المرأة وتحدي الواقع في رواية
حلم وردي فاتح اللون
أ.د.ابتسام مرهون الصفار
بحث مقدم إلى مؤتمر في جامعة الزيتونة/الأردن
- ( حلم وردي فاتح اللون ) رواية كتبتها الروائية العراقية ميسلون هادي وصدرت عن المؤسسة العربية للدراسات والنشرعام 2009 [1]
نستطيع من خلالها ان نقرأ معاناة الأديبة المبدعة وهي تعيش أحداث عصرها فتصورالحياة بتناقضاتها وإشكالياتها، وما تبقى فيها من معالم الجمال التي تكاد تمحوها قسوة الأحداث وعنفها.
كتبت الروائية قبل هذا روايات وقصص كثيرة ، لعل أهمها مما يمت بالموضوع بصلة كبيرة رواية (نبوءة فرعون ) التي صدرت عام 2007 ،والتي تخرج منها بقناعة برفض الحرب ، الأمر الذي صرحت به بعد استضافتها في جامعة هارفرد حين قالت : أنها لم تؤمن في يوم من الأيام بأن نوايا قادة الحرب نوايا طيبة، لأنها ككاتبة لا تثق بتصريحات السياسيين الامريكين المعلنة، إنما تثق باللاوعي والأحلام وتعابير الوجه.[2]
ورواية حلم وردي تعالج فيها ميسلون هادي من خلال منظور المرأة وإبداعها قضايا فكرية واجتماعية ببناء روائي محكم ، فصورت دقائق الحياة في مجتمع يبدو من الخارج وقد مزقته الحرب ،وشوهته أقدام المحتلين والدخلاء،لكن الكاتبة نجحت في تصويرأعماقه من الداخل، فرسمت لنا الوجه الآخر للناس الواعين لما يحدث حولهم، ,وأظهرت من خلال الحوارات والذكريات المشاعرالإنسانية التي تحدّت الوجه البغيض الطافي ، والإرادة التي تتجاوز الكلمات إلى الفعل ، لتعيد .للحياة ألقها ، وللشباب عنفوانه رغم القهر والعنف .
يحاول البحث تلمس وجوه المرأة التي صورتها الروائية في روايتها هذه؛ للإجابة عن جملة تساؤلات :
– كيف تتصرف المرأة العربية المعاصرة تحت وطأة الواقع المتناقض والمؤلم؟
-وكيف تخرج من قساوة الحياة وأزماتها؟
– هل تنحسر عن العمل بسبب الأخطار المحدقة بها؟
– ما وجوه النساء اللاتي يفرض عليهن الحصار والحرب ، ومن ثم الوحدة والغربة ؟
-ما هي مشاعرها وقد لفّها الخوف والقلق؟
– هل تلجأ الى هجر الوطن بحثا عن الحرية والأمن ؟ أم أن لها موقفا آخر في خضم الخراب والعنف والدم؟
– هل تختفي صور الحب من مجتمع الحرب والعنف ، الحب بجميع أشكاله الإنسانية ؟
-هل ينتهي الحب في عالم الحرب والقسوة؟
– وما مصير الحب في ظروف طغى عليها الدمار والقبح والفزع؟
كل هذه التساؤلات نحاول أن نجد لها أجوبة من خلال إعادة رسم الملامح التي أبدعت الكاتبة ميسلون هادي في رسمها وتصويرها، فثمة عناية بالمرأة بشخصياتها المختلفة في هذه الرواية، وإن لم نعدم وجود الرجل عنصرا آخر فيها بدا ثانويا وهامشيا إزاء صور المرأة حتى دخول ياسر الذي أثار إعجاب فادية في أيام قلائل لم تتجاوز السبعة أيام وما ذلك إلا لعناية الكاتبة بتصوير هذا الوجه من وجوه الحياة .
تمثل البطلة فادية الراوية للأحداث الأنموذج الإيجابي للمراة التي تتحدى الواقع بثقافةعالية ونفسية متفتحة مع ما تعانيه من إحساس بالقهر والدمار….
فهي أستاذة جامعية تغادر العراق إلى ليبيا ، ولكنها ما تلبث أن تعود بعد الاحتلال ، وتصر على العمل مع غياب الأمن والاستقرار،فأهلها هجّروا من منطقة الغزالية ( وهي منطقة شهدت عنفا طائفيا)، وأخوها هاجر ألى مصر وبقية الأقرباء مشتتون في أماكن متباعدة تصعب حتى زيارتهم في الأعياد [3].
وتعرض عليها صديقتها وزميلتها في ليبيا ان تسأجر منزل جدها الذي هجرته العائلة وفعلا تستاجره فادية، وتحاول بعث الحياة في الرماد المتراكم ….وبرسم فرشاة الجمال..
تبدو فادية وجها متميزا في بلد يتصاعد فيه الدخان وتتلعلع فيه أصوات الانفجارات والإطلاقات ويواجه الناس فيه الموت المجاني في كل مكان.
تحاول فادية أن ترسم حياتها الخاصة في منزلها الجديد بما يبعدها عن مشاهد الرعب والخوف ، ويظهر هذا في محاولة بعث الحياة في حديقة المنزل؛ لأن الحديقة مسالمة ..هي المكان الوحيد الذي لا نشعر فيه بالخطر ، ولأنها لا يمكن أن تتهددك أو تتربص بك[4]
هكذا اجابت ياسر حين أبدى إعجابه بحديقتها وتنسيقها.
لقد شكلت الروائية مكانا فضائيا لها صبّت عليه كل اهتماماتها ، صار ملاذها الأول ، وأما الفضاء الخارجي فقد أخرجته من فضائها الروائي، وأضفت على هذا الفضاء المكاني كل أحاسيسها أو فلنقل كل اهتماماتها ، لتغير من معاناتها من الفضاء الخارجي الذي عمّه الدمارالى الفضاء الداخلي علّها تمنحه بعض الجمال المسلوب واضفت عليه ماعندها من علم النبات ،العلم الذي تخصصت فيه فنراها تقول :
إن بعض النباتات تقوم بإرسال نداء استغاثة من الأوراق إلى الجذور لدى تعرضها للهجوم من بكتريا ضارة … وهنا نجد فادية تجمع بين الرمز والحقيقة العلمية ، لأن ياسر يفهم ما تعنيه فيقول :
ما أحوجنا إلى نداء استغاثة من الأوراق إلى الجذور[5]
وفي تنقلات فادية بين ذكريات الماضي الجميل الذي يشرق فيه وجه وطنها الآمن وبين المشاهد المختلفة التي ترصدها يوميا ، سواء من شباك منزلها او في طريقها إلى الجامعة ، في هذه التنقلات ترسم صورة متباينة لملامح وطن جميل تعتز به ، ووطن ممزق تتألم له، ولا تستطيع مبارحته .
إن فادية بطلة الرواية تتحدى الواقع المرير الذي تعيشه بين خراب بلدها وحياة الوحدة التي أجبرتها عليها الظروف ، ويبدوتحديها في أكثر من جانب من جوانب حياتها خلال أحداث الرواية.
1- وجود السواتر والقواطع الكونكريتية ومفارزالتفتيش، كل هذا لم يمنعها من الاستمرار في عملها أستاذة في كلية الزراعة ، كانت تقطع الطريق المؤدية إلى الجامعة بسيارتها البرازيلية البيضاء قبل سفرها إلى ليبيا ، وكانت تحيط به الأشجارالمثمرة التي تظهر محاذية للطريق … واستمرت في الذهاب إلى عملها حتى بعد الدمار الذي لحق الطريق المؤدي إليه:
( أصبح الطريق مقفرا تحيط به الأسلاك الشائكة التي تحط عليها الأوساخ ، وأكياس النايلون المتطايرة )
2- تبدو فادية فتاة مثقفة قارئة ، حين تشعر بضيق المكان الفضائي والزماني وهي تنتقل أول مرة في الدار التي استأجرتها من صديقتها، ترى جريدة مطوية تحت جهاز الهاتف تعود لعام مضى منذ أن كانت في ليبيا[6]
وحين استقر بها المقام في البيت الذي استأجرته لم تلتفت الى المكتبة التي تركها مالكو الدار في غرفة الجلوس (يبدو أنها لا تتطفل لمعرفة حاجات الآخرين) ،لكنها تقول:
فقط رحت أقلّب الكتب التي تركتها طيلة سنوات الحصار في بيت أختي ، وأرتبها الآن في مكتبة مؤقتة مرتجلةF ؛لأجد فيها أياما وتواريخ وعناوين تعود الى عشر سنوات خلت ……
وكانت تعود الى المجلات القديمة خاصة تقلب فيها صفحات ماض جميل[7]
ويبدوأن فادية كانت تسجل ملاحظاتها كقارئة على صفحات بعض الكتب:
( الظلام بدأ ينتشر بالتدريج ، ولم أعد أتمكن من قراءة ما كتبته بخط يدي على صفحات بعض الكتب ، فتركت الغرفة المبعثرة المظلمة ، وصعدت إلى السطح لأتنسم قليلا من هواء الله النقي )[8]
وتعود فادية الى الكتب وهي في أشد المعاناة مما يحيط بها من صور الخوف والدمار، فتتذكر عادة شعبية كانت جدتها تمارسها ، وهي تحصين البيت وأهل البيت بسور سليمان ، فأي دعاء ينفع في ذلك الوضع الشاذ( الآن لم تعد البيوت وحدها محصنة بالأسوار ، ولكن الشوارع والساحات والجسور شأنها شأن السجون و المعتقلات محاطة بالجدران والحصون والسيطرات ، وبين كل جدار وجدار يوجد جدار ، وجدار سليمان هو نفسه ربما يحتاج إلى سور يحميه ، ويحصنه من كل مكروه)30وفادية هنا تسترسل في خيالها وهي ترى الأسوار والجدران التي تحدّ الحركة، وتربطها بسور سليمان الذي كانت جدتها تحصن به الدار، وكأنها تريد أن تربطها بالرغبة أو الفكرة القائلة أن هذه القواطع لحماية الناس والمارة.ومع ذلك تعود الى الكتب التي بين يديها بحثا عن سور سليمان.
ولا تبدو فادية القارئة المثقفة شخصية مبتعدة عن واقعها منزوية بين صفحات كتبها ولكنها فتاة واقعية لا تعود إلى الكتب في الظروف العصيبة التي يمر بها بلدها إلا في بعض الحالات التي تستشعرفيها ضرورة العودة إليها :
(مرّ الزمان طويلا على تلك الأيام التي كنت أنقل فيها الاقتباسات من الكتب وأحفظها في دفتر خاص، أحفظه بين كتب وكتب وكتب ،جعلتني أرى السهوب والكهوف المظلمة التي صادفتني في الطريق أجمل من الوصول إلى نهاية الطريق ، تارة في شمس ساطعة ، وأخرى في كهف مظلم ..تلك هي درابين الكتب).
والمفارقة التي تصورها الكاتبة أن بطلتها حاولت ان تستبدل عادة القراءة والاقتباسات من الكتب التي كانت تمارسها في (آخر ذيول الزمن الهارب) بعادة أخرى هي التسوق :
(أما الآن فإن خارطتي يرسمها سوق سهام العبيدي الذي عادة ما أبدأ به ، وبما حوله من متاهات ، أتنقل بعده بين الأفران والمحال وباعة الخضروات أو أتوقف عند المشتل أو المكوى الكهربائي أو الصيدلية ) [9]
أنه تحد آخر لواقع الضياع الذي تعيشه فتاة مثقفة تفرض عليها ظروف الحرب والخوف مع الاحتلال.
3- مع كل ما يحيط فادية من دمار الحرب وتداعياتها ووجود الجنود الأمريكان نجدها غير منقطعة عن عالمها ،وشخصيتها الباحثة عن الجمال الذي تتعطش لرؤيته في كل شيء أمامها.إنها تبحث عن الجمال في حدود بيتها لا خارجه ، فقد اختفى الجمال (وربما احتاج الأمر إلى تلسكوب فضائي جبار لاكتشاف ما تبقى من جمال خافت لا زال موجودا تحت غبار الحرب وكونكريت الحواجز ومخلفات الانقاض)
وكانت محاولتها إزاحة الغبار الأحمر من على وجه بيتها محاولة لاستعادة بعض وجوه الجمال الغائرة :
(أحاول أن أزيح عنه طبقات الغبارالأحمر التي تطمر البيت بين عاصفة وأخرى ، يجعل الماء ينهمر ويطرطش في أرجاء البيت ؛ليعيد له رئحة الطابوق الأولى ويغسله إلى جمال قديم وهو الوحيد الذي تبّقى بين خرائب العالم الخارجي الذي لم يعد له وجود)
و نجد هذا في انطباعها الاول للبيت الذي استأجرته:
الطيور كثيرة توقظني من النوم أصوات تغريدها، وكأنني في الفردوس ..بلابل وعصافير وحمائم لا تكف عن التنطط والضحك والثرثرة والتنقل حافية من غصن الى آخر قريرة العين مسرورة وقادرة أن تنقل عدوى سرورها اليك في لحظات..هذا هو البيت الذي أريد.؟
ونجد إحساسها بالجمال وجها آخر من وجوه تحدي الواقع المظلم ، يظهر هذا في علاقاتها الحميمية وحواراتها مع الآخرين ،فحتى الأوراق المتساقطة التي يأتي اليها فتى حدائقي تصفها بمنظار الجمال :
تنكة الأوراق المتساقطة التي يلتقطها الحدائقي ، وينظف أرضية الحديقة منها تنطق بجمال الطبيعة حتى في فضلاتها وأوساخها . [10]
وتصف في موضع آخر مشهد حديقتها :
عادت العصافير والبلابل إلى التنطط وتبادل الأسرار والقهقهات ، وكان صندوق القمامة قد امتلا باكياس مكورة ومعقودة بإحكام ..كنت أملأها كل يوم بورق وقداح الأشجار المتساقطة الى الارض.الديدان التي كنت اعثر عليها في الزوايا ،كانت أجمل من أن تجرفها المكنسة..وبيوت النمل التي تشبه فتحاتها فوهات البراكين تشي بأن أربابها من أصحاب الذوق الرفيع [11]
4- هناك وجه آخر من وجوه تحدي الواقع في شخصية فادية و يظهر في محاولتها بعث الحياة في عالمها الصغير (البيت )، ولم تمنعها الحرائق وآثار الدمار في الخارج من طلب صباغ يعيد بعض ملامح الجمال في دارها، وتطلب منه أن يصبغ غرفة الجلوس ويصبغ الباب الخارجي بلونين يتناقضان من طرف الى آخر …الأبيض في مواجهة الشارع والأخضر الباهت بمواجهة الحديقة، والصباغ يبدي تعجبه من اختيارها اللونين ..ولكنه اختياريدل على ذوق وتحسس للجمال.
5- ونستطيع ان نلمح اصرارها على تغيير معالم الدمار المحيطة بها، وتحدي صور الخراب المحيطة بها بتغيير ملامح الحياة الجامدة في منزلها الجديد، فتستمر بشراء شتلات الزرع الجديدة ،وتوجه الحدائقي الى أماكن زراعتها ، فيتساءل الحدائقي نفسه محتدا أكثر منه مندهشا:
من أين تأتين بكل هذه السنادين؟ وكل المشاتل مقفلة؟ فتجيبه أن هناك مشتلا واحدا ما زال يجازف بالبقاء مفتوحا قرب..
فهي استاذة جامعية وتعمل في كلية الزراعة وان الزراعة والتمشي جزء من هواياتها[12]
ويجيبها الحدائقي :
-عفية عليك :،هم(يعني أيضا) ..وفلاّحة وأستاذة
فادية تحمل من الذكاء والفراسة ما هيأ لها سبر نفسيات من تلتقي بهم ، فهي تحاول أن تستخرج الوجه الطيب اللطيف الذي حدثها عنه الصباغ ، إنه وجه جارتها ختام
5- الوجه الإيجابي الآخر لبطلة الرواية أنها ترصد الحياة بجزئياتها البسيطة ، وانفعالاتها وذكرياتها بشكل لا يمكن أن تعد كتابتها كتابة وثائقية، إلا أنها كتابة ترصد الحياة من كل جوانبها المرئية وغير المرئية القابعة في الهواجس والذكريات.
وتتصرف بذكاء وانسانية رقيقة مع وضعها الجديد وحيدة محاطة بالخوف والموت
– تدير حوارات حميمية وصادقة مع الصباغ الذي استدعته ليصبغ غرفة جلوسها ، ولكن عبارة قصيرة تدل على حذرها العفوي ، فهل لم تغلق باب الغرفة التي جلسا فيها إنما تركتها مفتوحة بعض الشيء:
(ثم رفع عقب السيكارة ، ورماه بحركة خاطفة إلى الخارج ، من خلال فتحة الباب الذي تركته مواربا بين المرآب وغرفة الجلوس)13
وهي تشعر بسرور بالغ حين يمر عليها الصباغ بهد انتهاء حظر التجوال هو ووجهه الباسم يفصح عن نفس نقية ويمتاز بالطيبة والسذاجة.
( جالسا بين المرآب وغرفة الجلوس مع الفتى الحدائقي الذي يزورها باستمرار؛ لينظف لها الحديقة وتحاول أن تثنيه عن السفر الى الديوانية حتى تهدأ الأحوال في بغداد .
أين تذهب ؟لا تذهب ..ابق هنا في هذا الحي، وهذا الشارع قد خلا من سكانه أوكاد كما ترى ،وانت الوحيد الذي يأتي إليّ بين صباح وآخر،فأشعر بأني على قيد الحياة [13]
ويبرزلها وجه آخرإيجابي وشجاع في آن واحد ، يقدم عليها الحدائقي يوما والدم يلطخ يديه ، فتدخله بسرعة ، لتفهم بعد ذلك أن غرباء قتلوا شابا، وحاول هو أن ينقذه ، لكنهم فتحوا النار عليه ….ومع انها أغمي عليها حين رأت الجرح الغائر في رأسه ، لكنها بعد أن أفاقت عرفت أنه أخذ الى المستشفى ، وتبقى صورته في ذهنها ، تبقى قلقة عليه حتى بعد أن أكد الجيران أنه سافر إلى أهله.
لم تنظر فادية الى الحدائقي نظرة متعالية ، إنما هو إنسان يعيش معها الواقع المرير، وتتعاطف معه وتقلق عليه. لقد حاولت إنقاذه وهي تعرف أن هناك من سيلاحقه ويؤذيه ،لأنه حاول أن يقدم المعونة الانسانية ،لإنسان مايزال فيه رمق من الحياة .
ولم تسم الكاتبة القتلة إرهابيين أو أي اسم من أسماء الميليشيات ، ولكنها بدت واعية ودقيقة حين أطلقت اسم (الجماعة) وهي تسمية ذكية لها أبعادها الفكرية.
ومن خلال ذكرياتها التي استعادتها مع الحدائقي نجدها متحدية للواقع منذ أول أيام الحصار والحرب،فقد وصفت له المسافة الطويلة التي قطعتها مشيا على الأقدام(هل تصدق أني مشيت مرة من ساحة النسور في الكرخ إلى معرض بغداد ، فمنزه الزوراء ، فساحة المتحف ، ثم عبرت جسر الإذاعة إلى الرصافة ، وقطعت شارع الرشيد مشيا على الأقدام إلى الشورجة ),ومن يعرف هذه المناطق تأخذه الدهشة كيف استطاعت قطع كل هذه المسافة مشيا على الأقدام ؟ ولكنه يصدق حين يعيش أو يتعايش مع الواقع المرير أيام الحصار، الذي لا يمكن أن يعيش فيه المرء إلاّ من خلال تحدي واقعه ، وقد تحدت البطلة واقع انقطاع الاتصال والمواصلات أيام الحصار ، ومشت كل تلك المسافات الطويلة ، في سبيل ماذا؟شراء(ثلاث لالات ومنقلة لأهلها) وهي من المتطلبات البدائية التي عادت إلى الوجود في تلك المرحلة عوض الكهرباء ووسائل التدفئة التي قطعت عن المواطن.
الوجه الإيجابي الآخر لفادية يظهر في وعيها العفوي إزاء التناقضات التي جاءت مع المحتل، فهي تقف بعيدا عن التنافرات التي يشهدها المجتمع ، والتناقضات المختلفة المفتعلة بين القوميات و الأديان .فهي تصف المكان الذي تعيش فيه ، وتراه صار مكانا للموت والدمار دون أن تجعله حكرا على طائفة دون أخرى ، لأن وعيها يجعلها متيقنة أن الموت بالمرصاد لكل طائفة ،مكان جيد للموت لا للحياة ، الموت واحد وإن اختلفت الأسماء..تارة أبو عمر الذي قتل وهو واقف في باب بيته ، وتارة أبو حيدر الذي باغته الرصاص وهو يقفل محله قبل أن يذهب إلى البيت) دون أن تخص طائفة به أو تتهم أخرى [14]
فمالكة البيت تعود من الموصل وتعرّفها بنفسها ، وقد جاءت بابنها معها ؛لتخبأه في دار جدّه ، لأن الأمريكان يلاحقونه بتهمة باطلة .ومن خلال الحوار نفهم وعي بطلة الرواية ؛فالسيدة التي لجأت إليها مسيحية تزوجت زوجها المسلم، وعاشت في البيت الكبير مع أهله ، وأبيه وأخيه.
حين يقتحم الأمريكان دارفادية، يختبأ ياسر الهارب من أمر إلقاء القبض عليه و ينتابها الخوف والرعب ، فتسرع لتقرأ آية الكرسي ، لكنها لهول الموقف نسيت تكملتها، وتتلعثم ولا تستطيع إكمالها فتطلب من أم ياسر أن تذكرّها بها ،وتفاجأ بأن أم ياسر لا تحفظ آية الكرسي؛ لأنها مسيحية فتطلب منها دعاء آخر:
(لم أكن أعلم أن سارة والدتها مسيحية ، ولا خطر في بالي ذلك قبل الآن ، وأنا أراها ترسم على وجهها وكتفيها علامة الصليب .قلت لها:
أدعي إذن مريم العذراء أن تقف بجانبه ، والمخلّص أن ينقذه ،واطلبي من كل المظلومين أن يخلصونا من هذه الورطة.)[15]
الروائية تعبر بعفوية جميلة محاطة بالخوف والفزع لحظة معرفتها لدين أم ياسر ،مما يجعل القاريء يحس بطبيعة الموقف المتعايش بين المسلمين والمسيحيين، إذ لا شيء يعكر العلاقة الانسانية بين فادية وضيفتها المسيحية .، والعكس صحيح أيضا فتعاطفها مع هذه السيدة وطلبها منها أن تدعو السيدة مريم .أنه وحدة الرسالات السماوية التي عاش فيها المسلمون والمسيحيون بتآلف ومحبة.[16]
وتستثار رومانسية فادية وانسجام نفسيتها المتفتحة نحو الخير والجمال حين يخرج الأمريكان من دارها وتشعر بالأمن ويصعد ضيفها ياسر المطارد مع أمه إلى غرفته في الطابق العلوي ويواجه آلة البيانو التي تركت فترة مغطاة بعد هجر أهل الدار لدارهم ، يجلس ياسر ويبدأ بالعزف ، فتشعر فادية بوحدة التناغم الكوني بين عشق ياسر لعزفه ،وجمال الإيقاع الذي يفتح إحساسها بكل شيء جميل حولها .تقول واصفة عزف ياسر الجميل:
(كان يقتطف من ذلك العزف وجها آخر غير الذي دخل به إلى المنزل ، وغير الذي وقف به على السّلم ، وغير أي وجه آخر رأيته عليه في ثلاثة أيام .كان عاشقا بامتياز ، وتلك هي معشوقته التي طال غيابها عنه ، وهو الآن يملكها ويحبها كما يشاء ، ولم يكن بينها وبينه غير الفراق الطويل ، والآن يعانقها فتنطق تحت أصابعه بالغزل )
وتنفعل لنغم البيانووعزف ياسر الجميل ، فتنسى ساعة الرعب والخوف التي مرت عليهم حين داهمهم الأمريكان في منزلهم،فيبدو استمتاعها بالعزف تحديا آخر للواقع المؤلم الذي تعيشه في منزلها:
( غناؤها (البيانو) ما هو إلا نغمة جرس تنطلق من هذا المكان الخفي من الكون ، لتتناغم مع غناء العصافير وصياح الديكة وتفتح الورود .إن هذه النغمة لتنسجم الآن مع كل نغمات الكائنات الحية للماء والهواء والشجر مع أشعة الشمس في الصحارى والغابات والحقول . ومع هذا الكون الذي أحببته الآن .فهذا شيء عظيم ، وإن أحببت خالقه فهذا هو الشيء الاعظم )[17] مثل هذه الشخصية التي تجمع الإعجاب بالعزف وصاحبه ،وتستشعر جمال الكون،والإحساس بجمال الطبيعة بشيء من التصوف والرومانسية ، مثل هذه الشخصية تعطي للقاريء إيحاء بأنها شخصية لا يمكن أن تستسلم أو تنهزم.
وتحس بتصرفات فادية الواقعية حين تجمعها جلسة قرب ياسر وهو يعتذر لها بصدق عن تصرفاته في الأيام الثلاثة التي مرّت في منزلها قال:
كنت عصبي المزاج ولم أكن على ما يرام .
هنا يأتي حوار فادية مع نفسها ؛ليعيدنا إلى احساس أي فتاة حين تكون قرب من تحب أو تعجب به:
(لو عرفت أنه سيجلس بهذا القرب لوضعت بعض الزينة على وجهي ، وهذا ما لم أكن أفعله في الأيام الماضية).
وقد يتوقع القاريء أن تتهيأ فادية بشيء من الزينة بعد هذا الحوار ، ولكنه يفاجأ بشخصيتها نفسها المتحدية للواقع، المتأقلمة مع تحدياته ، لأنها سرعان ما تتذكر ذهابها إلى الجامعة مع زميلتها ريم :
(لوعرفت أنه سيجلس بهذا القرب لوضعت بعض الزينة على وجهي ..وهذا ما لم أكن أ فعله في الأيام الماضية ؛إذ كنت أخرج من البيت بأكثر الملابس بساطة وبدون حل أتجمل بها أو زينة أضعهاعلى وجهي سوى كحل العين وهذا شيءقريب مما تفعله ريم مع سيارتها التي تقول هي عنها إنها أصبحت لا تمسح عنها التراب , لكي لا تبدو نشازا وسط الخراب الذي يحيط بها) [18]
وفي القصة تعاطف واهتمام تحسه فادية نحو بيت جارتها ختام التي تكتشف آخر الرواية أنها صابئية ، ولا تغير هذه المعرفة موقفها أو مشاعرها من جارتها ومع ذلك تنتقل للعيش معها في منزلها….وهنا يبدو التنوع الديني جزء من حياة المجتمع العراقي ، وهوكما عرضته الرواية هو بلا رتوش ، وليس بحاجة إلى تأويل أو دفاع.
ختام هذه أنموذج آخر للمرأة في مواجهة الواقع، فقد رسمت لها الروائية لوحتين الأولى شخصية مضطربة غريبة الأحوال ، والثانية لها مواقف جادة تحدت فيها الواقع وواجهت الجنود الأمريكان بجرأة كبيرة.
وهي كما حدثها صباغ الدار ابنة الشيخ عبد الله اشترته من خطيبها و ابن عمها الطبيب الذي هاجر الى امريكا، وعاد ليتزوجها وطلب منها أن تهاجرمعه فرفضت وهاجر وحده .وفي هذا الحدث الذي تسترجعه أكثر من مرة دلالة كبيرة على رفض الفتاة الهجرة من بلدها ، وإن كان الرفض سيفقدها علاقتها مع ابن عمها الذي أحبته ، وفضلت حياتها في وطنهامع الحسرة والألم في داخلها والرعب والخوف والتهديد خارج منزلها. هذا وتبقى ختام شخصية قوية مع كل ما يبدوعليها من اضطراب ،وتصرفات تدل على أنها ليست بسوية الشخصية كفادية مثلا.
ختام تتصرف تصرفات غريبةا( فهي غريبة الأطوار ، ولكنها فائقة الذكاء )[19]:
– في الوقت الذي سمعت فيه فادية أصوات الجنود الأمريكان القادمين صوب شارعهم، وصوت دبابة ،كأنها تدور على نفسها، وتردد ضجة أبواب تفتح وتتعالى بعدها الصيحات مرةأخرى ..بعدها عاد الصمت .في هذه الأجواء تبرزختام غير مكترثة للضجة ،فترفع قفص كناري عاليا وترميه بعيدا في عرض الشارع فيسقط سقطة مدوية ، يشعر فادية بالهلع أشد مما أثاره صوت الرصاص وضجة .[20]
تشعل ختام النار في حديقتها وحين تذهب اليها فادية تكتشف أنها ترمي في النار كل الذكريات التي تربطها بالماضي ، وأنها كانت تشعر بنشوة وهي تحرق بطاقات سفر ومعايدات وعشرات الرسائل التي تحمل طوابع بريد تذكارية لشخصيات عربية وعالمية ، وكانها تريد أن تتحدى واقعها وخيبتها بقطع كل جسور الذكرى مع الماضي .
هذا الموقف في حدّ ذاته يشكل تحديا للواقع المهزوم الذي آلى إليه حال ختام ، وما حرقها لكل شيء يذكرها بالماضي إلا محاولة للتحدي وقمع الواقع والبداية الجديدة
– تسمع فادية غمغمة ووشوشة من بين الأغصان المتعرشة قرب الباب في إحدى الليالي المظلمة وقد تجاوزت الساعة الواحدة ليلا فتذعر، وتلتفت ،فتفاجا بصوت ختام تسالها :اين أنت؟وحين تتجه اليها وتعرض عليها الدخول تستديرختام فجأة، وتعود الى منزلها دون أن تتفوه بكلمة .
في عتمة الليل تخرج ختام لترمي بقوة كرسيا من وراء باب حديقتها الى الشارع ، وتنظر الى الكرسي ثم الى بيت جارتها فادية .
حدث هذا بعد أن حدث انفجار قريب حطم بعض زجاج النوافذ وحلقت المروحيات في الجو ،وجاءت سيارات الشرطة وصفاراتها تعوي من بعيد. هنا نرى وصفا لختام يجعلنا نظن أنها مجنونة فعلا :
(سمعت أصوات الأمريكان فجأة تتوالى من مكان قريب .موف…موف..Move Move …Move…كو…كو…كو..GO..GO… GOقلت :إذن شارعنا قد أغلق ،وربما سنتعرض بعد قليل الى حملة تفتيش ضارية ،فإذا بي أرى ختام وكأنها في واد والدنيا المقلوبة رأسا على عقب في واد آخر..كانت تسير بين الورود بحذاء سكاربيني[21] أحمر اللون وتضع على عينيها نظارة شمسية سوداء ذكرتني بتلك التي كان الميت الذي حدثني عنه عمار يضعها على عينيه عندما مات ثلاث مرات ..كانت تسير مزهوة مستبدة وكأنها ملكة تمشي بين حفاة ..رأسها مرفوع بكبرياء فوق أرض تعتقدها على ما يبدو منصة لا يراها أحد سواها ، ولا تسمع من يصرخ بها، لأنها لا تراه ولا ترى شيئا سوى ما تظن أنه منصة )48
وصف وضعية ختام هذا يجعل القاريء لا يشك مطلقا في كونها مجنونة لا تدرك الخطر الرهيب الذي تواجهه ، خاصة حين يضاف وصف آخر لتصرف غريب جدا وهو أنها لا تجيب الجندي الأمريكي الذي يوجه إليها عبارة : هل تسمعيننني؟ يكررها مرتين وهي لا تلتفت إليه ، وإنما تستمر بعملها االمشغولة به:
( قد كوّمت قرب الباب أربعة كراس خشبية مع منضدة وضعت فوقها سجادة قديمة بحال جيدة وكومة من الستائر وصوبة علاء الدين وسماور وساعة …
نفاجأ بختام بعد هذا المشهد الجنوني وبعد أن يكرر عليها الجندي الأمريكي سؤال : هل تسمعينني؟
قالت وهي تنظر إليه أول مرة :
-عذرا لا أريد أن أسمعكم.
إنه إصرار واع ، وجواب ذكي له دلالته ، ولا يمكن أن يكون صادرا عن مجنونة
نظر إليها بنفاذ صبر :ما هذا؟
تقدم المترجم لينقل لها كلام الأمريكي ، ولكنها استوقفته ثم خلعت نظارتها الشمسية وقالت بالانكليزية:
- سجادة أ لم تر سجادة في حياتك؟
- قال:
- وماذا يوجد في داخلها ؟
- اقترب منها أكثر وقال: ماذا يوجد في داخلها؟
- قالت وهي لا تبتسم :
- جثة
هنا يبرزلختام وجه آخر، فتبدو فيه قسمات وجهها مختلفة ،
هذه الإجابة هي التي غيرت وجه ختام الذي يدل على شخصية غريبة مضطربة إلى شخصية قوية تواجه الجنود الأمريكيين بما يثير فزعهم، تحدثهم بالانجليزية ، وليست بحاجة إلى مترجم، مما يجعل المواجهة مباشرة .وهل هنا أكثر ما يثير الخوف أو الاستغراب من وجود جثة ملفوفة في سجادة؟
وفعلا فزع الجنود وشهروا رشاشاتهم ، وقلبوا السجادة بقوة، فانفتحت عن غبار كثيف تصاعد عجاجه في الجو ،واختلط مع هواء الظهيرة الحار، جعل الجميع يسعلون صفقت ختام بيديها لهذا المشهد .وهنا لا تدري أهي مجنونة لا تعرف مغبة تصرفها مع الجنود الأمريكان المدججين بالسلاح، أم أنها واعية تماما ،وأن ضحكتها كانت في مكانها سخرية بهم، لأنهم يسألونها عن سجادة رمتها بنفسها أمام منزلها.
ويستمر الحوار بين ختام وقائد الفرقة الذي دخل منزلها مع جنوده لتفتيشه بعد أن سألوها : ماذا في البيت وتجيبهم: جثث
وقد كانت تقصد فعلا أن منزلها مليء بجثث ماتت من زمان، إنها ذكرياتها وماضيها الذي انتهى بهجرة خطيبها الى أمريكا ، ولكنه كانت واعية لما تقول ،ولأثر عباراتها التي تثير الجنود الأمريكان وترعبهم ؛ لأن قائد الفرقة يتقدم الجنود الى داخل منزل ختام بحذر شديد وهي تتقدمهم وتتحرك بشكل مرح كمن يجسد دور الفائزبشيء ثمين بعد نزال صعب 51
هذا الحوار تخرجنا منه الكاتبة إلى وجود سلوك وأفكارعند بطلات روايتها ،لمواجهة واقع الظلم والاحتلال ، فحتى ختام الغريبة الشخصية تواجه الجنود الأمريكان بهذه الجرأة والسخرية.
هناك وجوه أخرى لنساء حكت عنهما الرواية ، بعضهن بدت شخصياتهن باهتة لا أثر لها كشخصية ام فادية ، لأنها متوفاة ،ولكن اللحظات العصيبة التي تمر بها فادية تجعلها تستحضر صورة أمها من خلال الحلم ، ففي ليلة مظلمة ، كانت فادية مستلقية وحدها في الحديقة ، والخوف والوساوس ينتابان تفكيرها، وحركات جارتها ختام تبعث الخوف في نفسها في هذا الوقت العصيب ظهرت شخصية الأم الحنون الحريصة على سلامة ابنتها (خائفة من تلك الخيالات ، أخذتني غفوة قصيرة على فراش الأرجوحة ، حيث وجدت أمي التي ماتت قبل سفري إلى الجبل الأخضر تقف بجانبي وسمعتها تقول : هيا قومي من هنا ، وادخلي إلى البيت)27
وحين تسترسل في ذكرياتها تتذكر السبب الذي جعلها تتعلق بكلية الزراعة وتنتمي إليها طالبة ثم أستاذة :
(إنها زيارة قامت بها هي وأمها لهذه الكلية لشراء العسل منها ، وتعلقت بها حين حدثهم أحد الأساتذة عن رحلة النحلة في اشتيارها الرحيق وتنقلها بين الأزهار) 30
وهناك وجه لامراة عاملة هي بائعة المكانس, كان لها دور ثانوي في الرواية إلا أن الكاتبة تقصدت إبرازه في لقطة سريعة لها دلالاتها الاجتماعية والفكرية، فقد تذكرت الروائية فجأة وجهها وهي تشهد حرق جارتها ختام لكل ما يمت الى الماضي بصلة ..كانت هذه المرأة تزور جدتها أيام زمان وكانت صديقتها تجلب لها لفائف التبغ من الشورجة(سوق بغدادي قديم):
( فإذا جاءت والتأم شملهما، فإنهما تفترشان أرض الحديقة قرب جذور النخلة النافرة فوق الأرض وتفتح ام المكانس كونية الجنفاص( كيس ) وتخرج منها بضاعتها النظيفة فتاخذ جدتي بتقليبها على مهل، وتختار منها واحدة او اثنتين حتى إن لم تكن للبيت حاجة اليهما) 40
هذه المرأة تمثل في نظر الكاتبة المرأة العاملة الكريمة النفس ، التي تعيش بكدّها وتعبها دون اللجوء الى الاحتيال او الكدية. إنها تتحدى واقع فقرها بكسب الرزق من بيع مادة لا قيمة كبيرة لها وهي المكانس ، فقد كانت مثالا للكبرياء يحتذى به، وكانت الجدة تريد منهم أن يحتذوا بها في استخلاص الدرس البليغ من تلك الناحلة ذات الوجه المليح التي كانت محفوظة الكرامة :
(أكثر من الذي يتبجح بالجوع والفاقة فيبيع نفسه وكرامته بأبخس الأثمان )40
ولأم المكانس وجه آخر تذكره فادية ،فهي لم تتحد الفقر فحسب بل تحدت بعض الانحرافات الاجتماعية التي أبرزتها فترة الحصار،فقد استمرت هذه المرأة على زيارة الدار بعد وفاة الجدة :
(وراح يوم وجاء يوم وانتشر لصوص النهار في الطرقات من أجل سرقة دراجة هوائية متروكة في حديقة بيت او قنينة غاز ..فإذا بي وأنا أجلس يوما بقربها والباب مواربة، نرى رجلا غريبا يدخل وبيده سكينة مطواة شهرها بوجوهنا فور أن أصبح قريبا منّا ، فامتلأ قلبي رعبا ، وكاد يغمى علي من شدة الذعر ، لكن العجوز لم تهلع ، ولم يطرف لها جفن ، بل نهضت بقامتها الممشوقة كعود الخيزران ، وحملت ثلاث مكانس في يديها دفعة واحدة ، وانقضّت بها على الرجل الغريب فخاف هذا وارتج عليه وولّى فرارا)41
وهناك وجه إيجابي آخر يتحدى الواقع ،وهو وجه أم ياسروأم صديقة فادية في ليبيا ، قدمت من الموصل هربا من ملاحقة الأمريكان لابنها .لم تجد ملجأ في بغداد إلاّ بيت العائلة الذي استأجرته فادية ، وفعلا وجدت الملاذ ، فقد عرفها تحسين الصباغ وهي تسير في الشارع،وسلّم عليها .وحين تدخل المنزل تحاول أن تطمئن فادية ، بأن تخرج مجموعة مفاتيح ،وتفتح غرفة نومها هي وزوجها في الطابق العلوي ، التي تركاها حين قامت الحرب .وعائلتها تمثل تعايش المختلف والمؤتلف من الانتماءات والأصول في العهودالسابقة ,ام ياسر مسيحية وزوجها مسلم ، ووالد زوجها كان ضابطا ناصريا قوميا ، رحل الى مصر لاجئا سياسيا أيام البعثيين في العراق ، ثم عاد بجواز سفر مزور ، وبنا في الطابق العلوي مخبأ يختبأ فيه ، لكن البعثيين قبضوا عليه وهو يعمل في الحديقة عندما داهموا البيت ، المخبأ استخدموه لإخفاء الكتب الشيوعية أيام السبعينيات خشية التنكيل .
هذا التنوع الفكري لم يؤثر في نفسية أم ياسر سلبا ، بل أنها تعرضه وتذكره لفادية بانسياب يدلك على التعايش الذي كانت تعيشه هذه العائلة ، وحتما هي أنموذج مصغر للعائلة الكبيرة، وتضيف أم ياسر في موضع آخر بأن أخا زوجها متزوج من امرأة كردية ، وقد انتقلا للعيش معا في شمال العراق.
مفارقات تشير إليها أم ياسر بطريقة تؤكد فيها رفضها لتداعياتها:
فهي تتحدث عن ابنها ياسر وتغير مسار حياته بعد عودته من أمريكا:
ذهب لأمريكا ليدرس البيانو وعاد ليهجر الموسيقى ، ويتردد على الجامع .أنظري ..أنا مسيحية وأبوه مسلم ، ونحن الإثنين من أهل الموصل، وحماي متزوج من كردية ، ويعيش معها في دهوك..لا أدري كيف انتهينا إلى أن يصبح الدين بيننا ؟ إنه يتردد على الجامع ..هذا كل ما في الأمر ..ولكنه ليس قاتلا ..ألم أقل لك إن الدين أصبح عندنا
مشكلة ، بل شبهة تؤدي إلى التهلكة.
ومن خلال الحوار الذي يجري في هذه الجلسة بين هذه المرأة وابنها ، نشعر أنها امرأة مستعدة لعمل أي شي في سبيل تخليص ابنها المطارد ، ولا يهمها أن تتدخل في نقاشات مع ابنها ، فهي تعلن أنها لا تعي الفلسفات أو الدعوات الجديدة ،لكنها تخاف عليه من الأمريكان ، وكانت كل تصرفاتها تشير إلى تخطيطها لهربه ، وإبعاده عن أعين الأمريكان والشرطة:
ثم أخذت تبكي وهي تقول:
عاد من أمريكا إلى الجامع
فيجيبها ابنها :
وماذا عن العالم الفاسد الظالم؟
كان يقف قرب السلم ، وقد أصبح لونه ممتقعا من شدة الانفعال ، رمى من يديه مجلة
كان يقرأها الى الأرض ..ثم قال:
في بلاد الكفر يذهب الناس بحرية إلى جوامعهم ، ونحن هنا لم نعد قادرين على الوصول إليها .
قالت أمه :لا أفهم شيئا مما تقوله يا ابني ، سوى أنك عرّضت نفسك للخطر
كفّي عن هذا يا أمي كلنا في خطر، وليس الجامع هوالسبب…
ويستمر الحوار بين ياسر وأمه وهو حوار غير متكافيء ، فأمه لا يشغل بالها إلا سلامة ابنها ، وتختصر الموقف حين تعلق على قول ابنها بأنه لا يحب الأمريكان بقولها:
– وهم أيضا لا يحبونك يا أمي ، فلا تدعهم ينالون منك بهذا العناد
لم تستطع الأم أن تفهم تداعيات موقف ابنها الذي عاد من أمريكا كارها للأمريكان ، وكان هناك محبا للموسيقى ،وعاد عازفا عنها ولم يجد غير الجامع ملجأ له.
لم تستطع الأم فهم موقف ابنها، وعدّته عنادا. في الوقت الذي بيّن ابنها ما بدا تناقضا في مواقفه ، ولخصه بأنه صعب عليه أن يبقى في البلد الذي غزا جيشه موطنها ، ويكتفي أستاذه بالعزف تبرعا لأطفال العراق.
ومن محاولات آني أم ياسر لتحدي الحصار المضروب حولها ،والذي يحصي حركاتها وأنفاسها هي وابنها أننا وجدناها ذكية حذرة غاية الحذر لتموه على الآخرين حركاتها وحتى مكالماتها ،.تاتي الجارة ختام وتعرض عليها المساعدة لها أو لابنها ، فتطلب منها استخدام هاتفها للاتصال بأبي ياسر وطمأنته عن أخبارهما ،لأنها تخشى أن يفتضح مكان وجودهما عن طريق المكالمات التليفونية .107
حين يقتحم الجنود الأمريكان منزل فادية في حملة تفتيش يكون لموقف أم ياسر دالة كبيرة ،إذ أنها تتمالك نفسها وخوفها ، وفادية أيضا تجد نفسها فجأة أمام عماليق شداد يحيطون بها ويتوجه نحوها أحدهم ويقول لها إنهم يبحثون عن إرهابيين يتواجدون في المنطقة .وحين صرخ بهما الشرطي العراقي ليدخلا الغرفة تجيبه أم ياسرمحاولة أن تستثير غيرة العسكري العراقي الذي جاء مع الأمريكان:
-أنت عراقي وأنا عراقية لا تدع الأمريكي يفرق بيننا .
يتأثر بكلامها رجل آخر ملثم بلهجة هادئة :
اسكتي يا حاجة وإلى الغرفة رجاء .
ولم تكتف ام ياسر بتغيير نبرة الجندي العراقي لهجته ،ولكنها أضافت:
أبويا ما يقدر إلّا على أمي60
وهناك صورة المرأة المتحدية للواقع متمثلة بريم صديقة فادية ، ولكن الروائية لم توجه إليها انتباها كثيرا، إلا أن ما وصفتها به يمثل نمطا من التحدي الذي يأبى الاستسلام لليأس والقنوط ، لانها استمرت على ذهابها الى الجامعة وإلقاء محاضراتها مع ما يصادفها من معوقات قد تجعل غيرها ملازمة لدارها بحجة أخطار الطريق الدائمية .تذهب الى الجامعة بعد أن أصبح الطريق إلى الكلية مليئا بالسواتر الترابية والحواجزالكونكريتية والأشجار اليابسة والأزبال وما كنا نستطيع اجتيازه إلا بعد أن تظهرريم باجا خاصا بسيارتها يسمح لها بعبور نقطة السيطرة) .
كان الطريق الذي تقطعه ريم وفادية الى الكلية محفوفا بالمخاطر ، ولم تكن ريم تعتني بنظافة سيارتها منعا لأي أذى أو لفت الانتباه.
لكنها مثابرة على الذهاب الى عملها دون أن تفقدها خطورة الأحداث المحيطة بها حيويتها أو روح النكتة عندها ، فحين تحدثها فادية عن حلمها الذي رأت فيه أمها بادرتها ريم :
– (كيف تمكنت روح أمك من الوصول إليك ،والتجول ممنوع ، كيف لم يضعوا رأسها في كيس أسود ، هل كان على رأسها كيس أسود؟)28
إن السخرية التي نجدها في هذا النص على لسان ريم هو وجه من وجوه التحدي .
وهناك شخصية اخرى هامشية ينقل لنا صورتها ياسرفي إحدى رسائله التي بعثها لفادية مكن السجن ، وهي تمثل النمط الضعيف المتمدن للمرأة من الأصل العربي التي تعيش الحياة الامريكية بكل حذافيرها ، وتنسلخ عن مجتمعها في كل تصرفاتها .إنها عازفة لبنانية الأصل اسمها جوزيل، أثارت إعجابه ؛لأنها تحدت جميع الحاضرين في حفل العشاء حين رفضت أن تشرب قدح الكوكا كولا ؛لأنها تقاطعه ، ولكنه صدم بها حين رآها في يوم من أيام الصيف وهي ترتدي الملابس الفاضحة ، وتتشمس في حدائق القسم أقرب ما يكون إلى الملابس الداخلية ..لقد أوقعت ياسر بدوّامة من التناقضات : كيف تكون سيئة أو سوقية من تفكر بفلسطين وهي على مائدة عشاء امريكية ؟قالت هكذا علّمها والدها منذ الصغر …
( كان يصعب علي ّ استيعاب مفارقة أن يربي والد ابنته على الجوهر ولا يهتم بالمظهر)112
إن جوزيل تمثل التحدي الظاهري ، الذي ربّته الحرية التي تمكن المرء من التصرف بالشكل الذي يرتأيه، وقد ارتأت أن ترفض علنا شرب الكوكاكولا ، ولكنه تحد محدود
لقد اتخذت ميسلون هادي لروايتها مساراً دائرياً، فتبدأ نصّها من حيث تنتهي الأحداث أو من نقطة قريبة من تلك النهاية. وهذه البداية – النهاية تشكّل لحظة روائية جميلة تتمثّل في انتظار الراوية البطلة عودة البطل من السجن، وهذه اللحظة تندرج في حقل الوقائع المعيشة بينما يندرج المسار الروائي الممتد بين البداية والنهاية بما يعكسه من قساوة الواقع ،وتعدّد تمظهراته القاتمة في حقل الذكريات المستعادة مما يجعل الخطاب الروائي ينطوي على رسالة إيجابية تقول بحتميّة تحوّل الواقع القاسي الى ذكريات وعلى الرغم من خضوع هذه الشخصيات لأقدار تسيّرها، فإنها حين أتيح لها أن تختار اختارت المواجهة على أنواعها، ودفعت الثمن بطيبة خاطر، فختام رفضت مغادرة العراق مضحية بعلاقة الحب التي ربطتها بابن عمها، وياسر رفض اللجوء الانساني والجنسية وعاد الى الوطن المحتل ليدفع الثمن مطاردة واعتقالاً. أما فادية فتركت الجبل الأخضر، وعادت الى بغداد لتدفع الثمن وحدة وخوفاً وانتظاراً، وهم جميعا يعانون من الاحتلال والخوف والفزع من مداهمة الامريكان لدورهم ، ولكنهم يواجهونها بتحد يجعل حياتهم تبدو اعتيادية ،أو فلنقل إنهم تحدوا الواقع المرير بما يحفظ كبرياءهم ، والحياة التي اختاروها .
النماذج التي قدمتها الرواية نماذج إيجابية كلها تحدت الواقع وفق موقعها وثقافتهاوقدراتها، وهي بين أستاذة جامعية ؛ فادية وريم ، ومثقفة تنطق الانجليزية مثل ختام ، وأم ياسر التي لم تنبأ عن ثقافتها إلا أنها بدت شخصية متمالكة قبلت التحدي ، وعملت على إنقاذ ابنها ، وحتى حين اعتقل ابنها لم ترجع إلى الموصل ، وإنما بقيت في منزلها في بغداد في انتظار عودته من السجن
وأخيرا فإن نهاية الرواية تخلق في نفوس القراء رغبة الروائية وإصرار أبطالها على التغيير , فمع كل ما يحيط بفادية من فزع وحزن ودمارخاصة بعد سجن ضيفها ياسر الذي أحبته ، وتعلقت به نجد النهاية مفتوحة على الأمل، مطرزة بالفرح ، فياسر يبعث لها برسالة من السجن يختمها بعبارة (أريد ان ارجع الى البيت )
وهي تحلم بحلم جميل تتخيل فيه بيت ياسر وقد استعد أهله لاستقباله بعد صدور عفو عنه ،وترسم في حلمها مراسيم الفرح والاحتفال ،وتتغير معالم الحزن والكآبة الى زغاريد وسيارة فارهة ينزل منها ياسر متوجها إلى داره ، ويرفع نظره باتجاهها ويبتسم لها
إنها الرغبة في تغيير الواقع واستشراف الروائية لها من خلال النماذج التي رسمتها في روايتها ، وأعطت كلا منها دورا عفويا ينساب مع تفصيلات الحياة اليومية.
وعند يقظة البطلة من حلمها الوردي آخر الرواية تجد صورة آني التي تستيقظ مبكرا وهي تقطع ممرات الحديقة كعادتها ،لتمثل نمطا هادئا صامتا لتحدي واقعها بعد سجن ابنها ، فيشير تنظيفها الحديقة من الأوراق المتساقطة إلى رغبتها في تغير الواقع وعودةولدها.وتشير(رائحة التراب المبلول التي خلفها مطر البارحة) 145الى الأمل .بينما تشير نظرتها إلى ساعتها اليدوية بين حين وآخر إلى استبطائها التغيير ، أو يأسها من عود ة ولدها .
إن هذا التوجه في تصوير مواقف المرأة أيام المحن والحصار يكاد يطابق آراء الكاتبة في كتاباتها خارج حدود الرواية والقصةفهي نرى في تصريح صفي لها أن المرأة هي سفينة النجاة في المحن ، وأنها هي التي تحافظ على البيت وديمومته. المرأة لديها قدرة فكرية وفطرية على إدارة ازمات بيتها في أحلك الظروف وتستطيع اعتبارها حكومة مصغرة داخل اسرتها، فهي بقلب الام تستوعب وتمتص كل الصدمات والمشاكل التي يمر بها ابناؤها وبعقل المرأة المرتب تتغلب على كل الصعوبات الاقتصادية التي يمر بهاالبيت[22]
ويبقى الحلم الوردي الفاتح اللون رمزا للإصرار على الرغبة في استعادة الحياة،وتحدي الواقع والاحتلال والحلم ماهو الأمل الذي تطمح نحوه بطلة الرواية وهو نفسه الذي تدعو له الروائية في رواياتها الأخرى أو في تصريحاتها الصحفية ومقالاتها.والملاحظ أيضا انها في هذه الرواية تختلف عن رواياتها الأخرى التي وصفها حسين سرمك بأنها (سيطرت على أجوائها القصصية سمة سيادة مناخات الموت والخراب ودوافع الانسان العدوانية)[23] إنها في هذه الرواية تعيش الأمل والرغبة في التغيير في الاحداث التي عاشتها بطلات روايتها