حفيد البي بي سي ” : المنظور النسوي لتأثيث المتحف الحي للذاكرة العراقية
فاضل ثامر
مجلة ميريت عدد 21 آذار 2021
رواية ” حفيد البي بي سي ” للروائية ميسلون هادي (2011 ) رواية إستثنائية في قدرتها على توظيف عناصر المفارقة والسخرية والضحك والكوميديا السوداء والهجاء على إمتداد الرواية ، وهي عناصر أكسبت الرواية مسحة كرنفالية ساخرة على تعبير ميخائيل باختين . وبالاضافة الى ذلك فقد عمدت الروائية الى إكساب روايتها ملامح السرد الحكائي الشفاهي المتناسل على طريقة “الف ليلة وليلة ” وتحديداً من خلال إختيار بطلة للرواية تحمل إسم شهرزاد ، وهي مولعة بتقديم سلسلة لا تنتهي من الحكايات والمرويات عن عصرها واحداثه . وبدت لنا هذه البطلة في البداية ، بلا عمر محدد ، وبلا تاريخ ولادة ، أو وفاة ، ربما للاشارة الى لا زمنيتها ، وكونها تملك سلطة التاريخ عبر منظور انثوي ، لاعادة كتابة تاريخ العراق السياسي والثقافي والاجتماعي بمجسات أنثوية ساخرة. لكن الروائية تحسم هذا الغياب من خلال تحديد تاريخ ولادتها في الفصل التاسع عشر عام. وغطت الرواية مرحلة طويلة من تاريخ العراق السياسي والاجتماعي والثقافي ، بدءاً من الحياة تحت ظل العصملي العثماني ، وحتى الاحتلال الامريكي عام ٢٠٠٣ ، وهي فترة تزيد على الثمالنية عقود . ومن الواضح أن إختيار اسم شهرزاد ، لبطلة الرواية لم يكن عفوياً ، فقد كانت الرواية بمثابة حكايات متصلة تنطلق من بنية إطارية واحدة ، عبر مخيال انثوي وشعبي ، تمثل قراءة بديلة للتاريخ عبر منظور جديد . وتشير الرواية الى حالة التماهي بين شهرزاد ألف ليلة وليلة وشهرزاد الرواية في أكثر من موضع ومنها رد شهرزاد على نورية بغضب ، برغبتها في مواصلة الكلام المباح حتى يأتي الصباح :
– ” العنطزة ضرورة ملحة عندما يكون القلب محطماً : فدعيني أتشبه بها حتى يأتي الصباح ، فأسكت عن الكلام المباح .” (ص 152 )
تبدو الرواية ، في بدايتها وكأنها ذات بنية حكائية شفاهية غير مبأرة ، وتحديداً من خلال هيمنة الراوي العليم الذي يوظف ضمير الغائب:
” هناك ولدت شهرزاد الى الجنوب من بغداد والشمال من البصرة ..في المنطقة التي سميت فيما بعد بالناصرية ، نسبة الى أمير عربي . ” (ص 13 )
لكن السرد يتحول لاحقاً الى سرد مبأر من خلال توظيف ضمير الغيبة (هو) الذي هو (أنا الراوي الغائب ) كما يذهب الى ذلك تودوروف . ففي الفصل الثالث نجد حفيد شهرزاد عبد الحليم بن شعيط ، الذي سينوب عن جدته شهرزاد في سرد مرويات وحكايات أخرى في منولوج داخلي:
” بومة .. كيف ضيعت تلك الفرصة من يدك قبل سنوات ؟ في ذلك اليوم الأغبر الذي تحركت فيه الحافلة قبل أن يصلها ، كادت روحه ان تطلع فوق الدكة الحجرية المخصصة للانتظار .” (ص 437 )
وعبد الحليم ، ليس هو الوحيد الذي يقدم مثل هذا السرد المبأر ، فمعظم شخصيات الرواية الثانوية وبشكل خاص شخصيتي الفنان (بدر ) و (منار ) الموظفين في المكتبة الوطنية ، تقدم مثل هذا السرد المبأر ، في تناغم تعددي بوليفوني يجعل من الرواية فضاءً للأسلبة اللغوية والتعدد الصوتي ، فضلاً عن هذا التوظيف الحي للموروثات والحكايات والأمثال الشعبية العراقية من قبل شهرزاد، الساردة الرئيسة في الرواية ، التي ظلت تهيمن على السرد ، وعلى المنظور الساخر القائم على المفارقة والتورية والكوميديا السوداء. لذال لم يكن من المتوقع أن يحمل عنوان الرواية إسم الحفيد الرقيب عبد الحليم شعيط ، الذي ظل شخصية هامشية وسلبية ، وبعيد الى حد كبير من خفة الظل وروح الانفتاح والمشاكسة التي طبعت شخصية شهرزاد، والتي كان ينبغي أن يحمل عنوان الرواية إسمها ، وربما يمثل عنوان الفصل الثاني “شهرزاد التي رأت ” ، الذي يفترض أن يكون عنواناً للفصل الاول ، هو العلامة المميزة للسرد الروائي بكامله . إذْ تحاول شهرزاد ، أن تقدم سياحة أفقية وعمودية ، داخل المشهد التاريخي الثقافي والاجتماعي والسياسي لفترة تمتد الى مايقارب القرن تقريباً، عبر منظور ساخر يعتمد بنية المفارقة الساخرة في الغالب ، وأحياناً من خلال توظيف عنصر السخرية ، و الكوميديا السوداء . إذ تقدم لنا الرواية من خلال بطلة الرواية الرئيسة (شهرزاد) وقائع تاريخية مهمة من تطور المجتمع العراقي منذ اواخر العهد العثماني ( العصملي ) وتأسيس الدولة العراقية ، وظهور الراديو والاذاعة ، وصولاً الى سنوات الاحتلال الاولى الامريكي. وتحتل الاذاعة مكانة خاصة في تشكيل وعي البطلة ، وبشكل خاص من خلال تعلقها باذاعة (البي بي سي) يومياً ، التي تعدها أوثق مصدر لاستقاء أخبار العالم ، وهو موقف كان يشاركها فيه العديد من السياسيين والاعلاميين والمثقفين العراقيين الذين كانوا يتباهون آنذاك بالاعتماد على موثوقية ما تبثه هيئة الاذاعة البريطانية . لكن (شهرزاد) تطعن في فترات اخرى بمصداقية البي بي سي وموضوعيتها ، وتتهمها بالانحياز الى أعداء العرب في معاركهم التاريخية الكثيرة . كما أن من أشكال المفارقة أن تحاول (شهرزاد ) التماهي مع شخصية ملكة بريطانيا اليزابيت الثانية والتشبه في ملبسها ومظهرها
وكشفت الرواية عن فهم يستحق الاعجاب ، بالموروثات الشعبية والفولكلورية العراقية التي كان يتداولها العراقيون في مراحل مختلفة من حياتهم . ويمكن القول أن الرواية كانت بمثابة موسوعة تاريخية وسياسية وأنثرولوجية شاملة عن تاريخ العراق في القرن العشرين بشكل خاص وتاريخ العراق بشكل عام إذ مرت على جميع المراحل السياسية ، وادانت بشجاعة وموضوعية ، مظاهر الاستبداد والقمع والدكتاتورية التي سادت في بعض مراحل التطور السياسي مثل الجرائم السوداء التي أرتكبت في انقلاب الثامن من شباط 1963 ، وتوقفت طويلاً عند الفترة الصدامية وآثارها المدمرة على حياة المجتمع العراقي ، كما عكست صوراً نموذجية دالة على جرائم الاحتلال الامريكي للعراق ، وأختتمتها بمشهد يمهد لصعود الاسلام السياسي المتطرف وهيمنته على حياة المجتمع العراقي،يتمثل في اللقطة الختامية في الرواية عندما يقطع على (منار) تأملاتها موظف جديد في المكتبة الوطنية،
حياها بلطف ، لكنه لم يمد لها يده ، عندما مدت يدها لتصافحه ،بل سحبها ووضعها جانباً :
” ولكن الموظف الجديد لم يمدّ لها يده ، بل سحبها ووضعها جانباً على صدره ، لكي لا يصافحها ، وقال لها وهو يمسح لحيته السوداء كالفحم :
– عليكم السلام ورحمة الله وبركاته .” (ص 286 )
وهذا المشهد الصادم ، سلوكياً وثقافياً ، بالنسبة لمنار ينطوي عند تلقيه على مفارقة ساخرة ، وتفتح الباب أمام تأويلات وحوارات داخلية ، ربما مشاكسة من طرف (منار ) ، لكن الروائية أغلقت باب السرد لتترك القارئ أيضاً أمام صدمة التغيير. .
لقد كشفت الروائية عن أسلوب سردي يتميز بالخفة والرشاقة ، يتراوح بين مستوى بلاغي رفيع ويهبط الى مستوى صحفي ، وأحياناً سوقي ، وكأنها تريد أن تحقق الهدف من عتبتها النصية الوحيدة المستقاة من الاهداء الذي قدم به ابن المقفع كتابه “كليلة ودمنة ” عن وظيفة الكتاب ورسالته : ليكون ظاهره لهواً للخواص والعوام ، وباطنه رياضة للعقول والخاصة ” فالرواية نص حمال أوجه ، كما يقال ، وهو يحمل إمكانيات القراءة المختلفة والتأويلات اللا نهائية ، كما يتوجه برسالته الى جميع الفئات الثقافية والمستويات العمرية . وهذه اللعبة تضعنا وجهاً لوجه مع رؤيا الروائية القائمة على لون من المفارقة الساخرة والمحاكاة الساخرة (باروديا ) ، وربما في دمجها معاً في مصطلح حديث جرى تداوله مؤخراً. ولتبسيط الأمور يمكن أن نقول أن المفارقة الساخرة قد تنطوي على عكس معناها ، حيث يحيل المعنى المباشر الى معنى آخر . وقد تنهض المفارقة الساخرة على أساس التلاعب اللفظي واللغوي ، أو على مستوى الموقف ، كما هو الحال في الدراما . كما نجد تفريعاً آخر للمفارقة الساخرة، في المسرح خاصةً، يتمثل في المفارقة الساخرة الدرامية ، عندما يكون المعنى مفهوماً من قبل المشاهدين ، ولكن ليس من قبل شخصيات المسرحية . ومن المعروف أن مسرحية (أوديب ملكاً) لسوفوكليس تحفل بمشاهد من هذا النوع ، منها أن المتفرجين يعلمون بالحقيقة المرة وهي أن أوديب هو قاتل أبيه، بينما يجهلها (أوديب ) نفسه. .
ومن الامثلة البارزة التي قدمتها الروائية لمفهوم المفارقة الساخرة الخطاب الساخر الذي وجهته (منار ) الى عبد الحليم وهي تخاطبه معبرةً عن رأيها في شخصية (بدر) المتمردة ، والخلافية في آن واحد:
” لا أقصد هذا يا أستاذ (…) ولكني أقصد إنه لطيف ودافئ .” (ص 83 ) \
وواضح هنا أن كلمة “يا أستاذ ” تنطوي على مفارقة ساخرة لأنها تعني العكس ، وتحديداً تعني ياغبي . ولهذا فقد فضلت الروائية أن تدرج هذا التفسير المبطن داخل قولها ، وكأنها تلفظه بصمت ، أو في داخلها ، ربما لمساعدة القارئ من جهة لادراك المرمى الحقيقي للقول الظاهر ، ولتأكيد الطبيعة الساخرة لخطابها . وفضلاً عن ذلك ، نجد العشرات من التعابير والصيغ التي تطلقها شهرزاد أو بقية الشخصيات وهي تنطوي في الجوهر على عكسها ، مثل الحديث عن صدام حسين بوصفه ” القائد العظيم ” (ص 61 ) ، وايراد كلمة “الواحد” من قبل (منار ) واستفسارها من عبد الحليم عن المقصود بالواحد ، الذي يحيل الى صدام حسين أو نيوتن ، لكن جواب عبد الحليم يكشف عن غباء وعدم تركيز يثير السخرية عندما يجيب:
– ” نعم .. أعرف هذا الواحد ، وتلفونه في جيبي . ” (ص 92 )
أما مفهوم الباروديا أو المحاكاة الساخرة ، فتنطوي على محاكاة عمل آخر بقصد السخرية . وترى الناقدة (لندا هتشبون ) في كتاب لها عن المحاكاة الساخرة تكشف عن تشفير مزدوج ، بالمصطلح السياسي ، فهي “تشرعن ” الباروديا وتسفهها في الوقت ذاته من خلال إستحضار مقتبسات ساخرة أو تناصات . وتلاحظ هذه الناقدة أن مفهوم الباروديا من المفاهيم الاساسية التي تعنى بها ما بعد الحداثة . ويذهب ميخائيل باختين الى أن الباروديا هي من أقوى الأساليب التي تحقق التفاعل بين النصوص على مستوى اللغة ، حيث يرى أن الباروديا تمثل حضور نصي سابق في نص لاحق على مستوى الملفوظات والصيغ التعبيرية ، وأن هذا اللا توافق بين لغة النص السابق ، والنص اللاحق هو ما يحقق المحاكاة الساخرة ، ويهدف الى فضح النصوص السابقة وتحطيمها . وتلمح جوليا كرستيفا من خلال قاعدة ” التحويل ” أن كل نص هو إمتصاص وتحويل ونفي لنصوص أخرى ، وهو ما يسوّغ القول بأن الباروديا تفتح منافذ إتصالية مع التناص. .
ويمكن القول أن تقديم شخصية الدكتاتور في السينما هو مثال على الباروديا أو المحاكاة الساخرة ، كما وجدنا ذلك في فيلم ” الدكتاتور العظيم ” لجارلي جابلن (1940 ) عن هتلر و “الدكتاتور ” (2012 ) عن القذافي وصدام حسين ومسرحية ” الزعيم ” لعادل إمام وغيرذلك كثير.
أما مفهوم الكوميديا السوداء أو المظلمة فهو من المفاهيم والآليات الحديثة الموظفة لتصوير المشاهد العنيفة والقاسية مثل الحروب والجرائم والخيانة الزوجية والانتحار والانقلابات العسكرية والاغتصاب والارهاب ، وأكل لحوم البشر ، وغيرها من التابوات أو الممنوعات عبر منظور محايد وبارد بعيداً عن الحس الفجائعي.
ومع أن (الويكيبيديا) تؤرخ لظهور هذا المفهوم في السينما مع ظهور فيلم (حب غريب ) والذي يدور حول إلقاء القنبلة الذرية وانهاء الحياة البشرية بطريقة باردة وساخرة ، فإن هناك من يذهب الى أن المفهوم نشأ في زمن أسبق ، إذْ سبق للشاعر السوريالي اندريه بريتون وأن نشر كتاباً تحت عنوان “مختارات من الكوميديا السوداء ” وهناك من يبحث عن جذور أبعد تمتد الى القرن الثامن عشر والشاعر جوناثان.
وفي رواية ميسلون هادي ، قدمت الكثير من المشاهد المؤلمة والقاسية من خلال منظور الكوميديا السوداء منها مقتل الرئيس العراقي عبد السلام عارف في حادث سقوط طائرته السمتية في البصرة ، من خلال تقديم صورة كاريكاتيرية للرئيس ولتصرفاته وأقواله ، واختزال مقتله بكلمة ساخرة شاعت بين الناس آنذاك هي ” صعد لحم ، نزل فحم ” كما قدمت الروائية الكثير من الجرائم التي ارتكبها صدام حسين وتلك التي ارتكبتها قوات الاحتلال الأمريكي عبر هذا المنظور الكوميدي الساخر.
رواية ” حفيد البي بي سي ” محتشدة بالرموز والدلالات والايحاءات والأحالات ذات الطابع الميثولوجي أو الفولكلوري ، ويتبدى ذلك من خلال توظيف اللغة التي تحولت الى حقل مفخخ بالمفردات الساخرة ، ومنها عنوانات الفصول ، وأسماء الشخصيات أمثال : شعيط ومعيط وجرار الخيط ، بالمشمش ، فحل التوت ، شريف روما ، حلبوصة ، حسون الامريكي ، حية وبطنج ، وغيرها كثير . وقد لا حظنا إقتران هذه الملفوظات بالشخصيات الروائية الأساسية التي ضمتها الرواية وفي مقدمتها شخصية (شهرزاد ) الحكاءة الأساسية في الرواية التي تحولت الى أسطورة لا زمنية لمعايشتها لمراحل تاريخية عديدة ، وحفيدها عبد الحليم شعيط الذي يفترض فيه إستلام خيط السرد من جدته ليبرر إدراج إسمه عنواناً للرواية ، بديلاً عن إسم جدته ، الجدير بالعنونة ، و(منار) الموظفة في المكتبة الوطنية التي تحمل أفكاراً تنويرية وتطلق تعليقات ساخرة وجريئة تحرج فيها زميلها ( عبد الحليم شعيط ) ، و (بدر ) إنموذج للفنان التنويري المتمرد حد البوهيمية.
وبذا فالروائية نجحت في تقديم أربعة نماذج -على الأقل، ولا أقول أنماط – من الشخصيات الروائية ، لكل شخصية منظورها الخاص في الحياة ، وهذه المنظورات تتفاعل تارةً وتتقاطع تارةً اخرى لتشكل الفضاء الثقافي للرواية. شخصية شهرزاد ، هي الشخصية المركزية المهيمنة ، وعلى الرغم من ولادتها في الناصرية ، فهي اقرب ما تكون الى الشخصية البغدادية بوعيها وثقافتها الموسوعية وإقبالها على الحياة ، وعلى كل ما هو جديد ومنفتح . ويبدو لي أن شخصية شهرزاد هي جماع عدد من الشخصيات الثقافية في آن واحد ، فهي شخصية مركبة وديناميكية ، مشبعة بالتاريخ الثقافي والسياسي والاجتماعي العراقي والعربي ، وهي أقرب ما تكون الى الاسطرة ، وربما هي كناية عن الذاكرة البغدادية والعراقية ، ويمثلها منظورها الحياتي مرقاباً نقدياً على حركة الحياة والافكار والفنون طيلة ما يقرب من القرن،وترميزاً عن المنظور النسوي الجرئ للرواية . ومن الجهة الاخرى ، فهي شخصية مباشرة ومنفتحة وصريحة وانبساطية ، وخفيفة الظل ، ولا تنطوي على مخاتلة أو تعقيد ، وهي تتقبل الرأي والرأي الآخر ، لذا استحقت أن تكون عنواناً للرواية ، وليس حفيدها عبد الحليم شعيط الذي بدا إنطوائياً وقلقاً ومغلقاً ، ولا يمتلك خفة الظل التي لدى جدته (شهرزاد) ، وهو غالباً ما يميل الى إقصاء الخصوم الفكريين والمعارضين لرأي الحزب الحاكم الذي ينتمي إليه ، حتى تحول الى بيدق فكري صريح ينفذ سياسة الحزب الأيديولوجية بجمود وتصلب ، كما تجلى ذلك في طريقته بوصفه رقيباً ، في مراقبة الأعمال المسرحية والادبية وخشيته من أي رأي يتعارض وسياسة حزبه الذي لا يؤمن بحريسة التعبير ، ويميل لفرض الرأي الواحد . وبدا ضيق الأفق ومنغلقاً في حواراته مع زميليه في العمل في المكتبة الوطنية (منار ) و(بدر) ، وغالباً ما كالن يتهمهما بالشيوعية ، بسبب الأفكار والآراء الجريئة التي كانا يطلقانها أثناء الحوارات ، وبشكل خاص المقالب التي كانا يمررانها عليه،كما كشف بعد الاحتلال عن نزعة انتهازية ووصولية من خلال تملقه الرخيص للادارة البريطانية لكي يضمن حصوله على اللجوء السياسي.
وتقف شخصيا (بدر ) و (منار ) في القطب الآخر من ثنائية الجدة والحفيد ، فهما مدنيان وأكثر ميلاً الى التنوير والانفتاح ويعبران بصورة أو بأخرى عن المزاج الثقافي لشريحة الانتلجنسيا العراقية . فشخصية (بدر) صورة للمثقف المتمرد ، وربما العدمي ، الذي لم يعد يؤمن بشيء ، ولذا فهو يطلق أحكاماً قد تقود الى السجن أو الموت . ومن الواضح إنه لا يطيق الحياة في ظل نظام إستبدادي متسلط ، ولذا كان يخطط بصمت للهجرة خارج العراق ، حيث نجده بعد الاحتلال ، يطل عبر وسائل الاعلام الأجنبية مع إطلالة عبد الحليم شعيط ، ولكن مع الحفاظ على شخصية النهلستية (العدمية) الساخرة ، التي صدمت زميلته (منار ) عندما شاهدته في الفضائيات:
” اما بدر فقد أرتج على منار ولم تعد تعرف التعبير الجديد الذي انطبع على وجهه .. هل هو التعبير الذي أسماه سارتر (أمل اليائسين ) أم أنه تعبير الداخلين اليها بدون أمل كما يقول دانتي ” (ص 282 ) . ويمثل (بدر ) إنموذجاً شائعاً للمثقف والفنان والكاتب المستقل الذي مزقته سياسة نظام الاستبداد الدكتاتوري ودفعته به للهرب خارج الوطن ، تخلصاً من سيف الجلاد وتقارير العسس وكتاب المخابرات.
ومن هنا نرى أن الروائية ميسلون هادي قد نجحت الى حد كبير في تقديم صورة بانارومية عريقة لحياة المجتمع العراقي لمدة تقرب من القرن من خلال منظور الجدة (شهرزاد) أولاً ، ومن خلال منظور ثلاث شخصيات روائية شابة غطت العقود الأخيرة التي غابت فيها الجدة ، بعد وفاتها بالسكتة القلبية . وهذا المنظور العام للرواية اتسم بالسخرية والمفارقة والمحاكاة الساخرة ، والكوميديا السوداء ، ليشكل فتحاً حياً للذاكرة العراقية ، وموسوعة غنية للتاريخ العراقي الحديث،وريادة مبكرة لنضج المنظور النسوي في اعادة قراءة التاريخ السياسي والاجتماعي والثقافي،وهو ما سنجد له لاحقاً انموذجاً روائياً متقدماً في رواية لطفية الدليمي الموسومة” عشاق وفونوغراف وأزمنة” الصادرة عام ٢٠١٦.