ياسمين وياسمين وياسمين
عقيل عبد الحسين
ملحق (ادب وثقافة)
جريدة (الصباح) 6/3/2013.
سوف ابدأ من آخر رواية (زينب وماري وياسمين)، وبلعبة الدفتر الذي يستغله (كافي الكيلاني) لمقاومة موته بينما يتقلب بين حرب طويلة مع إيران، وأسر فيها أطول. تقول ياسمين إن (كافي) يزاول اللعبة نفسها التي تقوم بها هي من أجل التغلب على الموت (موتها المحتمل وموت زينب المتحقق). وتتضمن اللعبة إشارتين الأولى معلنة من الساردة، فهي تعلن أن ما تفعله يماثل ما يقوم به (كافي). والثانية مضمرة سأخصص مقالي هذا للحديث عنها لأني أفترض أنها اللعبة التي تقوم عليها رواية ميسلون هادي.
الإيهام بالمماثلة
يقوم (كافي) بتلخيص حكايات الأفلام العربية القديمة التي شاهدها في دفتر يحتفظ به ويرسله إلى خطيبته (أسامي) قبل أن يموت في مهجره في السويد. وهو لا يقوم بفعل جديد، أي أنه لا يروي حكاية، ولا يختلق قصة، كما يفعل الراوي عادةً، وكما تفعل ياسمين في الرواية تحديداً. فهو ينتظر موته شأن نساء شهريار، ويتدرّب على الحكاية التي يظن أنها تُؤجل موته. ولكنّها ليست حكايته، أو الحكاية التي لا يعرفها المروي له، فيتشوق لسماع بقيتها، وقد يُقايضها بحياة راويها. إنها حكاية يصنعها الآخرون. ويعرفها المروي له، ومنهم ياسمين التي وجدتها تلخيصات لقصص أفلام قديمة شاهدت قسماً منها.
أما ياسمين فهي في المقابل تروي حكاية نادرة الوقوع، ناتجة عن خطأٍ قدريٍّ بحتٍ في يومٍ لا يتكرر إلا كلّ أربع سنوات (يوم 29 فبراير). ففي يوم ولادتها تقوم الممرضات دون قصدٍ بإبدالها بياسمين أخرى لأسرة مسلمةٍ فقيرةٍ، لتشابه الإسم. فهي ياسمين عبد الأحد (المسيحيّ)، وتلك ياسمين عبد الواحد، بعد أن تقفز إدارة المستشفى اسم الأب (محمد). لتتشكل حكايةٌ غريبةٌ بطلتها ياسمين وراويتها الوحيدة بصوتها.
يختار (كافي) البقاء في العراق مع أنَّ لديه إقامةً في الامارات ويملك أن يهرب من الحرب، لأنه لا يرضى بالتخلي عن بلده في وقت الشدة، ليجد نفسه في غمار حرب عبثية لمدة ثماني سنوات، تنتهي بأسره في عام 1988 نتيجة خطأ في القيادة والتخطيط يذهب ضحيته أكثر رفاقه إلا هو وقلة معه يؤسرون لإحدى عشرة سنة في إيران. يُطلق بعدها ويختار اللجوء الى السويد فيموت بالمرض هناك.. فيما ياسمين لا تختار طريقها وإنما هو خطأٌ لا يد لها فيه، يحولها من مسيحيةٍ كلدانيةٍ أرمنيةٍ ثريةٍ في حيٍّ راقٍ إلى مسلمةٍ فقيرةٍ في حيٍّ فقير. ويُبدلها عبد اللأَحد الأب الهادئ بمحمد الغضوب السكير الماجن، وادورد الأخ الذكي واللامع الذي يصير طبيباً بمصطفى وريث عادات أبيه الفاشل منظف الشوارع. وماري الأم المتفائلة الفعالة والطامحة بالحياة بزينب المسكينة والمقهورة والحزينة دائمة الشكوى والتوجع التي تنهج طريقاً قصيرةً إلى الموت في الثلاثينات من عمرها فيما تصارع زوجاً يكبرها بأكثر من ثلاثين عاماً سكيراً مفلساً وظالماً.
وإذا كان (كافي) يختار الخطأ وينتظر الموت مثله مثل امرأة شهريار الأولى ومثل نسائه قبل شهرزاد، فإنّ ياسمين لا تختار الخطأ ولا تدري به اصلاً، ولم تقم به، ولكنّها في الوقت ذاته تختار دفع الموت عن نفسها، وتختار الحياة، ولكنْ بطريقة الإيهام بـ(المماثلة) وهي هنا تختلف عن شهرزاد (التي تروي حكايات غيرها) فهي توهم المروي له بأنها دائمة الإنشطار إلى ذوات متعددة تتماثل كلّها مع الأم الخطأ زينب (الثقافية) لأنها نشأت على حكاياتها عن الظلم الذي تعرضت له من عائلتها التي قدمت أمها فدية لعائلة أخرى بسبب قتل أخيها لأحد أفراد تلك العائلة. ثمّ هَرَب الأم صبيحة بأولادها بعد موت الأب إلى بغداد، وحياة الفقر التي اضطرت أخاها الأكبر إلى تقديم زينب لرجل يكبرها كثيراً عوضاً عن ديونهم، ومعاناتها من ذلك الرجل وصولاً إلى موتها. وياسمين تصر على تماثلها النفسي مع زينب ومع الشخصيات الأخرى التي تشبه زينب ومنها عبد الأحد الأب الأصلي الذي يتسم بالهدوء، وبأنه يحدث نفسه إذا خلا إليها كما تفعل ياسمين.
وحين تنتقل ياسمين إلى بيتها عائلتها الأصلية بعد اكتشاف الخطأ، وموت زينب فإنها تصر على مفارقتها النفسية للأسرة الجديدة ولطبيعتها الممثلة بأمها الأصلية ماري التي لا تشبه زينب في كل شيءٍ. ولكي تديم صلتها السردية بالعالم فإنها تلجأ الى اشتقاق ذات أُخرى أو ياسمين أُخرى على صورة ياسمين القديمة المتماثلة مع زينب تقابلها في المرآة لتبادلها الكلام وتسرد لها الحكايات في لعبة سردية، لا نفسية، كما تقول هي: فالطبيبة مقتنعةٌ بأنني غير مجنونة.
تقاوم ياسمين الموت بطريقة أخرى مغايرة تماما لطريقة (كافي) وهي طريقة تنتمي إليها ومن ابتكارها فهي تقوم:
- بتكثير الذات الساردة عبر المرايا التي تتوزع إلى: العالم (كالجن والجنة والجسر والجنينة) والثقافة (كالجريدة والجمال) والآخرين (كالجندي والجميع والجدة) والتاريخ (كياسمين زينب وياسمين ماري).. وكلّ ذلك للحيلولة دون موتها السردي.
- الإيهام بتطابقها الكلي مع الذوات التي تروي عنها، من خلال انعكاسها في المرايا واختلافها عما عداها من الذوات كماري ومحمد ومصطفى وياسمينه بديلتها وابنة زينب الحقيقية.
- إنتاج أدوار جديدة للساردة والأنثى من خلال الإيهام بالتماثل مع تاريخها وثقافتها.
أدوار جديدة للساردة
تصر ياسمين على تماهيها مع زينب التي تختزل امرأة شهريار الأولى الخاطئة، فهي تخطئ في ابنتها، ولو كانت تعرف رائحتها، لما قبلت بغيرها. ونساؤه الباقيات اللواتي كان يُقتلهن بعد ليلتهن الأولى لأنهنَّ لم يكنَّ يُحسنَّ الحكاية. وهو تماهٍ ظاهريّ ومخادع، الغاية منه تبرير فعل الحكي للمروي لهم، غير انها في الحقيقة تتحرك باتجاه المختلفات، وباتجاه ماري وتتقبل التغييرات التي تجريها على حياتها ومستقبلها. وان كانت ترفض خيار الهجرة إلى النهاية. وهي فيما تعاقب زينب بالموت لخطأها تجاهها، وعدم تميزها لابنتها عنها، فإنها تعاقب نفسها بولادة (زينب) معاقة ذهنياً من إبراهيم الذي يشبه أباها الخطأ محمد في سلوكه وقسوته وتخلفه. ولأنها لم تقبل رأي ماري فيه.
تنبني سردية رواية زينب وماري وياسمين على اختراع تماثلية متوهمة مع ذوات أخرى غير الساردة تكون بمثابة القناع الذي يوظف لإدامة الحكي وإطالته وتأجيل نهايته وتوجيهها باتجاه غير الاتجاه المتوقع منه، وهو ما يلاحظ في النهاية الرمزية للرواية حيث تتخلى ياسمين عن حجاب زينب ابنتها في المصحة ولا ترغب في العودة لأخذه.
وهو ما يعني المضي خطوة باتجاه الابتعاد عن أساليب السردية النسوية القائمة على المباشرة في تبني صوت الذات وهمومها وهواجسها، والتعبير عن فرادتها، وحدّة موقفها من الحياة والعالم ووضوحه مما يجعلها في حالة مواجه وصدام مع العالم الخارجي. الشيء الذي لا نراه هنا فالجميع في نظر ياسمين لهم العذر في تصرفاتهم بمن فيهم مصطفى ومحمد. وحتى إبراهيم الذي لم يستطع التعايش مع انقسام الساردة إلى مجموعة من الذوات ليطلقها ويتهمها بالجنون ويحاول استرداد ابنته منها. وبذلك تحقق الساردة مزجاً ذكياً بين دور الأنثى الساردة التقليدي الذي يقوم على اختلاق الحكايات الغريبة عنها بهدف تشويق المروي له وتأجيل موتها. فهي تمارس دورها الإمتاعي، ولكنْ اللغويّ بديلاً عن دورها الجسديّ العاديّ الذي اتضحت خيانته.. وبين دور الأنثى الساردة حديثا في السردية النسوية التي تعلن انفصالها عن الإرسالية السردية القديمة ورفضها إمتاع المروي له الذكر مقابل منحها فرصة الحياة. انها تروي حكايتها الخاصة وتُعلن عن موقفها ورؤيتها للعالم ورغبتها في تغييره للعيش فيه بعد تعديله وإعادة اقتراحه وفق تراتبية جديدة. وهذا الأمر على اهميته لم يمنع سرديات الأنثى من السقوط في شرك التكرار واجترار المقولات ذاتها، كما انه كان يبعد الرواية عن مناقشة التفاصيل الإنسانية التي تشكل حياة المجتمع وتقلباتها المتلاحقة، مناقشة موضوعية.
تبدو ياسمين لمن يقرأ الرواية كابنة صغرى لشهريار (مسكوت عنها في ألف ليلة وليلة) فوجئت ذات يوم بواقعة مقتل واحدة من نساء أبيها بيده، لتعاود في الليالي الأخرى التربص ومشاهدة ذات الواقعة تتكرر، وتقوم هي بعد ذلك برواية واقعة موت غيرها ليكون الموت (أو الخطأ)هو الحكاية والحياة معا وهو ما تقترحه في نهاية الرواية ياسمين، التي تتمسك بدورها راوية في حين تُسْلُم قصتها لأسامي المثقفة والكاتبة الستينية التي تقوم بكتابتها ونشرها فيما بعد.
فليست ياسمين مسؤولة عن الخطأ، كما انها غير مطالبة بإصلاحه وإعادة التوازن إلى العالم والثقة به (كما كان على شهرزاد أن تفعل). ولكنّها في المقابل لا تستطيع أنْ تصمت على ما شهدت منحازةً إلى الحياة خارج مخدع شهريار، أو أمل الحياة خارجاً على الأقل.