.” الرواية، ص123.
[1]) من أوائل من انتبه إلى هذا من النقاد سامي مهدي وصالح هويدي ونجم عبدالله كاظم. والواقع أن هذه البنية تمثّلت في الكثير من أعمالها، ومنها، على سبيل المثال: قصص “الشخص الثالث”، وقصص “الفراشة”، ورواية “الخطأ القتل” القصيرة، ورواية “العالم ناقصاً واحد” القصيرة”، ورواية “نبوءة فرعون”، ورواية “العيون السود”، وغيرها.
[2]) ميسلون هادي: سعيدة هانم ويوم غدٍ من السنة الماضية، بيروت، 2014.
[3]) “ازدواج الشخصيّة نفسيّ المنشأ: هو إزدواج في التصرف ينشأ نتيجة لإزدواج في الإدراك أو في العقلية. هذا التصرّف المتناقض يصدر عن شخص معيّن نتيجة لوجود مفهومين متناقضين كحالة تكيفيّة لظرفين متباينين تقتضيهما الحالة الإجتماعيّة… هذا الانتقال من شخصيّة الى أخرى يحصل من دون جهد أو تكلّف وكأن المسألة تسير بشكل ميكانيكي وتلقائي… [وهناك ما يُسمى مرض إزدواج الشخصيّة التناقضي] هنا يكون التصرف المتناقض ناشئاً عن تناقض بين إدراك المرء وإحساسه، فمفاهيمه ومعرفته وإدراكه تحتم عليه سلوكيات محددة يستجيب لها ويتصرف على أساسها، لكن أحاسيسه تدفعه الى تصرفات تناقض القيم والمفاهيم التي يمليها الإدراك فيتصرف طبقا لذلك بمكيالين مختلفين يناقض أحدهما الآخر…”