19ــ ميسلون هادي
جانوأنت حكايتي
ناطق خلوصي
7-9-2021
صفحته على الفيسبوك
وأيضاً الموقع الألكتروني لصفحة روائيات عراقيات
تُعد ميسلون هادي من أبرز كاتبات السرد في العراق . فعلى امتداد أكثر من ثلاثين سنة صدرت لها تسع مجموعات قصصية وأربع عشرة رواية ومجموعة من الروايات مخصصة للفتيان . كانت أول رواية لها تحمل عنوان ” العالم ناقصاً واحد ” ، وهي رواية فصيرة كانت قد صدرت عن دار الشؤون الثقافية عام 1996 ، أما أخر رواية قرأتها لها فقد كانت بعنوان ” جانو أنت حكايتي ” التي صدرت عن ” دار الحكمة ” في لندن عام 2017 ، وبدا أن خيط صلة يربط بين هاتين الروايتين .فشخصية الغائب تثير اهتمام الروائية وهي هنا تستعير من رواية ” العالم ناقصاً واحد “، شخصية الضابط الطيار “علي ” الذي كان قد استشهد حين اسقطت طائرته في الحرب ،وتوظف شخصية خطيبته جنان (جانو) شخصيةً رئيسية في روايتها الكبيرة والجريئة ” جانو أنت حكايتي ” وبين الروايتين تمتد أكثر من عشرين سنة من التجارب التي آلت إلى نضج تجربة الروائية . كنت قد كتبت في مناسبة سابقة أن الغائب عند ميسلون هادي اما ان يكون هارباً من سلطة غاشمة أو اسيراً أو مفقوداً أو شهيداً ، وفي كل الحالات يقع عبء المعاناة على المرأة : أماً أو زوجة أو حبيبة ، فتكون موضع تعاطفها ، وهو ما يحدث لشخصية جانو في هذه الرواية ، لكن علاقتها تختلف هذه المرة حيث ترتبط بشخصية ” هاني ” وإن ظلت شخصية خطيبها السابق “علي ” تداعب خيالها بين حين و آخر ، لكنه ما لبث أن أخذ يتضاءل لتحل محله شخصية البطل البديل التي أرادت الروائية أن تقدم من خلاله نموذجاً للجيل العراقي الشاب وما تحمّله من عناء . وهاني هذا يجسّد حالة التعايش الطائفي في العراق فأبوه من الفلوجة وأمه من النجف وزمن الأحداث يشي بظرف صعب مرت به الفلوجة في الأيام التي اندلعت المعارك مع القوات الأمريكية وشاء القدر أن تعطل سيارة الأب عبد اللطيف وفيها زوجته وابنه لتتلقفها قذيفة امريكية أتت على الزوجة وهي تحاول حماية ابنها ، فوجد الأب نفسه مضطراً لدفنها في حديقة بيته .
تكرس الروائية الجزء الأكبر من روايتها لشخصية هاني الذي خرج من واقعة القذيفة بوجه مشوه ففقد الوسامة التي كان قد عُرف بها ليقضي خمس سنوات في الولايات المتحدة خاضعاً لعلاج طويل وعمليات ترقيع معقدة لوجهه في محاولة لاسترداد بعض وسامته السابقة الهاربة. وبدا واضحاً ان القوات الأمريكية بالغت في الاهتمام به ربما بفعل الشعور بالذنب أومحاولة تعويضه عما كانت قد تسببت هي فيه . وتكرس الرواية صفحات كثيرة للعلاقة بين هاني والمصورة الأمريكية ريتا المكلفة بمصاحبته وتصويره وهو في بغداد ثم خلال رحلة العلاج الطويلة ،وصار على علاقة حميمة معها في حين كان أبوه الذي رافقه في رحلة العلاج الطويلة يتهمها بأنها مدسوسة عليه من قبل المخابرات الأمريكية ويحقد عليها تعبيراً عن حقده على القوات الأمريكية التي كانت سبباً في خسارته لزوجته وضياع وسامة ابنه ، لكن الإبن كان يختلف في موقفه عنه .
توزّع الروائية سنوات محنة هاني على مرحلتين : مرحلة العلاج وقد أسهبت في تجسيد أحداثها ، ومرحلة ما بعد العلاج حيث دخلت جانو طرفاً فيها وتبدأ هذه المرحلة حين عاد من رحلة العلاج وآثر أن يعمل لكسب قوته ولم يصاحب أباه عند عودته إلى الفلوجة ، لأنه أراد أن يظل بعيداً عن المكان الذي شهد واقعة مأساته . ويبدو أنه انتهز الفرصة واستغل سنوات مكوثه في الولايات المتحدة فتعلم اللغة الانكليزية ، وها هو يفتح مكتباً للترجمة في الأعظمية : ” أصبحت الترجمان الورّاق الذي يكتب اٌلإيميلات ، ويحجز تذاكر السفر ، أو يملأ بيانات الهجرة لكل عازم على الهروب لمسافة أبعد كثيراً من هذا المكان ، وموجودات المكان ” ( ص 7 ) . وتشاء المصادفة أن يكون مكتبه قريباً من بيت جانو. وتشاء مصادفة مضافة أن تجعل حاجة جانو لترجمة بعض وثائفها لإكمال دراستها في بريطانية فتلوذ بمكتب هاني . لكن هذه المصادفات لم تكن مصطنعة وبدت طبيعة بفعل براعة ميسلون هادي وهي تسرد حكايتها على نحوٍسلس فتلامس وعي القارىء بانسيابية مثيرة للدهشة وبلغة صافية مطعمة بكلمات من العامية تضع قائمة بالتعريف بها في نهاية الرواية .
تقع الرواية في 352 صفحة تتوزع على سبعة وثلاثين فصلاً يحمل كل منها عنواناً خاصاً به فهي تتسع امتداداً على الرغم من محدودية شخصياتها وتجري أغلب مفاصل السرد على لسان بطل الرواية هاني ، وتنحو في الصفحات الخمسين الأخيرة منحىً قد يختلف في أحداثه عما تدفق على مجمل الصفحات التي سبقتها . فقد ذهب هاني إلى الفلوجة بعد غياب طال بفعل رغبته في أن لا يقع بصره على الموقع الذي كان قدشهد واقعة مأساته : ” الفلوجة ذهبت لزيارتها مع أبي بعد عشر سنوات من حادث السيارة التي اضطرمت فيها النيران، خمس سنوات قضيتها في رحلة العلاج إلى أمريكا ، وخمساً أخرى لم يهزني فيها الشوق للاقتراب منها ” ( ص 295 ) . ومن مصادفات الرواية أن الأب عبد اللطيف أصيب بجلطة دماغية خفيفة اختفى بسببها من بيته عدة أيام جعلته يصعد حافلة ذاهبة إلى بغداد وكأنه يعود إلى بيته . وتحكم المصادفة أن يقود ذلك إلى تعرّف هاني على ذلك فكان أن عادا إلى مدينتهما معاً ليكتشف الإبن قبر أمه في حديقة البيت ، ويومىء هذا الحدث إلى واحدة من مأسي الحرب العديدة. وفي المدينة يتلقى هاني خبر عودة جنان ( جانو) إلى بغداد فيقرر العودة وسط اشتداد معارك تحرير المدينة ويحاول النفاذ من الأطواق العسكرية المحيطة بالمدينة وسط معارضة ابيه : ” هل ستتصل بأولئك الجواسيس مرة أخرى؟ ” (ص 304 ) . ويفلح في ذلك : ” وبعد مسير طويل استطعت أن اخترق الأطواق الثلاثة للفلوجة عبر أرض محايدة وممر آمن هو حكاية وجهي التي جعلتني لا أخضع حتى لتحقيق عسير قبل الافراج عني ” ( ص 3.8 ) . وتكشف الروائية عن المام بتفاصيل جغرافيا المكان إلى الحد الذي جعلها تخرج ببطلها إلى بر الأمان وجعلته يقول : ” أصبحت على الأعراف .. لا أستطيع الدخول إلى جنة الأمريكان ، ولا أن اقاوم جحيمهم مثل أبي ” ( ص 3ا3 ) وكان الأب يؤمن بأن سلاح المقاومة هو الكفيل بتخلص المدينة من الأمريكان ، وكانت المدينة شبه مهجورة آنذاك .
تختتم الروائية نصها السردي الكبير بما كان يتوقعه بطلها وينتظرة . ففي الحرب كل ما هو سيء ورهيب ممكن . فقد كانت جانو سعيدة وهي في طريقها من المطار وكانت :” قد فقدت القدرة على الحركة وكانت تسمع اطلاق نار دون أن تجد طريقة سريعة لترك هذا الطريق . البلاد كلها كانت كذلك . عاجزة عن الحركة وتستعد للموت كل يوم ” ( ص 328 ) . ولابد أن مصير جانو سيكون معلوماً لولا أن العسكري قتل الرجل المفخخ في الشاحنة الثانية قبل تفجيرها ، وبذلك تركت ميسلون هادي خاتمة روايتها مفتوحة على أفق الأمل .