جائزة التوأم – بشرى البستاني

الحرب والعنف والإرهاب في الرواية النسوية العربية.

أ.د.بشرى البستاني

*** 

تزداد أهمية الرواية المعاصرة بتزايد العدوان على الشعوب والأوطان، لكونها غدت الذاكرة الحافظة لوجود المكان وتفاصيله وأهله معاً، كما صارت المدونة لتاريخ سكانه وتفاصيل حياتهم يقول أدوارد سعيد ((السرديات الروائية تحفظ التاريخ وتخبر عنه، التاريخ ليس آلة حاسبة، فهو يتفتح في العقل والمخيلة ويتجسد في الاستجابات المتعددة المتنوعة لثقافة شعب ما، هي بدورها توسط لا نهائي الرهافة واللطافة لوقائع مادية وحقائق اقتصادية ركائزية ولموضوعات تفصيلية عادية))[1] من هنا كان الاهتمام المعاصر بكتابة الرواية وبنقدها استثنائيا وكان الاهتمام بتطويرها ليس اهتماماً بالفنون الأدبية حسب ،بل غدا اهتماما بالأوطان وحفاظا على تاريخ الشعوب وذاكرة الامم بدءاً من قضاياها الكبيرة وحتى آخر وردة تطلع على شواطئ أنهارها، وكان للمرأة في المراحل الأخيرة نصيبٌ كبير في الإسهام بهذا الفن الذي كان له الدور المهم في حفظ تفاصيل حياة الأمم التي تفوق مدونات التاريخ، فهذه الأخيرة لا تهتم بالتفاصيل التي تدونها الرواية بعناية، بل تهتم  بعموم الأحداث والوقائع. ..

لقد غدا الأدب الذي تكتبه المرأة اليوم ظاهرة لها حضورها المهم وجمالياتها الخاصة ولا سيما في الرواية التي برعت الكاتبة العربية فيها بتقديم تجارب عارمة بوعي مأساوي صوّر إنسانيتها المسحوقة عبر العصور بقسر الرجل والمجتمع معاً ودوّن استلابها بكل وسائل القهر والعنف والمحاصرة التي أرهقتها وحجبت فاعليتها الخاصة والمجتمعية ، وعطلت طاقاتها، فكانت كتابتها عارمة بالرفض والإدانة وكشف المستور، وكانت كتابة المبدعات منهن تسعى لتأسيس نموذج إبداعي جديد يرفض الانضواء تحت أي نموذج من نماذج الأصوات الذكورية التي دونت تجارب الحياة من خلال رؤية الرجل الخاصة، ساعية لتأسيس توجهات جديدة عبر لغة الجرأة والإفصاح  في طرح عذابات القهر والمعاناة عبر قرون التبعية وإلغاء الذات وتهشيم الهوية أو تهميشها، لغة طوّعت ذاتها وتشكيلاتها لإرادة الكشف وفضح السلبيات  والتحيزات الايديولوجية المهيمنة على مجمل حياة المجتمع بدءاً من المناهج التعليمية ومؤسسات الاعلام وحتى الدراسات الجامعية بكل مستوياتها الأولية والعليا من أجل أن تكون ستراتيجية المجتمع العربي ستراتيجية معرفية إنسانية متفتحة وبعيدة عن كل أنواع التسلط والتحيزات. وكان لها ذلك باسلوب البوح واستدعاء ذكريات الاستلاب والمعاناة الماضية عبر المونولوج والتناوب في السرد وطرح سلبيات الحاضر توفيراً لأوسع الفرص لشخصيات الرواية النسوية كي يفصحن عن معاناتهن ، ساعية للعمل على تأسيس طرائق ورؤى جديدة تختلف عما اختطته اللغة الذكورية في تضخيم شخصية الرجل قوة وهيمنة منذ الطفولة ،وإلحاق تهم الضعف والقصور والعجز بالمرأة دون وعي دقيق بطبيعة تشكيل جسديهما وإدراك علمي لوظائف كل جسد ومهماته.

لقد شهدت المرحلة الأخيرة التي تلت النصف الثاني من القرن الماضي ظاهرة جديدة من الخصب في الكتابة النسوية لم يشهد لها التاريخ مثيلا، ليس فِي الوطن العربي حسب، بل وفي العالم بأسره،  مما يحيل على أمور جوهرية تشتغل خارج العملية الإبداعية أدبا وفنا ونتاجا عاما، أمورٍ تتصل بمجمل العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تواشجت وغزارة هذا الإنتاج، فما أن انفتحت أمام المرأة مجالات العلم والعمل والمعرفة حتى وجدنا الكثير من النساء اللواتي أكدن قدرات ومهارة فِي الميادين الَّتِي فتحت الأبواب أمامهن يبدعن ويقدمن نموذجا جديد من إنتاجات شتى، مما دفع إِلَى نهوض حقيقة جديدة تدحض ما أشاعه الفكر الذكوري عن قصور المرأة وضعفها وعجز قدراتها عن اللحاق بالرجل، تلك الحقيقة التي تؤكد أن غياب المرأة عن الحضور فِي قلب الحياة كان بسبب ما لحق بها من غبن وقمع فكري وقهر نفسي، وبسبب حجب حقوقها فِي العلم والتدريب على العمل والإسهام فِي دفع عجلة التنمية وإقصائها عن المشاركة فِي صنع القرار([2]) وليس بسبب عجز فسلجي أو نفسي أو قصور عقلي فيها،من هنا حرصت النسوية على الدعوة الى محاكمة الماضي وما وقع فيه من ظلم وتعتيم على المرأة وما تعرض له نتاجها الإبداعي من غبن وحجب، وما جرى عليه وعلى مبدعاته من تعتيم على العكس من نتاج الرجل الذي استحوذ على أضواء النقد كلها وعلى اهتمام النقاد والدارسين. لكن النهضة المعاصرة في أرجاء العالم كله معرفية وثقافية وإبداعية ومن ضمنه الوطن العربي جعلت المرأة عموماً وبضمنها المرأة العربية في قلب الأحداث الساخنة التي تعرضت وتتعرض لها الأمم ولا سيما في أقطار وطننا العربي، من هنا ستتناول هذه الدراسة نموذجين روائيين نحسب أنهما توفرتا على توجهات نسوية تتسم بوعي ونضج متوازنين لم تجنح الروائيتان فيهما لأي نوع من أنواع التطرف الذي شطحت به بعض الكاتبات العربيات سعياً وراء الجنس وهواجس الجسد، أو الوقوف من الرجل موقف التناقض والحقد والتوتر والتشنجات الثأرية مما يبعدنا عن أهدافنا في العمل على تشكيل إنسان سليم رجلاً وامرأة، و أسرة منسجمة ومجتمع متوازن. فكان النموذج الروائي الأول من العراق  للروائية ميسلون هادي،والثاني من الجزائر للروائية سامية بن دريس.

***    

تدور رواية جائزة التوأم[3] للروائية العراقية ميسلون هادي حول الكوارث الفجائعية التي ألحقها الاحتلال الأمريكي بالعراق وما جرى على أرض هذا الوطن وشعبه من كوارث طالت أرواح أبنائه ومعالمه الحضارية وحطمت بنيته التحتية والعمرانية معاً، وهي من الروايات التي تنتمي للسرديات البديلة التي عرفت بكونها ((روايات تحررية تنويرية تسعى في ممارستها الدالة إلى تفكيك الأنساق المضمرة المتحكمة في الثقافة المهيمنة وتعرية تحيزاتها الايديولوجية، ولذلك تتموضع السرديات البديلة في الحقل الثقافي العام بوصفها استراتيجية مضادة لكل صور الهيمنة الثقافية والرمزية الكامنة خلف الخطابات والممارسات الدالة في المجتمع، هذا التموضع الثقافي هو ما يحدد بنيتها النصية بكونها نقدية تفكيكية)).[4] ص30 محمد بو عزة

تعد رواية (جائزة التوأم) من الروايات التي دونت بانوراما كارثية عن وطن كان فردوسا فغدا الجحيم الذي ابتلع الأخضر واليابس، فكانت واحدة من الصور الرهيبة لمرحلة ما بعد الاحتلال الامريكي للعراق، ذلك الاحتلال الذي عاث بالعراقيين فسادا وحرقا واغتيالا وسحقا لطاقات العراق الشبابية واقتلاعا لمشاريعه الكبرى و عملا على إلغاء وجوده ومستقبله من خلال تضييع كل ما يمكن أن يشكل ركيزة نهوض لحياة شعب طال عذابه وخُطف أبناؤه وهدمت بيوته وحرقت ودُمرت مصادر رزقه. 

يقوم عنوان رواية جائزة التوأم تركيبيا على جملة اسمية حذف فيها المبتدأ الذي يحيل في أبسط تفسير له على تقدير( هذه رواية جائزة التوأم) فالعنوان من جهة المرسل هو ناتج تفاعل علاماتي بين المرسل والعمل اما المرسل فانه يدخل الى العمل من بوابة العنوان متأولاً له وموظفا خلفيته في استنطاق دواله الفقيرة عدداً وقواعدَ تركيب وسياقا ،وكثيرا ما تكون دلالية العمل هي ناتج تأويل عنوانه أو يمكن اعتبارها كذلك دون إطلاق[5]. ففي عنوان أي نص من النصوص يكمن قصدٌ وإرادة كما يؤكد الجزار[6] ، فالعنوان هو قصد المرسل الذي سيشتغل عليه داخل النص بدءاً وانتهاءً، فللعنوان علاقة وثيقة بالعمل الأدبي حيث يبث عبره مقاصده الواضحة مرة والخفية أخرى،إنه مفتاحه الدلالي مرة والتأويلي أخرى كما يؤكد أمبرتو إيكو ،فضلاً عن أنَّ للسرد في الرواية بشكل خاص علاقة أكيدة مكانية وزمانية، من قريب أو بعيد بالأجواء الخارجية التي تحيط بالعمل داخل النص.لكن الكاتب لا ينقل الواقع بآليته، بل يعمل على نمذجة اللغة التي يكتب بها.  وكثيرا ما تقوم العملية النقدية على تفكيك العنوان بأناة ،وتشريح رؤاه وخلفياته التي دفعت بالنص المدروس للتشكل من خلال تأمل الوظائف التي أناطها به المؤلف.فوظائف العنوان ليست دلالية على الدوام، بل كثيرا ماتكون إغرائية أوإغوائية أوتشويشا يصل حدّ التضليل والتعتيم الذي يعمل على تنشيط عملية التأويل كما فعل عنوان ميسلون الذي نهض بمهمة تشويقية ،وجعلنا ننتظر حتى لحظة انتهائنا من قراءة الرواية إذ التفتنا في الصفحات الأخيرة باحثين عن الجائزة التي كانت توحي على الغلاف بالبشارة، لكنها تحولت في النهاية إلى كارثة دموية. 

إن الإيحاء بدلالة جائزة عنوان الرواية تأتي على لسان الأب عبر مفارقة يلوم فيها نفسه: ( لماذا لم أطلب منه أن يأتي إلى البيت فورا بدلا من أن أقول له إن هناك مفاجأة بانتظاره، ظنت صوفي أن الفرحة ستكون كبيرة وشبيهة بالجائزة، فأية مفاجأة هذه التي أرادتها صوفي أمه، وأية جائزة حضرتها لنا الأقدار العمياء في ذلك اليوم المشؤوم) الرواية، 287 إن تأخير تفسير العنوان للصفحة ما قبل الأخيرة في الرواية كان لعبة سردية عملت على إدامة تشويق القارئ واستمرار متابعته بحثا عن سرّ الجائزة الموعود بها، لكن هذا السرّ جاء مفاجأة كارثية أعلنت عن ارتباك ما جرى ويجري في العراق من فجائع غير مبررة واختلاط الحابل بالنابل من خلال التحولات المريرة التي جرت في المجتمع، والتي حولت المسرات لكوارث مفجعة كما تحول لقاء الأسرة الموعود بالفرح الى فجيعة سوداء، فكيف تحول صخر ذلك الشاب الطيب المتعلق بوطنه المفعم بحبّ بغداد إلى إرهابي يتحزم بالمتفجرات ليشعل الحرائق قرب مطعم مكتظ بالأبرياء.!

رواية ميسلون التي حملت عبء التعبير عن أبشع مرحلة عاشها العراقيون كانت تسعى إلى فضح الإرهاب باسم التدين الذي يهدد مجتمعاتنا العربية والكشف عن خبث اشتغاله وامتهانه القتل والتفجير والحرق والخطف والتنكيل بالأبرياء. والعمل على تشويه صفاء الدين بكل ما يسيء للدين نفسه ويسيء للإنسان والإنساننية.

تشكلت هذه الرواية من ستة وأربعين فصلا، بمئتين واثنتين وتسعين صفحة، لم تكتف بعنوانها الرئيس، بل هي اتخذت لكل فصل من فصول الرواية رقماً خاصاً به، ووضعت لكل رقم موازياً نصيا تشَكل من زمان ومكان. ومتأملُ هذه الموازيات يجدها بحاجة لدراسة قائمة بذاتها لكثرتها وتنوع دلالاتها وتشعب مراميها بين الخاص والعام،بين الإنساني والمكاني والزماني والفلسفي والصوفي : شارع سجا/ لحظة سجا/ خروج مِن كل مكان/ مصباح خافت/ سعياً وراء الظل الهارب/ وبين التأملي والشعري: نخيلٌ يتحرك/ لحظة سونيا/ أعالي المكان / لحظة حنين / المكان: هنا وهناك. مما يؤكد شمولية موضوع الرواية وتنوع أمكنته وإنسانيته وما فيه من كشف للمخاطر التي تهدد كلَّ الأسس التي تقوم عليها الحياة بدءاً من تخريب الوطن وتحطيم الأسرة وحتى قتل الإنسان، لكن متأمل هذه العنوانات يجد حضور الانسان ولحظته الحركية والتكرار الوجودي للبيت قضايا طاغية على العناوين مما يؤكد بؤر الرواية التي استحوذت على المضمون وحركت محاوره المهمة.فالخطر لا يقتصر على منطقة معينة ولا يهدد شريحة من شرائح المجتمع حسب، إنه في بيوت مجمل طبقات المجتمع، في البيوت الأرضية ، في الشقق العليا،في القصور الكبيرة مما يعني أن شرائح المجتمع كلها بأثريائها وفقرائها مقصودون بهذا الخراب  ففي الرواية خليط من الشخصيات ذات الخلفيات المتنوعة، طبيب، طيار، مختص برمجيات، جدة وأم وأولاد وطفلة، شيخ عشيرة، جنود ومجهولون  يقتحمون البيوت وهناك حضور للشخصيات القادمة من الهامش أمثال بواب العمارة عصمان السوداني وزوجته ودورهما في مشاركة ابراهيم الأب ومواساته بحادث خطف ابنه صخر وغيرهم من سكان المنطقة في الكرادة ببغداد. أما عن سبب اختيار ابطال في الرواية من هذا النوع فذلك لأنهم  المحيط المناسب الذي تتشكل فيه قصة تدور أحداثها في حرب طاحنة تطول كل فئات الشعب ، فالمتفجرات لا تفرق بين حيّ وآخر، ولا بين طبقة اجتماعية عليا وأخرى متوسطة أو فقيرة ،لأنها تطلق نيرانها وحقد مفجريها على المناطق العراقية كلها..

***

لقد أعادت تفاصيل رواية (جائزة التوأم) طرح مشاعر الرجل/ الأبوة بشكلها الإنساني العاطفي حتى لو كانت ضعفا أو نوعاً من الضعف، في حين كانت الصورة المعتادة في الأدب من قبل تؤكد أن الأمومة هي المعنية بهذه الجوانب، فقد أوكل لها الرجال القضايا العاطفية والأسرية واستحوذوا لأنفسهم على مواقف القوة وصنع القرارات التي تؤدي إِلَى إحلال المرأة مكانة التابع الثانوي، والى الغض من قيمة الخبرة الخاصة بها واستصغار شأنها ،ومن ثم فان علم الأخلاق النسوي الحديث يركز على خطورة قضية الانحياز للرجل عبر التاريخ مسلطا عليها الأضواء مندداً وكاشفا عن خباياها فِي الدراسات والنظريات الفلسفية المتوارثة جيلا بعد جيل([7]) فرواية ميسلون هذه تعيد للرجل مشاعره الإنسانية الراقية وتدون عذاب الأب ابراهيم وهو يتخيل ابنه مخطوفاً بين أيدي المجرمين ((ولا زال ابراهيم يحدق بدهشة من النافذة ويبحلق في الوجوه التي تتتابع على قارعة الطريق لعله يعثر بينها على وجه ابنه صخر والتفكير في اي شيء ممكن لغيره اما بالنسبة له فانه لا يفكر سوى بصخر وحتى وان لفتت نظره بعض الاجسام والوجوه التي تعبر الشارع بشكل عشوائي فان باله مشغول ومشدوه به فقط (…..) فالتفجيرات لم تعد تعني شيئا سوى لأهالي الضحايا المساكين الذين يُقتلون فيها، ودخانها كان يصل الفضائيات فيتحول إلى أخبار عابرة، أما من كان يضعه حظه العاثر في طريق العصابات والمجرمين مثل ابني صخر ،فلا شرطة ولا أمل قوي ) الرواية 10  (أتخيل أسوأ ألوان العذاب وأشعر بكل ألم مفترض ومتخيل قد يشعر به صخر فأشعر به وأتألم ، أختنق بدلاً عنه ،وأتألم بدلا عنه وينتابني ضيق لا شبيه له إلا عندما أصحو من النوم وقد قلعت سني في الليلة الفائتة ..) الرواية 12

وحالة العذاب هذه مصاحبة للأب عبر تنقلاته في المكان والزمان، في السرير ، في البيت والشارع وعلى قارعة الطريق.

***

تبدأ الرواية من مكانٍ معين هو بيت صوفي الزوجة البريطانية التي تزوجت العراقي ابراهيم بمحبة ورضا يحيلان على علاقات انسانية منفتحة وبعيدة عن تعصبات شرق/ غرب ومسلم مسيحي وعراقي وبريطانية، وتتواصل أحداث الزوجين وأم الزوج العراقية التي تقبلت زوجة ابنها الانكليزية بشكل إنساني وبمحبة وتفاهم، بعيدا عن التعصبات وإشكالياتها، وكان تبادل الأماكن بين بغداد ومدينة دولش البريطانية يتم بغاية الانسيابية ورضا الطرفين مما يؤكد انفتاح الانسان العراقي وقدرته على التكيف والاحتواء، وحتى وجود المنغصات التي رفضتها الزوجة الانكليزية كانت تُعالج وتُحل بتفاهم وهدوء، فالعناكب التي أفزعت صوفي كانت مشكلة سرعان ما وجدت الأسرة لها حلولاً أنهتها، لكن وجود العناكب الذي انتهى تهديده على المستوى السطحي في الرواية ظل يعمل بشراسة على المستوى العميق والرمزي من البداية حتى الصفحة الأخيرة بحيث صارت العناكب التي تفتك حتى بذكورها اخطبوطاً ابتلع الأخضر واليابس في الوطن الكبير. (كل الحشرات يمكن احتمالها بالنسبة لصوفي الا العناكب التي تصيب قلبها بالهلع وتجعلها تشعر بأنها معرضة لخطر دائم يتربص بها وقد يداهمها بشكل مفاجئ، إنها تستطيع نسج خيوطها للتنقل أينما تريد ولا يمكن تفاديها)الرواية 7 .وكأنَّ صوفي كانت تشعر بقلب الأم أن هذه العناكب التي أرعبتها ستكون سبباً بتمزيق شمل أسرتها وتخريب حياتها، هكذا داهمت عناكب الشر أسرة صوفي يوم خطف ابنها صخر الذي اختار بغداد سكنا ورفض البقاء مع أمه في بريطانيا كما فعل أخوه التوأم بدر. ومع خطف الشاب صخر متقن المعلوماتية والبرمجة والعمل على الكومبيوتر تبدأ مأساة خطف العراقيين وكوارث الأهل الذين يبحثون عن أبنائهم وفجائع الآباء والأمهات التي تبدع الرواية في تصوير عذاباتهم وفتك قلقهم وتمزقهم في انتظار مصير أبنائهم.

 فالعنكبوت التي أفزعت صوفي تعيش في جميع المناطق وعلى مختلف الارتفاعات، ومما زاد من انتشارها على سطح الكرة الأرضيّة قدرتها على العيش في جميع الظروف المناخيّة، حيث الأنواع الكثيرة منها تجعل كل نوعٍ يتكيّف مع المناخات المختلفة. وتختلف أنواع العناكب في قدرتها على أذى الإنسان، فبعض الأنواع تُعدُّ خطيرةً جداً، ويمكن أن تسبب الموت في حال لدغها مثل الأرملة السوداء والعنكبوت الأحمر.[8]كل الحشرات يمكن احتمالها بالنسبة لصوفي الا العناكب التي تكاد تصيب قلبها بالهلع وكأن هذه الأم شعرت بحاسة الأمومة أن هذه العناكب التي انتشرت في أرجاء بيتها هي التي ستهدم أسرتها وتحيل حياتها الى ثكل وفقدان فقد امتدت يد الخطف الذي عم كل أرجاء العراق الى ابنها بدر، ومع خطف بدر وشباب العراق تبدأ معاناة العراقيين الدامية وعذابهم الذي مازال قائماً حتى اليوم.

إن ضعف العناكب  يرمز لواقع خداع ، فنسيجه ضعيف المنظر لكنه يتصف بالقوة ولذلك فهو يرمز لواقع وهمي لأنه يبدو واهياً، لكنه متسلل ينسج خيوطا بغاية الشدة، فهو قادر على التسلق والاشتباك للهيمنة على ما حوله.كأولئك الذين جاؤوا باسم الدين فأحالوا الوطن إلى خراب. وهكذا ينسج الشرُّ خيوطه في الواقع العراقي ليعيث فيه فسادا وقتلا وتدميرا بدءاً من الاحتلال الذي أشاع الهدم والموت والخطف والحرائق.

إن خطف صخر العارف بالبرمجيات رمز لضياع كل علم وكل تخطيط لمستقبل بلدٍ زاخرٍ بالعطاء وواعد بغدٍ معرفي عارم بالأمل ، لكن كل شيء ضاع بضياع الإنسان و الأرض وما عليها.

سجا هي الرمز المثير الآخر في الرواية ، طفلة قتل والداها في الحرب وتبنتها من الميتم أسرة محمود جار ابراهيم وصخر . كانت رضيعة في شهرها الثاني، طفلة بالغة الجمال لكن صحتها العقلية ليست على ما يرام، فكانت مثار حب اسرة ابراهيم و وشفقتهم وصارت الصديقة الحميمة لصخر، امتدت شرور الحرب للطفلة سجا التي اغتصبها الجندي الأمريكي ،وقتلها أهلها خلاصا من عار الاغتصاب. سجا رمز لبراءة كلِّ العراقيين المغدورين بالاحتلال وشروره وعدوانيته، رمز لكل أطفال العراق الذين جاعوا ومرضوا واغتصبت حياتهم بالحصار والصواريخ وعدوان الحروب وما صحبها من كوارث.

ميسلون تكتب رواية إنسانية بعيدة عن التحيزات والتعصب، إنها ترسم صورة الانكليزية صوفي وهي تحنو على الطفلة سجا العربية العراقية وتحتفل بعيد ميلادها المجهول مع اولادها التوأم  احتراما ليتمها ورعاية لطفولتها. إن الرمز في أعمال ميسلون لا يحضر بطرائق اعتيادية بل هو حضورٌ جمالي یرتبط بالإبداع، و في ضوء هذا المفهوم یمکن اعتبار الرمز الدینامیکي، وسیلةً لخلق الفضاءات الشعریة التعبیریة الجدیدة التي اهتمت بها الرواية المعاصرة ،إنه رمز محایث للرؤیا، یرتبط بالرؤى الجمالية أكثر من كونه تفسيرياً أو دلالياً، والروائية تدعمه بالوعي التأملي والمعرفي معاً، فالعلاقة بین السیاق والرمز في إرتیادها الفضاءات التعبیریة الجدیدة هي علاقة تثير عبر الأحداث حركية تلقي بجمالها على العمل كله، ف سجا رمز لبراءة كل العراقيين المغدورين بالاحتلال والاغتصاب وشروره وعدوانيته، سجا رمز لكل أطفال العراق الذين انتزعهم اليتم بصواريخ العدوان من بيوتهم ورعاية أسرهم ، جاعوا ومرضوا بالتشرد  وبرعب المتفجرات وما صحبها من كوارث، كما فاجأتنا الرواية بنهاية كارثية ذلك أن صخر المخطوف من قبل عصابة مجهولة، صخر المرهف الحاني والمحب لبراءة سجا وراعيها يفجر نفسه ليقتل الموجودين قرب المطعم  ..لماذا..؟ هل حدث ذلك تحت تأثير تهديدات الإرهابيين أشهرَ خطفه، هل حدث له انحراف فكري أقنعه بالموافقة على فعل الإرهاب يأساً من الواقع الأسود المحيط به، أم أنه أجبر على ذلك بفعل تهديد مختطفيه!

ميسلون تكتب رواية إنسانية بعيدة عن التعصب، إنها ترسم صورة الانكليزية صوفي البريطانية وقد وعت كارثة العراقيين ولا جدوى اقتتالهم على حوادث مضت وانتهت منذ حقبٍ وأزمان، إنها السرديات الكبرى  التي يجب أن تتحول لخبرات تاريخية وإلى عِبر تعمل على تعميق وعي الشعوب،لكنها تحولت في العراق لكوارث مزقت شعبا وخربت وطناً عبر مأساة وعتها السيدة البريطانية (على مود علي وعمر واحدكم يشرب من دم الثاني، ربع ويّا ايران وربع ويّا السعودية تالي ما تالي بس انت الخسران). الرواية 36 

*** 

لقد غدت مشكلة الكتاب العراقيين كما يؤكد الدكتور حسين سرمك تتمثل في أن الواقع العراقي المتفجّر سبقهم وباتوا يلهثون خلفه ، في حين أن ما اصطلح الإتفاق عليه منذ قرون عدة هو أن الإبداع يسبق الواقع ويشكّله. لقد صارت عواصف الواقع العراقي تتلاعب بالمبدع العراقي وتطوّح بكيانه . مستشهداً بقول الروائي عبد السلام العجيلي : (الأمم السعيدة ليست لديها روايات) ، أي أن الرواية وليدة تعاسات الشعوب وأحزانها ، فكيف والواقع العراقي قد دشن ومنذ سنوات مرحلة ما بعد الحزن ، و ما بعد التعاسة[9]. سرد ميسلون يعرض لنا الفجيعة من كل جوانبها، الواقعية والمذهبية والطائفية، يعرضها بهدوء بعيدا عن التعصب وصراع الأفكار والمذاهب والاقتتال والتشنجات التي سادت المجتمع العراقي في تلك المرحلة التي تحكيها الرواية، وبعيدا عن الصراع المذهبي الذي راح ضحيته الملايين من الأبرياء حتى انها تنسينا انتماءاتنا الطائفية المتشنجة لتأخذنا لعالم هادئ محايد آخر،عالم يروي لنا الكوارث التي يعيشها شعبنا بأكمله وليست كوارث طائفة من طوائفه حسب.لكنها تخفي تحت ذلك الهدوء نقدا رافضا لكل الممارسات التي لا تمت للدين بصلة، فضلا عن كونها تؤذي الانسان حد تجريحه وإسالة دمه، فالراوي يروي لنا الطقوس الدامية التي يمارسها بعض ابناء شعبنا دون إدانة أو انتقاد أو تجريح، بل يرويها بحرص على دمهم الذي يسيل وعلى رؤوسهم المجرحة بـ”التطبير”، ولإتمام عملية دمج العراقيين ببعضهم يطرح الراوي قضية زواج أمه التي تلبس الأسود في شهر محرم من رجل ينتمي لبني أمية. الرواية 15  تلك هي سمة ميسلون الأسلوبية والوطنية معاً، إنها تُعرض حتى عن ذكر أسماء الطوائف والمذاهب لأنها ترفض لشعبها الانقسام، وإذا كان هذا التنوع القائم في المجتمع العراقي عامل قوة وتلوين ثقافي ودافعا للتطور، فإن ذلك لن يكون إلا في ظل ثقافة منفتحة على الإنسانية والشعور الحاسم بوطنية عالية وشعور بالمسؤولية التي لا تجد خلاصاً إلا بالوحدة والشعور بالانتماء لهذا الوطن المغدور.من هذا المنطلق الانساني صار الأنثوي طاقة موجهة وسلطة ،وفيضا شعوريا تقوم عليه أركان الحداثة بما هي نسق ومنجز وخبرة للإنسان الجديد، كون الكتابة النسوية تصاعدت مع تصاعد روح الحداثة وما بعدها، وأصبحت ظاهرة عالمية لها تبعاتها الإنسانية، ولذلك فهي تقع فِي قلب الحياة وليس على سطح الورقة البيضاء حسب.[10]

والملاحظ أن ميسلون تعمل عبر سردها الهادئ على كشف سياسات الذكورة المضمرة في ثنايا السلوكيات المجتمعية بوعي لا تحكمه التشنجات الضدية ولا السلوكيات الثأرية كما حدث مع بعض الروائيات العربيات ،لأنه وعي يدرك مسار التوجهات التي تحكم الرجل في تعامله مع المرأة ؛كونها موروثات ليست من صنع الرجل وحده ، بل هي نتاج مجموعة مشتبكة من منظومات الأعراف والتقاليد والقيم العتيقة التي أرست تحيزات الذكورة ضد المرأة والعمل على تشويه صورتها وتكريس ضعفها والحفاظ على مكانتها الدونية التي قدر لها أن تبقى خلف الرجل وفي خدمة مصالحه وبيته وتنشئة أولاده المنسوبين إليه وهي التي حملت وأُرهقت وأنجبت وتحملت مشقة التربية.

ميسلون تعمل بهدوء عبر رواياتها على تفكيك الانساق المتخلفة التي تحكمت وتتحكم بمسيرة المرأة والمجتمع معا والتي عملت على تكريس صورة المخلوقة الضعيفة التابعة الصامتة المستكينة لتشكل صورة اخرى ، صورة المرأة المتوازنة الرصينة المؤتلفة مع الرجل المتحرر، المتفهمة لمشروعية حقوقها في العلم والعمل والحياة فكل راوية صادفناها في (جائزة التوأم) وفي (حلم وردي فاتح اللون) وفي مدوناتها الأخرى  كانت متفهمة حوارية فاعلة لا تتردد في تقديم بعض التنازلات في التكتيك السلوكي المجتمعي أو الأسري من أجل تحقيق الستراتيجية التي تعيها جيدا وتعمل من أجلها.

إن نظرية موت المؤلف التي ابتدعتها المدارس النقدية ما بعد الحداثية والتي تعمل باصرار على فصل النص عن كاتبه تكاد تنحسر في الروايات النسوية العربية ،فالروائية العربية موجودة في رواياتها بحسها الوطني والقومي والإنساني ، موجودة بنبض معاناتها وهموم مجتمعها وبوعيها الذي يدرك أن الحياة حقوق وواجبات عبر معادلة متوازنة اذا اختل أحد طرفيها فإن مجمل حياة الأسرة والمجتمع سيكون مختلا كما حدث ويحدث في المجتمع العربي الذي مازال محتاجا لإحلال التوازنات في جميع جوانبه. تقول الروائية ميسلون هادي في حوار معها

أعتقد إن العمل الروائي يشكل سيرة للكاتب والمكان.. ولكن يُقال إن الرواية هي فن زماني، بمعنى أنها مبنية على الزمان أساساً، فهي ليست كالشعر الذي فيه الزمان مطلق. وهي ليست كالقصة القصيرة التي لا تتحدد به بشكل صريح. ولكنها الأكثر عناية بالزمان الذي هو العنصر الأهم في الرواية ومن خلاله نعرف صورة عصر بأكمله هو العصر الذي تدور فيه أحداث الرواية أو العصر الذي نعيش فيه.. أما المكان فهو العنصر المؤثث لهذا العالم الزماني الذي يؤرخ للأحداث والمشاعر والصراعات ويمنحه الإطار الذي تتحرك فيه . بالنسبة لي تحديداً عندما يكون المكان هو بغداد  فأشعر بأنني في بيئتي المحلية التي يمكنني تصويرها بشكل أفضل . أما إذا كانت الرواية تدور في بيئة أخرى فإن المكان يشكل عبئاً على انسيابية العمل. وأبذل جهداً بحثياً مضنياً من أجل الإيفاء بمتطلباته بما يتلاءم مع التفاصيل الأخرى المتعلقة بالشخصية أو الحدث والتي تنساب مثل تدفق النهر الجاري.. وعندما تتحرك الشخصية في بيئة معينة لا أعرفها يشكل هذا تحدياً كبيراً لي ويحتاج مني إلى جهد أكبر لتقديم تلك البيئة بشكل دقيق.. )).([11]) من هنا يرى بعض النقاد أن نظرية فصل النص عن مبدعه التي عرفت بموت المؤلف يمكن ان تصدق على العديد من الفنون الابداعية كالرسم والموسيقى والشعر ربما ،ولكن المبالغة في هذا التوجه تصبح سلاحا عكسيا لا يقدم المزيد من الفائدة مع الفنون السردية وفي مقدمتها الرواية،فالمبدع وبخاصة الذي ينتج أي نوع أدبي من انواع الفنون السردية يستند اولا الى أقرب مصادره المعرفية ولعل اقربها اليه حياته الخاصة ومخزونه الثقافي ومعاناته وخبراته الشخصية وما له علاقة به وبشعبه من وقائع واحداث حتى فسرت البطولة احيانا على انها الفعل الجماعي البطل الذي يحتضنه الزمان والمكان ويعكس تلك الجدليات القائمة بين كل العناصر التي تنتج العمل الابداعي.[12] من هنا تكون العودة إلى الإنسان العارم بالحياة وليس إنسان رولان بارت الورقي، والاهتمام بهواجسه ومعاناته ومكابدات حياته في المجالات كافة أمراً ذا أهمية خاصة في الأدب والفنون ولا سيما في الرواية التي حملت هذا العبء بجدارة. 

** 

عن fatimahassann23

شاهد أيضاً

ميسلون هادئ……غزارة الإنتاج وبراعة الأداء.

ميسلون هادئ……غزارة الإنتاج وبراعة الأداءمن الأحداث الفارقة والمائزة في حياتي،هو اللقاء بالروائية المبدعة ميسلون هادي، …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *