بنية الزمن في القصص القصيرة عند ميسلون هادي
ايمان حسين محيي
قسم هندسة النفط – كلية الهندسة – جامعة بغداد
مجلة الهدى العدد السادس 1437 هجرية
ملخص البحث
يهدف هذا البحث الى دراسة عنصر الزمان في قصص ميسلون هادي القصيرة دراسة فنية و موضوعية موضحة العلاقة القائمة بين زمن الحكاية المسرودة وبين زمن الخطاب. هذه العلاقة يمكن تناولها من خلال ترتيب الاحداث (الماضي و الحاضر و المستقبل) ومدة القصة (السرعة و البطء). اعتمدنا في دراستنا للبحث على جوانب عدة منها ما كان موضوعيا يبرز من خلال تركيز القاصة على الجانب الواقعي (الانساني) لا سيما معاناة المجتمع في حقبة التسعينيات من جراء مخلفات الحصار الاقتصادي التي جسدتها باسلوب قصصي مؤثر في ذهنية القارئ. أما الجانب الاخر فكان دراسة فنية تناولنا فيها اولا تذبذب السرد بين الماضي و الحاضر و المستقبل (الاسترجاع و الاستباق)، يليها مدة القصة ويشمل تسريع الزمن الذي يتكون من (خلاصة وحذف) و تعطيل الزمن الذي يتكون من (مشهد و توقف).
الكلمات المفتاحية : الزمان ، الزمان في الأدب، أنواع الازمنة، زمن القصة، زمن الخطاب أو الحكاية، ميسلون هادي.
المقدمة
يزخر الادب العربي بالكثير من الأديبات اللواتي بدت اسماؤهن اليوم لامعة في عالم القص، إذ شَكّلنَ جيلاً يستحق فرصته وتألقه، بعدما كنَ منزويات في الظل من الأدب الذي يكتبه الرجل، فقد انبرى الكثير من النقاد بتسليط الضوء على جهودهن المضنية ، التي جعلت أدب المرأة في العراق في قطبية الرجل ، فظهرت أسماء أديبات ترسخت مكانتهن نقدياً في واقع الأدب العراقي ، القصصي والروائي لعل أهمهن: (لطفية الدليمي وبثينة الناصري وعالية ممدوح وسميرة المانع وارادة الجبوري) واخيراً ميسلون هادي التي قصدت في بحثي هذا الى دراسة أدبها وتحديداً قصصها القصيرة ، فكان الزمن في قصص ميسلون هادي القصيرة دارسة فنية.
تتكون دراستي للبحث، من تمهيد، وانواع الازمنة من حيث ترتيب الاحداث، ومدة القصة (زمن الحكاية او الخطاب).
وكانت دراستي للبحث: الى دراسة الزمان من جوانب الماضي والحاضر والمستقبل (الاسترجاع والاستباق) اما الجانب الآخر: فهو زمن مدة القصة (زمن القصة أو الحكاية) ويشمل تسريع الزمن الذي يتكون من (خلاصة وحذف) وتعطيل الزمن الذي يتكون من: (مشهد، توقف).
واخيراً فإني لا ادعي الكمال في دراستي للموضوع فالكمال لله وحده.
التمهيد
ويشكل الزمن القضية الأساسية في القصة و الرواية، فهو يدور حول اقتناص الوقت الحقيقي الذي تعيش فيه الشخوص. فلكل شخص زمنه الخاص الذي يربطه بالعالم من حوله. و الزمن عنصر أساسي يقوم عليه فن القص، لأن القص هو أكثر إلتصاقاً به فهو فن الزمن. و يعرف الزمن في الأدب: بانه الزمن الإنساني الذي يدخل في نسيج الحياة الإنسانية، فلا يعرف معناه و لا يحصل الإ ضمن نطاق الخبرات او نطاق الحياة الإنسانية التي تمثل حصيلة تلك الخبرات. عند دراسة الزمن تبرز طبيعة العلاقة القائمة بين زمن الحكاية المسرودة المتميز بتعدد الأبعاد و بين زمن الخطاب الذي تميزه الخطبة، هذه العلاقة يمكن تناولها من خلال ترتيب الاحداث، ومن خلال ما يأتي:
1- الماضي و الحاضر و المستقبل
2- مدة القصة (زمن القصة و زمن الحكاية او الخطاب)
1- الماضي و الحاضر و المستقبل
يتذبذب السرد في الزمن بين الماضي و الحاضر و المستقبل مما يؤدي الى نشوء تقنيتين او شكلين فنيين هما:
أ. الاسترجاع: “وهو ان يترك الراوي مستوى القص الأول ليعود الى بعض الاحداث الماضية و يرويها في لحظة لاحقة لحدوثها”. و يقسم الى ثلاثة انواع:
1) استرجاع خارجي
2) استرجاع داخلي
3) استرجاع مزجي
أما الكيفية التي يتم بها الاسترجاع، فثمة طرائق متعددة، فمنها طريقة السرد التقليدي، وهو أن يعود راوي الأحداث الى رواية الأحداث الماضية التي تسبق بداية أحداث القصة، أو عن طريق الشخصية القصصية نفسها التي تتطلب الاستعانة بالوسائل الفنية المعروفة و هي الارتداد الى الماضي او ما يُسمى (flash back) لرواية حدث وقع في الماضي و يطلق على هذا النوع بالسرد الصامت مقابل السرد المنطوق الذي يؤديه الراوي.
ب. الاستباق: “تقنية سردية تتمثل في ايراد حدث آت، او الإشارة إليه مسبقا و هذه العملية تسمى بالنقد التقليدي بسبق الاحداث”. اذ ان هذه الظاهرة نادرة في القص التقليدي فهي بمثابة تلخيص لأحداث مستقبلية، و ترتبط بما اسماه تودروف بـ(عقدة القدر المكتوب) و الشكل الروائي الذي يستطيع الراوي فيه ان يشير الى احداث لاحقة، هو شكل الترجمة الذاتية او القصص المكتوب بضمير المتكلم. إذ انَ الراوي، يشير الى حوادث لاحقة دون الاخلال بمنطقية النص و بمنطقية التسلسل الزمني.
لقد استندت القاصة (ميسلون هادي) باسترجاعها للزمن بحركة لولبية انطلاقاً من الحاضر الى الماضي القريب أو من الماضي الى الحاضر البعيد ومن خلال طريقتين يتم فيها استرجاع الماضي: الاولى عن طريق الشخصية نفسها باستخدام ضمير المتكلم و الأخرى بالعودة الى الماضي عن طريق الراوي بأستخدام ضمير الغائب ليطلعنا على ماضي الشخصية. ومن خلال الاستقصاء الشامل لمجموعاتها القصصية كافة يتضح لنا حضور صيغة تقليدية متجسدة في استرجاعاتها المتأرجحة بين الزمنين الماضي و الحاضر باستخدام مفردة (تذكرت) غالباً، وما يقابلها من مفردات زمنية اخرى (فكرت، كنت).
ففي قصة (دانتيلا في يوم ممطر) نجد هيمنة الفعل الماضي (تذكرت)، إذ تهيمن بنية الاسترجاع على اغلب القصص العراقية و لا سيما (قصص الحصار و الحرب)، إذْ لا تخلو قصة من لحظات الاستذكار و الرجوع الى الماضي الجميل، اذ يبدأ الراوي/البطل بالسرد من نقطة ما في الحاضر ليستذكر الايام التي عاشها و مراجعة المواقف التي حدثت فيه، عبر تقنية الارتداد (flash back) بالرجوع الى الماضي، وهذا الارتداد كان عن طريق (حذاء الدانتيل) الذي كان باعثاً لاسترجاع أحلى و أجمل لحظات عمر البطلة.
“نظرت الى الحذاء الكريمي المصنوع من الدانتيلا المبطنة بالجلد، و تذكرت أنَها عندما همت بخلعه امام زوجها لأٍول مرة بعد عودتها معه من الفندق الذي قضيا فيه شهر العسل، قال لها أنّ لونه الاشهب المائل الى البياض، ليش اكثر اشراقاً من اللون الحليبي الطازج لقدميها الجميلتين.”
فقد كان الحذاء باعثا لرجوع البطلة لإحداث ذكريات تداعت في ذهنها، إذْ ايقظ الحاضر ذكريات الماضي البعيد و اللحظات العذبة التي جمعتها مع زوجها في شهر العسل، فالضغط النفسي و ضغط الحصار في تسعينيات القرن الماضي قد شكل علامة فارقة في الحياة الإجتماعية العراقية، اذ غدا (حذاء الدانتيل) جزءا ًمن الأسمال و لا يمت باي صلة من صلات الذوق المعروفة. فهيمنت صيغة الفعل الماضي على القصة كما هيمن الاسترجاع الخارجي عليها فقد وردت القصة بضمير الغائب، عن طريق الراوي استطعنا ان نتعرف على أحداث البطلة و ماضيها. و في ثنايا المقطع الاسترجاعي، تعود الراوية/البطلة بالرجوع لذكرياتها الى ماضي الحرب و اليات القهر و اللحظات الآسية التي عاشتها مدينة بغداد، إذ كانت رائحة النفط المنبعثة من الفانوس مثلت نقطة انطلاق ذكريات البطلة الى الماضي الحزين المشحون بالألم و الكآبة و الأوجاع، اذ لعب الزمن دورا مهما في تصوير نفسية البطلة و شعورها الموحش المكتظ بالقهر و الحسرة.
“رائحة النفط المنبعثة من الفانوس ذكرتها على الفور بسحابة كثيفة من الدخان الأسود ظللت سماء بغداد ذات يوم ثم أفرغت مطراً اسود لا تزال ذؤاباته تلطخ اسيجة المنازل و السطوح”.
فشخصية البطلة تعيش الماضي في الحاضر مرتبطة بماضيها ارتباطاً وثيقاً، فآثار الزمن لا نلمسه في القصة الا من ذاكرتها الاسترجاعية الخارجية. فالذكريات وحدها هي التي تحمل طابع الاحالة و الصدق لانها تعيد لنا الأشياء بالقدر اللازم وبمعيار دقيق يجمع بين الذاكرة والنسيان و تجعلنا نمر مرة اخرى في اوضاع مغايرة تحرر هذا الإحساس بكل ما علق به من صور طارئة.
وتتكئ القاصة على الماضي باستمرار، و على الذاكرة و ما تختزنه، لأن الذاكرة هي عنصر فاعل و أساس في القصة. ففي قصة (نسيان شئ مهم) تحاول الراوية/البطلة الالتصاق بالزمن الماضي، فنرى تقنية الاسترجاع الخارجي تطفو على هواجس البطلة و أحاسيسها و أوهامها، فنسيان شئ مهم جعلها تستعرض و تعود بذاكرتها إلى سلسلة من الأحداث الماضية، محاولة تقليب أوراق ذاكرتها علَها تصل الى ما يرسي يقينها و يزيل شكوكها و هواجسها.
“إحساسي بنسيان شئ مهم لا يكف يلازمني في كل مرة اخرج بها من المنزل …” “تذكرت دبوسا سقط على السجادة و لم استطع العثور عليه يوم أمس ثم تذكرت أوراق مسودة قصة جديدة وضعتها على (كاونتر) المطبخ ثم تذكرت تنبيهات زوجي المستمرة لي بالكف عن بعثرة الأوراق في كل مكان …”. فالشخصية تعيش دائما في الماضي تستعيده و تلتقطه من خلال تداعياتها الذهنية و وقوفها عند محطة معينة يحددها الحاضر.
وتحاول البطلة استرجاع ماضيها البعيد، ماضي الطفولة الجميلة و البراءة البهيجة، استرجاعاً خارجياً يفصح عن حالتها النفسية و إحساسها بالشفقة و الضيق و الحسرة لمغادرتها محطة الشباب و الحيوية، و مفارقتها الجمال العشريني، فهي بحاجة الى من يشعرها بجمالها و إنوثتها و يؤنس عليها وحشتها و وحدتها.
“منذ كنت في المدرسة.. وانا أول من تفلت من الصف الى خارج المدرسة بعد انطلاق جرس الدرس الأخير.. وكأنما لأهرب من تلك الاحتفالية الفجة التي تمارسها البنات قبل خروجهن الى عالم الذكور…”.
فمن خلال تقنية الاسترجاع تقوم البطلة باستحضار ماضيها البريء الساذج الذي طالما بقيت متمسكة به و متقوقعة فيه، فهي لا تقوى على الخروج من ذلك العالم الممتلئ بالنقاء و الطهارة و اللهو والمرح فظلت أسيرته كونها شخصية انطوائية ومتحفظة لم تكبر بسهولة ولم تستطع ان تتمتع بسنوات الزهور الضائعة.
وتقع البطلة تحت وطأة الإحساس بفقدان الزمن، إذ تختلط الأزمنة و تتشابك في خزين ذاكرتها، فيمتزج ماضيها بحاضرها، متأرجحا بين حلم اليقظة و واقع الحقيقة. اذ تبدأ أحداث القصة عند لقاء البطلة زميلتها في الدراسة (دنيا)، فتظن أنها قد فارقتها قبل سنتين الا ان حقيقة الواقع كانت اربعين سنة. لأنّ صديقتها الآن اصبحت عجوزاً. فتحاول البطلة استرجاع الأفكار التي تتعلق بماضيها و ما فيه من شخصيات ثانوية استرجاعاً خارجياً من خلال تذكرها لحادثة المطعم، فتنبيه صديقتها بعدم الشعور و الإحساس بحرارة الشاي عندما اندلق على ساقيها.
“ثم فكرت.. أيكون لذلك كله علاقة بحادثة المطعم قبل يومين، عندما نبهتها صديقتها الى انها قد دلقت بعض الشاي على ساقها، الامر الذي لم تحس به على الإطلاق. رغم حرارة الشاي.. وعللت الأمر حينها بالشرود و الإرهاق ولم تعط الموضوع اهمية كبيرة…”.
وتطلق ذاكرة البطلة (إيمان) في قصة (العين السحرية)، باستذكار او استرجاع حدث الرسالة التي تركها المقاتل لأخيها، بعد استغرابه و دهشته و عدم تعرفه على تلك الشخصية. فنرى البطلة تعود بذاكرتها الى الوراء قليلا، ثم تهب بالبحث عن الرسالة هنا و هناك دون ان تعثر على أثر لوجودها.
“آه.. تذكرت لقد ترك لك رسالة.
ثم مضيت الى التلفزيون و رفعت من فوقه كتابي، ابحث تحته عن تلك الرسالة التي تركها ذلك الضيف لأخي.. و قلبت اوراق الكتاب و لكني لم اعثر سوى على الورقة البيضاء التي أشرت بها بداية الامتحان”.
فمستوى الاسترجاع لحادثة الرسالة مستوى زمني قريب، اذ هيمن الاسترجاع الداخلي الذي تظافر مع المونولوج في الكشف عن التوهم الذي أوقعت به البطلة. فعدم العثور عليها هو الواقع أما ما يخص الرسالة، ما هو الإضرب من ضروب أحلام اليقظة التي خضعت لها البطلة تحت تأثير المشاعر المتأججة في لحظة من لحظات الصفاء النفسي. فهو وهم تعيشه البطلة بدليل عدم وجود الرسالة ابداً.
وتستعيد البطلة في قصة (ولع قديم) تذكرها للخبر الذي قرأته في الصحيفة اثر حدث القصة الغريبة التي سمعتها من البطل عن المرأة التي ماتت سريرياً قبل الولادة و الأطباء ربطوها بجهاز يديم دوران الدم و نبض القلب، فأنجبت بعملية قيصرية.
“تذكرت (سما) أنها قرأت خبراً مشابها في الصحف قبل دقائق.. وإنّ القصة تبدو متشابهة لدرجة انها لا تستطيع ان تجزم فيما إذا كانت لا تزال تقرأ في الصحيفة ام إنها تستمع إليه…”.
فالزمن هنا يفقد قيمته ومعناه إذ جعل البطلة تدور في حركة مكوكية تتأرجح بين الماضي والحاضر. فنحن لا نعلم شيئا عن تلك القصة الغريبة إلا من خلال الاسترجاع الخارجي و العودة الى الوراء بالماضي.
وبعد الاستقصاء الشامل لمجموعاتها القصصية كافة يتضح لنا عدم لجوء القاصة الى الاسترجاع الداخلي، في اغلب قصصها يكون الراوي هو البطل لذا تكون الشخصية واحدة تتمحور نحوها الاحداث.
وبما أنّ الاسترجاع الداخلي غير متوافر فلا نلمس استرجاعاً مزجيا ًفي قصصها.
تصدق الرؤية المستقبلية في قصة (بداية ليل) من خلال توقعات البطل فيما يتعلق بمسألة عدم مجيء سيارة التصليح لإصلاح الخلل الكهربائي بسبب تأخر الوقت. فقد تضمن الحوار الذي دار بين البطل (أبو مروان) و الرجل إشارة الى ذلك:
” اتصلنا بالهاتف وسيأتون لإصلاح الخلل.
قال ابو مروان :
– الساعة تقارب العاشرة… ولم يأت احد .. لعل سيارة التصليح غير موجودة.”
وفي الاقتراب من نهاية القصة، نكشف تحقق حدس البطل وتنبؤاته من الكف عن الانتظار والترقب لسيارة التصليح بعد التيقن من عدم المجيء.
“والرجال الذين ملوا من الثرثرة بانتظار سيارة التصليح ، تسربوا واحدا بعد الآخر الى منازلهم واغلقوا الأبواب جميعا وساد صمت عميق في الزقاق ..”
وهناك بعض المقاطع القصصية ،يلعب الاستباق فيها دور الأنباء التي تمثل حالة الانتظار عند القارئ ، فلا يفهم معناها الا عند نهاية القصة.
فقد برزت هذه الظاهرة ، في قصة (وحش الشاشة، أو لوحة بالمقلوب) ، التي تفتتحها الراوية بالتذكر والإخبار ، إذ تقول” لا ادري قبل ان اكتب هذه القصة لماذا تذكرت خبراً قرأته في احدى الصحف ، عن لوحة لفنان مشهور كتب النقاد بحقها مئات المقالات والاطاريح وأهدروا من اجلها جراراً من الحبر والجهد، ثم جاء احد الهواة الأثرياء ليشتريها ويعلقها في بيته بالمقلوب!”.
2- المدة (زمن القصة ، زمن الخطاب) من حيث السرعة والبطء
إنّ التنافر بين الحكاية والسرد يعني موجود زمنين ، احدهما زمن الحكاية والآخر زمن السرد. العلاقة بينهما يبين أشكالاَ مختلفة من السرد تختلف باختلاف سرعة الحكاية. إذ تقود السرعة بين زمن الحكاية وزمن السرد الى استقصاء سرعة سرد الحوادث وبطئها. وهنا يحتاج القاص الى تلخيص بعض الحوادث الروائية او إهمال بعضها الآخر وهذا يؤثر في زمن السرد، فيجعله يسرع في حركته قليلاً او كثيراً. فهناك أشكال مختلفة من السرد أجمع الباحثون والنقاد على أنها الأربعة الآتية: (الوقفة والموجز أو الخلاصة والمشهد والحذف) و التي يمكن تصنيفها من حيث السرعة و البطء في الزمن الى التسريع الزمني و البطء الزمني. و يتضمن الاول (الخلاصة و الحذف) بينما يتضمن الثاني (المشهد و التوقف).
أ. التسريع الزمني
1) الخلاصة ( الإيجاز أو الموجز): سرد حوادث ووقائع يفترض انها جرت في سنوات أو أيام ، اي “تقوم على اساس إيجاز الاحداث وتلخيصها وعرض الأحداث التي تقع في مدة زمنية طويلة في مقاطع سردية قصيرة”.
ففي قصة ( وحش الشاشة أو لوحة بالمقلوب) تقدم لنا الراوية / البطلة تلخيصاً موجزاً لمدة زمنية غير محددة ، قد تكون أياماً أو شهوراً أو سنوات، من خلال استرجاعها وتذكرها لاحد الهواة الأثرياء الذي اشترى لوحة فنان مشهور يجهل قيمتها وفنها عند الآخرين، فيعلقها في بيته بالمقلوب.
“لا أدري قبل أن اكتب هذه القصة لماذا تذكرت خبراً قرأته في إحدى الصحف عنو لوحة لفنان مشهور كتب النقاد بحقها مئات المقالات والأطاريح وأهدروا من أجلها جراراً من الحبر والجهد ثم جاء احد الهواة الأثرياء ليشتريها ويعلقها في بيته بالمقلوب !..”. فالراوية في هذا المقطع لاتتحدث عن جزئيات الخبر ولاتدخل في تفاصيل دقيقة. بل اكتفت بشكل موجز وملخص عن طريق استرجاعها للخبر الذي قرأته في الصحيفة. وعرض الحدث بصورة مختصرة ومن الممكن ان يكون سبباً لخلق احداث حدثت في القصة.
وفي قصة ( رومانس ) يأخذ الاسترجاع عنصرا مهما في قاموس ذكريات البطلة. فمن خلال تذكرها تقوم بتلخيص أحداث ست عشرة سنة قضتها الشخصية في الأسر:
“بماذا يذكرني غيابه ؟ بجارنا الأسير الذي عاد في العيد الماضي من ايران بعد ست عشرة سنة قضاها في معسكر قرب الحدود الإيرانية الروسية .. أولاده لايعرفونه.. وبناته يخجلن منه وكأنه رجل غريب…”. فبالبطلة تروي بمقطع سردي مختصر عدم مقدرة الأولاد على التآلف مع والدهم الذي عاد من الأسر. فالسنوات التي مضت جعلتهم يشعرون بالغربة والخجل ازاءه.
2) الحذف : تقنية زمنية ” تقوم على أساس حذف الأحداث التي تقع في مدة زمنية معينة والإشارة الى تللك الفترة “. فهو من الأشكال السردية للقصة تتكون من إشارات مقتضبة تكون محددة أو غير محددة للمدة الزمنية التي تستغرقها الأحداث في تناميها باتجاه المستقبل وبتراجعها إلى الماضي. وهو نوعان : ظاهري وضمني.
1- الظاهري: وهو ” الذي يشير إليه الكاتب في عبارات موجزة جداً مثل (وقضت عشرسنوات) أو (بعد عدة أسابيع ).”
2- الضمني: ” ويتم الانتقال فيه من مدة إلى أخرى بعيداُ عن التحديد الدقيق “.
ففي قصة (إذن من طين) تتضح المدة المحذوفة والمذكورة في النص ( منذ شهور) التي تسببها سهرات الجيران وصيحاتهم وإحتفالاتهم ، بعد ماكان المنزل عائماً في الهدوء والسكينة. فتقول ذلك المنزل فارغ منذ شهور … باعه صاحبه لمكتب عقارات، بخمسة ملايين ثم شمخ به المكتب العقاري إلى سقوف مرصعة مرفوعة إلى أعمدة عالية بالنقوش والأفاريز والآيات القرآنية، ومعروض للبيع بثمانية وثلاثين هذه المرة..”
ومن الحذف الظاهري الذي يستطيع القارئ أو المتلقي استنباطه ما نجده في قصة (حشرات)، إذ إن الحقبة المحذوفة (ثلاثة أشهر) وهي مدة زمنية أسقطت من زمن القصة. فقبل عودة الحشرات ورجوعها لتدب وتنتشر في أرجاء المنزل ثمة مدة محذوفة مذكورة وهي ( ثلاثة أشهر) لم يتحدث البطل عنها وعن أحداثها.
” مرت ثلاثة أشهر، عادت فيها أرجل الحشرات لتدب في أرجاء المنزل، وشمرت بعض الصراصير عن لوامسها الطويلة التي ظهرت من فوهات المجاري…”
أما الحذف الضمني فقد وظفته القاصة في قصة ( لاتنظر إلى الساعة) عند سرد البطل لمدة مجهولة لايستطيع القارئ الوقوف عليها وتحديدها.
“بقيا وحدهما طويلاً .. بعدك وبعد ان استشهد أخوك جلال .. فقد فعلا ذلك في أواخر أيامهما خوفاً من اللصوص ليرحمهما الله”.
فهذه المدة المجهولة الزمن، أوقعت حدثين مفاجئين في نفسية البطل، هما استشهاد الأخ ثم وفاة والديه.
ب. البطء الزمني
1) المشهد وهو، “على عكس الخلاصة ، يقوم على ذكر الأحداث بتفاصيلها كلها وفيه تتم المساوة بين السرد والحكاية ، أو القصة المتخيلة ، الأمر الذي يجعل السرد في اشد حالة من البطء على عكس التسريع”. وفي المشهد يتم عرض الحدث بتفاصيله وابعاده ، وكأنه حدث مسرحي تتحاور فيه الشخصيات وهي تتحرك وتمشي وتفكر وتندهش .. ولعل السمة الدرامية التي يتسم بها هي التي دعت الى تسميته بالمشهد. فالمشاهد بشكل عام تمثل اللحظة التي يتطابق فيها زمن السرد بزمن القصة من حيث مدة الاستغراق.
“ويميز (برسي لوبوك) بين نوعين من المشهد، أحدهما تصويري والآخر درامي. فالاول يعتمد على الوصف المسبب للاحداث، وهو الوصف الذي يقدّم للقارئ من خلال تقرير الراوي او القاص” اما الدرامي فيقدّم للشخصية من خلال اقوالها وافعالها، بحيث يختفي الراوي ووجهة نظره وتسود وجهة نظر القارئ.
إنّ تقنية المشهد الدرامي واهميته تكمن في ” حالة التوافق التام بين الزمنين – زمن الخطاب وزمن الحكاية- لايمكن ان يتحقق إلاّ عبر الاسلوب المباشر واقحام الواقع التخيلي في صلب الخطاب “. وهذه التقنية نلحظها في قصص ميسلون هادي، ومثالنا قصة (الليل بالباب) اذ تعكس فيها مشكلة اقتصادية اجتماعية كان قد مر بها العراق في حقبة التسعينيات من خلال الحوار بين الشخصيات والوصف فتقول الراوية :
“حملت الفانوس الى غرفة المعيشة فبدا لها ان سقف الغرفة أصبح مقبباً أنّ الاثاث تتحول الى قميء وداكن وشبيه بأجداث الاشجار والنخيل اليابس : ابنتها كانت لاتزال متكورة على الارض وقد اصبح رأسها صغيراً واختفت ملامحها في الظلام.
قال الأب :
– أين كنت ؟
قالت له وهي تنظر عبر النافذة المفتوحة:
– يحدث شيء غريب في الخارج. انمحت الجدران والشوارع والبيوت.. وأصبحت الارض مستوية تحت ضوء القمر.
قال الأب:
– الظلام حالك … انه يظللك ؟
قالت :
– إنّها ليلة مقمرة تعال وانظر.”
اذ يعرض هذا المشهد صورة واضحة عن أحوال المجتمع العراقي وماكان يعانيه من ظروف قاسية، حيث انقطاع التيار الكهربائي جعل محتويات الغرفة تتحول الى ظلام حالك وداكن. ولم تقتصر القصة على هذا المشهد الدرامي الذي تعمدت فيه القاصة الى مسرحته، بل اشتملت القصة كلها على مجموعة من المشاهد الدرامية.
وينطلق الراوي أو القاص من خلال ذهنية الشخصية ومنولوجوها (تيار الوعي)، فتروي البطلة/ الراوية قصتها كلها عن طريق المشهد التصويري الذي تنعدم فيه الحوارات بين الشخصيات. فالكاتبة تحرص على تصوير دقيق لواقع البطلة الذي يفيض بالوحدة والوحشة، فهو مشهد واقعي حزين تصور فيه الكاتبة جانباً من كآبة البطلة واحساسها بالوحدة. فكل ما يدور حولها غارق في العتمة والسكون، وهذا ما يشير الى اغترابها مع نفسها وذاتها. فتقول:
” انهض من الفراش والدوار يلازمني .. واقف ازاء النافذة انظر الى الحديقة الغارقة في العتمة والسكون.. يلقي مصباح الشارع بعضاً من نوره على الحديقة المظلمة فيتسلل ذلك النور بشكل موحش وكئيب بين فرجات الاغصان والاشجار.. واتشمم عطره مختلطا مع رائحة النسيم البارد.. وتغرس الاف الافكار مخالبها في روحي .. ويصبح الضوء المنعكس على سطوح اوراق الحمضيات الصقلية دبابيس تغوص في مسام القلب.. وتشتد في الجو رائحة الشتاء…”.
فالراوي يفسح المجال للشخصية لتتحدث عما يجول في خواطرها من مشهد تصويري تقرره القاصة او الراوية وان استخدمت وجهة نظر الشخصية. ومن خلال الاستقصاء لقصص القاصة ، نلحظ الطابع الغالب على قصصها وهو المشهد الدرامي.
2) التوقف : ” وينشأ حين يتوقف السرد. وينشأ الوصف الخالص”.
اي “ايقاف مسار الاحداث المتنامية الى الامام بهدف تقديم مشهد قصد منه التأمل أو شيء ما”
“وهذه التقنية توضح ظاهرتين اثنتين (ظاهرة اهتمام الكاتب بدقائق الموصوف) ظاهرة (الوصف والتحليل النفسي في اطالة المسافة السردية)” وما يلاحظ على مصطلح التوقف أو (الوقفة)، انه لايطلق على شكل من اشكال السرد، بل على الحالة التي يتوقف او ينعدم فيها السرد.
والكاتبة (ميسلون هادي) وظفت هذه التقنية بشكل واضح في قصتها (حياة بالمقلوب) إذ سلطت الضوء على الاهتمام بالمكان، فقدم لنا السارد وصفاً دقيقاً للاطار الذي تعيش فيه البطلة (الغرفة).
“رائحة الغرفة تشبه رائحة خشب مبتل، والجدران مغلفة بورق ابيض مطبوع بورود ناتئة قليلا، في كل وردة منه نقطة ذهبية مضيئة. وعندما تغمض الام عينيها تبقى تلك النقاط على شكل بلورات بيضاء متناثرة، ثم تذوب مع بعضها البعض في شراب الظلمة الدامس.”
إذ اوقفت الكاتبة السرد هنا وبدأت بوصف الغرفة بشكل مفصل ودقيق، وجاء تركيزها على الجانب الحسي من الروائح والالوان وما شاكل ذلك، لكي تشعر القارئ بعنصر الاغتراب والوحدة والافتقار الى الأنيس، فضلاً عن وحشة الظلام الموحي بالكآبة النفسية. فهذه المدلولات توضح الشعور بعدم الانتماء والتآلف في ذلك المكان.
وتوقف الكاتبة في قصة (العراف والشاهد)، مسار الأحداث، لتبدأ وصف التكوين المعماري (مغسلة الدار) إذ تقول الكاتبة على لسان الراوية:
” كانت مغسلة الدار مكونة من اربعة اضلاع بنيت من الحجر على شكل مستطيل يرتفع احد اضلاعه عن الاضلاع الأخرى بمسافة طول ماسورة الماء التي يحيط بها الضلع الجداري ذاك، فما كان يبدو من الماسورة غير رأس حنفيتها الاصفر النابت في الحجر المتثلم وكأنه موجود هناك منذ الأزل …”.
فهنا الوقفة جاءت إيماءة وإشارة الى قدم المكان (البيت) وبساطته الذي يرمز الى سوء الحال المعيش.
الخاتمة
بعد الاستقراء والتحليل يمكننا ان نوجز اهم النتائج التي وصلنا اليها ، التي سنوردها على الشكل الآتي:
• من الناحية الموضوعية:
– نرى تركيز القاصة على الجانب الواقعي (واقع المجتمع العراقي) كما غلب على العديد من قصصها الاسلوب الواقعي ، اذ تناولت احداث واقع المجتمع العراقي ، وجسدتها باسلوب قصصي مؤثر في ذهنية القراء ، لاسيما المعاناة من ناحية واليات القهر التي كان يشهدها العراق في التسعينيات من جراء ما خلفه الحصار الاقتصادي من ناحية اخرى.
– سلطت الضوء على الجانب الوجداني الإنساني، فتعمقت في بواطن المجتمع وما يتمتع به من مشاعر انسانية.
– تبقى النقطة المضيئة في كتابات (ميسلون هادي) تقنية الايهام ،التي اشار اليها النقاد بالابداع، واثنى عليها العديد من الادباء، فكان الايهام جزء من حياة القاصة لا ينفصل عنها، يتمثل في النتيجة بتداخل الحلم باليقظة، فلا تكاد تخلو قصة من قصصها من ( حلم او حلم يقظة او خيال).
– احتلت موضوعات الفقد والفقيد والغياب المصحوب بطول الانتظار ، مكانة في قصصها، وهذا يعود الى ما يختلج في دواخلها من مشاعر وجدانية عكستها باللاوعي على كتابتها.
• اما من الناحية الفنية:
– فيما يخص الاسترجاع ، تعتمد قصص (الكاتبة) الاسترجاع الداخلي، وانعدام الاسترجاع المزجي، اما بالنسبة للاستباق فتفتقر هذه التقنية في قصصها، فتكاد تكون شبه معدومة الا في قصة (بداية ليل).
– فيما يخص بعض القصص، نلحظ في ثناياها انها تسبق الاحداث برؤية مستقبلية ، اذ تشمل القصة كلها.
– ثمة قصص يلعب الاستباق فيها دور الانباء،والتي تمثل حالة الانتظار عند القارئ، فلا نفهم معناها الا في نهاية القصة.
– غلبة المشهد الدرامي في قصص القاصة، اما المشهد التصويري فهو قليل جد