المكان ودوامة الشرخ والرأب
في رواية( جانو أنت حكايتي)
د. نادية هناوي
الاثنين 2018/06/11
جريدة العرب
إعتادت القاصة والروائية ميسلون هادي التنويع في متونها السردية التي تتأطر بتمذهب واقعي أهم صوره الواقعية النقدية والواقعية الفنتازية والواقعية الغرائبية.
وعادة ما يتمحور البناء الشكلي لتلك المتون حول الشخصية التي هي في الأغلب نسوية، إلا إن الكاتبة في روايتها( جانو أنت حكايتي)[1] الصادرة عن دار الحكمة في لندن عام 2018، تنصرف عن الشخصية صوب المكان لتجعله محورا يهيمن على المتن السردي بكامله، وبالشكل الذي يعطي للمعالجة الواقعية صيغة فنية ذات أبعاد رمزية ونفسية معا.
وما استحكام المكان على الشخصية والحدث والذاكرة والتاريخ، إلا تبعة من تبعات واقع بشع فيه الحيوات كيانات مشوهة تتلاعب بها سطوة المسافات والحجوم والطوابق والممرات بالكبر والصغر أو التقلص والامتداد أو السدامة والامتلاء.
وهذه الهيمنة المكانية على عناصر السرد الأخرى هو ما تراهن عليه الكاتبة ميسلون هادي سواء في بناء الأحداث وتصعيدها أو في تأزم الشخصيات وتطورها ليغدو الانفراج مسفرا عن مصائر، يتحكم فيها المكان الذي فيه تتصدع الذات وتنشرخ وقد يرأب صدعها وتلتحم كينونتها.
ولا طائل للزمان أمام المكان الذي موه المعيش اليومي بكل ما هو متخيل وحلمي استغوارا واستملاكا، فاستحال الماضي حاضرا يغص بالانمحاء والحزن والكوابيس.
ويتسع المكان في نظر الحيوات ليغدو متناهيا في الكبر بتعبير غاستون باشلار موجودا” في داخلنا وهو متصل بنوع من تمدد الوجود الذي تكبحه الحياة ويعيقه الحذر ولكنه يباشر فعله حين نكون وحيدين وبمجرد أن نقبع ساكنين فإننا نعيش في مكان آخر نحلم في عالم واسع. وإن المتناهي في الكبر هو حركة الإنسان الساكن إنها إحدى الخصائص الدينامية لحلم اليقظة الساكن” [2]
وفي هذه الرواية يتجسد المكان بهندسة غير مألوفة لعالمين: واقعي ومتخيل، ويسهم الحلم في تمويه هذين العالمين في محاولة لمغالبة نستولوجيا وعي هائم ينبع من دواخل ذوات مترددة ومحتارة لا تقدر على مواجهة الواقع وشروره إلا باستجماع قواها التخييلية بشكل لا نهائي، وعن هذا يقول البيريس:” أن الكاتب الواقعي الكبير الذي يعي عبث الوجود وقسوته يقبل أن يعيش ذلك وأن يعرفه لا لكي ينكره بل ليجد فيه ما يساعده على استجماع قواه”[3]
وهذا ما تمثله شخصية هاني عبد اللطيف بطل الرواية، الذي تتعالى التساؤلات في داخله، فتبزغ ديالكتيكية التشظي والانقسام على خارجه، متشظيا بين غربة لذيذة مستظرفة ومواطنة مريرة غير مستساغة” اسمي هاني عبد اللطيف الشاعر مغرم بخنق نفسي حتى يكاد ينقطع النفس أجد في المرآة شخصا لا اعرفه شكله مقبول وأفضل من قبل ولكنه ليس أنا وهذا ما لم يعرفه احد بعد عودتي من أمريكا لبغداد” الرواية/25
ويقتسم السرد صوتان هما صوت هاني الشاب الذي تشوه وجهه جراء اعتداء بالخطأ تعرض له هو وعائلته على يد الأمريكان في الفلوجة وصوت جانو أو جنان خطيبة علي الطيار الذي وقعت طائرته واستشهد في حرب التسعينيات.
وما يجمع بين الصوتين هو أن أزمتهما النفسية الواحدة وسببها هو المكان وما فيه من الألفة والوحشةالقبح والجمال، التمظهر والانمحاء داخليا وخارجيا.
ولهذا كله يغدو المكان في نظريهما غير معروف وقد أصابهما بالشرخ والتشظي” أجد في المرآة شخصا لا اعرفه شكله مقبول وأفضل من قبل ولكنه ليس أنا” الرواية/25 وفي دوامة لا نهائية يتجلى أمامهما عالمان متسعان الأول فاتن وجاذب هو الغرب ممثلا بأمريكا ولندن ..والثاني مفجع وطارد ممثلا بالفلوجة وبغداد..
وما بين المكانين وواقعية تضادهما يجد هاني في داخل جانو موطنه الآمن الذي إليه ينتمي.. واجدا فيه هويته وكينونته الأصيلة غير المستباحة، شاعرا أنه طبيعي وغير معاق ولا مشوه وهذا سر انشداده إليها وسبب حبه الجارف الذي به ادرك أن ذاته لم تتشوه لا من الداخل ولا من الخارج، بعكس ما كان يصارعه من تشظ مع قرينه الذي ظل يذكره دائما انه لم يعد كما كان قبل الانفجار أو ريتا المصورة الأمريكية التي كان يرى في عينيها دوما نظرة الشفقة والإحسان.
ولا سبيل لهاني للخروج من مأزقه المكاني إلا بالحلم الذي به يستحضر طيف جانو مصرا على البقاء والمداومة، متحملا أهوال المكان ومنغصاته مموها ما حوله من موجودات، مغيرا الأبعاد وملغيا المسافات، جاعلا غير الحقيقي حقيقيا، حتى اسم جانو ليس الاسم الحقيقي الذي هو جنان” جانو هو اسمها الذي أطلقته عليها عندما رأيتها في الباص وليس عندما جاءتني لمساعدتها في إجراءات التقديم على امتحان الايلتس والحصول على الفيزا“الرواية/ 125
إن الواقع النصي الذي أساسه الحلم هو الذي يجعل المكان مهيمنا على الحيوات، بفاعلية المفارقة بين ما تعتقده الشخصية وما تشاهده ليغدو الوجود متصورا في الباطن وليس مرئيا من الخارج، وهو اما متشظ طارد او مطمئن جاذب، وهذا هو لب الأزمة التي تعانيها شخصيات الرواية.
وهكذا تتموه صورة الوطن فيغدو طابور انتظار ومحطة نزول وصعود وباصا بطابقين الأول غير مرغوب به، والثاني مجذوب اليه وفيه يتسع الباص ليغدو هو الكون كله وذلك حين جلست جانو بجنب هاني” أفكر بها جالسا على مبعدة متر واحد منها دون أن تدري أقول لنفسي:
المكان بدونك زوايا
رباه
كيف يصبح معك فضاء ص132
وفي شعرية هذا المقطع يتجسد المتناهي في الكبر الذي هي مقولة من مقولات الخيال الشعري وأداة للتصوير التعبيري وفيه يناقض الوجود عدمه وتشابه الجنة الجحيم لذلك تجد جانو أن” الزمان واحد ولكن الأماكن مختلفة وتجرني إلى عوالم لم أعد بعد علي أثق بثباتها واستمرارها وصدقها” الرواية/ 138
وما ذلك إلا بسبب الانتماء اللاشعوري الذي جعل الذات تصارع دواخلها بالشرخ تارة وبالرأب تارة أخرى، كما في هذا المونولوغ الذي فيه تتحدث جانو عن لندن” صحيح أنها جميلة وتزين لنا عذوبة هواء الحرية ولكن من أنا؟ وماذا افعل هنا؟ وهل حقا أنا هنا بعيدا عن جنون الشمس والنخيل والصيف؟ الرواية/ 169
وبسبب هذا التصارع الداخلي تصبح كلمة( أفجر) جامعة لتضادية الحب وفرطه، في قول عمة جانو” أريد أن افجر هذا المكان” الرواية/207 وإذا كان هاني ضحية احتلال أمرد؛ فان جانو ضحية حرب هوجاء وهذا ما يجعل بغداد جحيما محتدمة بالحرب والاحتلال” الكل يريد ترك جحيم بغداد التي كانت جنة يحلم بها كل قادم إليها من محافظة أخرى” الرواية/ 117
ويعمل التأثير الذي تتركه جانو على هاني في تحويل معتادية السرد بدءا من الافتتاح حتى الفصل التاسع إلى دراماتيكية فيها جانو شخصية محورية تسهم بقوة في تحبيك السرد ليبدو أكثر تعقيدا وبتعددية صوتية وقصة ضمنية ناجمة من استرجاع جانو لقصتها مع خطيبها الطيار علي..
ومما يساعد هاني على تجاوز أزمته المكانية اختراعات الوهم التي تجعل بيت جانو معادلا تمويهيا لوجودها الحقيقي. وبعد ان تغادر بغداد الى لندن ينشّد هاني الى البيت ويعتني به معاينا جدرانه وأثاثه وحديقته واجدا في موجوداته أنيسا يشعره بالأمان والألفة والطمانينية والثقة والانتماء والاحتواء، وما بين الحلم واليقظة يصبح حديثه مع الجدران هو حديثه مع جانو” لولا وجود جانو معي في البيت لما عرفت كيف يمكن للابتسامة أن تعرف طريقها إلى حياتي” الرواية/237
وبالحلم يشعر أنه وجانو في مكان واحد حيث لا مسافات بين بغداد ولندن ويغدو الباب والحديقة والأرجوحة واقعا متخيلا هو جانو التي تمشي معه مغمضة العينين، كي لا ترى الواقع إلا كما تراه مخيلته و” عندها يرى نفسه متحررا من همومه وأفكاره وحتى من أحلامه لا يعود منغلقا بثقل جسده ولا أسيرا لوجوده”[4]
وبسبب لا نظامية المكان المعيش وغرابة هندسته وأنظمته ينهزم الواقع أمام الخيال ويكون للشعور بالانتماء شكل حلمي رومانسي بدلا من شكله الواقعي التجريدي.
وما جمال الامكنة إلا بقدرتها على الجذب وكل شيء يستطيع الجذب فهو مرغوب فيه ولا علاقة للجذب حينئذ بالعمق او التاريخ وإنما بسرعة التبلور والنهوض والقدرة على التكيف والانتماء.
ولعل تصنيف الرواية على أنها من روايات الكثافة الواقعية للحقيقة يبدو مقبولا بناء على أمرين: الأول طبيعة الخلطة الجغرافية التي توزعت فيها الشخصيات مابين عالمين واقعي متشظ ومتخيل منتظم ضمن دوامة عالم شرير بلا ملامح حينا، وودود بلا قرار حينا آخر.
والثاني بنائية الفصول التي تبدو قائمة على فكرة مكانية أساسها الانفصال والاتصال فكل فصل يصلح أن يكون منفصلا نقرأها كقصة قصيرة مستقلة، لكنه أيضا متصل كمتوالية سردية مع الفصل الذي قبله والفصل الذي بعده.
إن استثمار رواية( جانو أنت حكايتي) لتعقد العوالم وتعدد الأكوان كي يتداخل الواحد منها في الآخر حيث لا وجود لحقيقة من حيث هي حقيقة هو شكل من أشكال الرواية الجديدة التي عرفها الفرنسيون مثل الان روب غرييه في روايته(في المتاهة) وكلود سيمون في( طريق الفلندر) ومشيل بوتور في( التعديل) .
الاحالات/
[1] جانو انت حكايتي رواية، ميسلون هادي ، دار الحكمة، لندن ، الطبعة الاولى، 2017.
[2]غاستون باشلار، ترجمة غالب هلسا، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، طبعة ثانية، 1984/ 171.
[3] تاريخ الرواية الحديثة، البيريس، ترجمة جورج سالم، مكتبة الفكر العربي، بيروت، طبعة أولى، 1967/ 67
[4] جماليات المكان/ 179.