حلم وردي – حاتم الصكر

لحظتان سرديتان: ميسلون هادي وحلم عالمها الروائي. د.حاتم الصكر مساهمة في ملف الاحتفاء بتجربة الكاتبة ميسلون هادي-جريدة الزمان -ملحق ألف ياء-2011 الاحتفاء بكاتبة كميسلون هادي يعد تمجيدا للكد الذاتي والحديث الأسلوبي بعيدا عن التصنيفات التقليدية التي تؤطر تجارب الكتاب في العادة. هنا نحن إزاء سرد ينبثق من موضوعه وأسلوبه بتضام واصطفاف يجعل متن السرد موقفا ورؤية ووعيا بعالم يقدم معروضاته المغرية أمام أعين الساردين، لكنه يخبئ أسراره عمن لا يراه عميقا ويتأمله ويمثله فنيا بعد أن قام بتمثله واستيعاب زواياه وخفاياه ، بدل الاكتفاء بسطوحه وظواهره العابرة و مظاهره الخارجية. كمساهمة في هذا الاحتفاء المستحق آثرت العودة إلى عملين للكاتبة  بينهما زمن في حساب تاريخ كتابتهما هما: (العالم ناقصا واحد) و (حلم وردي فاتح اللون ) وكان اختيارهما نظرا لأنني أرى فيهما تأكيدا لمقدمتي  الآنفة عن عمق السرد المتسلح بالرؤية والموقف والمبصر في جوهر الأشياء ودلالاتها وانعكاساتها على الشخوص كذوات بشرية  لها معاناتها وخصوصيتها.   1- لا شك في أن العسف والعنف والحروب المتتالية والاحتلال هي من ضمن المشغّلات المهمة والفاعلة في الرواية العراقية التي لا يزال للفرد وأزماته وإشكالاته مكانا واضحا فيها ،حيث تنعكس معاناته في إطار الطوفان الهائل من النكبات والخسائر التي يسهم السرد الحديث في ترميمها وتخفيف وقعها وإعادة تمثيلها وعرضها . وتمثل الحرب دافعا للكتابات الروائية التي  نبهت للجانب اللا إنساني في الحرب  وتبعاتها المدمرة على الأفراد الذين تتركهم مهزومين  حتى في حال توهم النصر أو نتيجة المعارك على الأرض التي سينالها نصيب من شظايا الحروب وآلات الدمار المستخدمة فيها .   ،وهذا ما تقدمه ميسلون هادي في روايتها (العالم ناقصا واحد)(22) وعبر فقد الأب لابنه الطيار  علي وعدم تصديقه لغيابه وبحثه عن مصيره واختلاط أجزاء من جثته بزميل له..وهذا واقع اتسمت به حروب العراق المتكررة في العقود السابقة وما أكلته ن أرواح البشر وأجسادهم فصارت للناس قصص تبدو من قبيل الغرائبي كعودة الجندي المفقود بعد دفن أهله لما يتصورون أنه جثته ،وزواج امرأته بعد يئسها نت عودته وتبليغها بفقده نهائيا ثم مجيئه المفاجئ . وهي رواية تتعالى على الفقد بصبر عجيب ترى فيه الأم بوعي يبدو أنه متسلل من وعي الكاتبة ذاتها بأن يوم موت ولدها واحد هو يوم دخول جنازته ، لكن أيام حياته ممتدة بعيدا وطويلا في ذكرياته وآثاره .. (فكل شيء في البيت يشي بآثار حياة علي لا بآثار موته ) وهذا معادل رمزي ومكافأة سردية لغياب الابن ك فهو موجود صوتا وذكرى ووجودا عبر أشيائه ولمساته وحضوره في  ذاكرة أسرته . وفي الرواية نلاحظ نزعة المشاركة التي تميز الروايات ذات الطابع الإنساني  مجسدة بسؤال الأطفال عن علي وتجمع نساء الحي ورجاله حول تابوت الابن، وهي  إشارات تفتح قليلا من عتمة الألم التي تشيعها كوابيس الموت الذي سترفضه الكاتبة وتنتصر لشعلة الحياة التي لم تستطع إطفاءَها الحرب وجرائم مشعليها ، وذلك باصطناع نهاية تبعث الأمل بعودة الابن ولكن في ضمير والده وفي وعيه المرمز عنه بالرأس. فثمة (موطئ  قدم للأمل الحي الممكن..هكذا انفتح القبر من جديد..وهكذا سيظل فاغرا فمه في رأس الأب إلى الأبد). لقد تناغمت رؤى الكاتبة مع ترددات عواطف شخصياتها ومشاعرهم، وعكس ضعفهم إزاء الموت وهروبهم إلى اصطناع الأمل جزءا من مسكوت عنه لم تستطع المتون السردية العراقية المكتوبة  في الداخل خاصة خلال الحروب المتكررة في العراق أن تبوح به مباشرة لأسباب مفهومة منها الخوف من تصنيفهم كمعادين لأوطانهم التي قادها الحكام إلى تلك المحارق الشعارية المليئة بالموت ، فلجأت إلى الإيحاء وتلوين مشاهد السرد ومحاوراته بما يشي به ذلك المصير الدموي للحرب كأسوأ اختراع بشري لا يفلح في  تبرير فقد الأرواح واختفاء الأحبة وتدمير الحياة.. 2- هل من مكان للحلم  وردياً كان  أو بلا لون  في وطن جريح  عاش  كل تلك الكوارث والنكبات والنزف المتواصل ؟ تحس ميسلون هادي بحرج ذلك الوعد الحلمي فتخفف تفاؤلها الذي قد يوحيه عنوان روايتها  ( حلم وردي فاتح اللون) حلم يمتد طويلا وممزقا على مدى صفحات الرواية ، ينتظره القارئ بشغف ، كما ترقبه  الدكتورة فادية  أستاذة الطفيليات من بيتها الأسطوري بقِدمه ووحشته لكنها مع ذلك ترممه لتسكن فيه بعد عودتها من الاغتراب لغرض التدريس في الجبل الأخضر بليبيا، وتنظر من عزلتها تلك – و عبر دورها كساردة- مشاركة في الفعل  متغيرات الشارع العراقي والبيوت المجاورة التي يسكنها نساء ورجال ، حرصت الكاتبة أن يكونوا ممثلين لشرائح المجتمع العراقي متعدد الإثنيات والأديان والمذاهب كتأكيد لوعي الكاتبة بالمشاركة والتقاسم الاجتماعي الذي تذوب في فضائه الفوارق بين الأفراد سواء بسبب تنوع أديانهم أو مذاهبهم أو قومياتهم .  ولئن تباعدت الأهواء والأحلام بين الناس شيئا فشيئا  بسبب الضغوط المسلطة على الأافراد وما حل بهم من كوارث وما تعرضت له مصائرهم وحيواتهم من مخاطر  ، فإن  الرواية  تبني عبر عالمها الورقي المتخيل مصالحات كثيرة بين البشر قبل أن تسكن نفوسهم البغضاء وتصفية حسابات لا ذنب لهم فيها غالبا..بل هي تعكس وعيا متدنيا نما بسبب التخلف الذي حملته  الأنظمة ومصلحتها القائمة على تعميق الفوارق وإظهارها كهويات وانتماءات تفود وعي البشر ومواقفهم . بشر  في معازل اضطرارية بسبب العسف والاحتلال والخوف من الموت الممتد على أرضية الشوارع وأسطح البيوت وعبر النوافذ ، وحين ينتهي بلدهم بعد الحروب والعسف ومصادرة الحريات إلى الاحتلال يغدون  مقاومين  للاحتلال كبلورة  و تجسيد لأحلامهم  بالحرية والخلاص وهو ما ضمته   فصول الرواية حيث  تتكفل الساردة  بعرضها بعد أن تفرغت لحياتها الخاصة وغدت وحيدة في زمن موحش وقاس تحف به نذر الموت في كل خطوة : من الغرفة التي ترصد فيها الخارج حتى الطريق إلى الكلية وبيوت الجيران..وهنا يصبح المكان مناسبة لعرض الحدث وانعكاسه على وعي الساردة –الأنثى التي تحظى حتى في الظروف الاعتيادية بنصيب من التهميش والإقصاء ما ستزيده الحرب ويعمقه الاحتلال وتقيد الظروف الأمنية حرية الساردة في التنقل واللقاء بمن تريد زيارتهم من الأهل والجيران. الحب  كتعويض سردي عن خسائر الروح والجسد لا يتأخر كثيرا عن مشاهد العنف والوحشة في الرواية ، وهذه سمة تميز ما كُتب من روايات حول راهن اللحظة العراقية الملتبسة ، فهو يأتي كحلم أو ذكرى من ذلك الزمن الذي كانت فيه النفوس رائقة متفرغة للمحبة وتداعيتها، لكن الحبيب ليس سوى ضيف طارئ ، إنه ياسر شاب مطلوب من الأمريكان لأن صديقه المترجم وشى به فتصحبه أمه ليختبئ في بيت فادية ، وكما يحصل في السرد المتصل بالقهر والخوف لا ينمو هذا الحب إلا بصعوبة ، بل  لا يظل منه إلا ما يظل في حلم : لمسة عابرة  متأخرة تختزل دفقة حب ستفضحه الرسائل التي يكتبها ياسر من سجنه حين لم تنفع تخفياته بثياب الاحتفال  البيض   في أحد أعياد طائفة  الصابئة . لقد كان حبا (من النظرة الأخيرة) تقول الساردة حين تسألها صديقتها إن كان حبها لياسر من النظرة الأولى. وذلك هو حال المحبين في زمن التبعثر والوحشية وما يحيط بهم من مظاهر حشدتها الكاتبة بمهارة: تقاليد وأعياد وطقوس وتفاصيل أمكنة  ومداهمات المحتلين للبيوت والصدف التي تهب المطارَد فرصة الحياة  فينجو من الاعتقال ويستمرئ حياة البيت وحب فادية التي ضاقت بوجوده في البداية ، و في آخر رسائله من السجن يكتب  جملة واحدة: أريد أن أرجع إلى البيت – أي الوطن في معنى من المعاني..وهو ما تؤكده الروايات العراقية المتمثلة راهن الوطن والحالمة بغده ..شان عمل ميسلون هادي المدهش في تمثله لأعماق الشخصيات ونبض المكان ودفق اللحظة الزمنية الماثلة. 20-3-2011  

عن fatimahassann23

شاهد أيضاً

ميسلون هادئ……غزارة الإنتاج وبراعة الأداء.

ميسلون هادئ……غزارة الإنتاج وبراعة الأداءمن الأحداث الفارقة والمائزة في حياتي،هو اللقاء بالروائية المبدعة ميسلون هادي، …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *