جريدة الرأي
ثقافة وفنون
تاريخ النشر: الجمعة 2013-08-23
رواية تكشف الخلل الاجتماعي
سليم النجار
ارتبط أدب المرأة في عالمنا العربي بظاهرة القمع المستشري ضدها. وهكذا أضحى الوطن الكبير بالنسبة للمرأة سجناً صغيراً انكسرت فيه الأحلام وتبخّرت بين زواياه الآمال، وغدا معتقلاً يُخصب الذاكرة ويحفز القابعين داخله لتسجيل فترات من حياتهم قاسية وسنوات من أعمارهم بائسة.
واللافت أنّ هذا القمع أصبح ظاهرة عامّة امتدّت من المشرق إلى المغرب وتوزّعت على فترات متتالية ولم تنقطع منذ خمسينات القرن العشرين إلى يومنا هذا، ما يؤكد كثرة التّجارب وتعدّد المقاربات الروائية التي تتناول تلك الظواهر.
ثمة سؤال يقفز إلى الذهن فيما يقرأ المرء رواية «العيون السود» للكاتبة العراقية ميسلون هادي، إذ تخوض الأحداث في قصّة كاتبة يتسلل إليها المرض كما يتسلل إلى وطنها الأكبر، فتتشكل المعاناة نتيجة أفكار خبيثة تسكن الخلايا والمسام، وينتصب الجرح شاطراً الجسد أفقياً إلى نصفين، ينعكس في المرآة حيناً ثم يوارى التّراب وسط تهليل روائي جنائزي، وتظل الصورة وحدها تبتسم وألق الروح الجذلى في العينين السوداوين يُضيء دوماً. تلك هي صورة الكاتبة في روايتها «العيون السود»: شعر يمامة فاحم السواد، وعيناها زرقاوان تبرقان كالبلور عندما تنعكس عليهما أشعة الشمس، كلما التقاها أحد لأول مرة أطال التحديق فيهما، وهي تشعر برغبته في أن يلمسهما كي يتأكد أنهما ليستا من زجاج» (ص 9).
***
قد تبدو القراءة الأيديولوجية لرواية ذات سمات أيديولوجية، مستفزة في زمن تخلت فيه المقاربات النقدية عن دلالة الرواية الأيديولوجية واهتمت بمقوّماتها الفنية. وقد تكرّس هذا المنحى منذ عقود حتّى أصبح قناعة راسخة يتشبث بها النقاد.
لذا، قد تكون العودة إلى النقد الأيديولوجي ضرباً من الحنين إلى مدرسة نقدية ولّى عهدها وتجديفاً ضد التيار الجارف وإحياء لمقارنة استحالت رميما. لكن قراءة النص من زاوية أيديولوجية تبدو مفيدة، لأن النص لا يخفي الخلفية الأيديولوجية التي تحرّكه ولا يُضمر مقولاته المستوحاة من الفكر الماركسي والتي تجلت من دون لبس في ثناياه.
فعلى مستوى الشخصيات، تحركت في فضاء النّص شخصيات شتّى اضطلعت بأدوار مختلفة واحتلّت مواقع متفاوتة الحجم وأقامت في ما بينها شبكة من العلاقات. وقد شغلت «يمامة» مساحة مهمة من نسيج السّرد وارتبطت بشخصيات أخرى.
وتبو «يمامة» امرأة مظلومة، حيث حياتها حلقات من القمع والإهانة والمذلّة مترابطة متداخلة، حلقات خلت من البسمة والفرحة والحنان والعطف. فهي امرأة تبحث عن هويتها الاجتماعية والثقافية، تعيش في رقعة جغرافية معينة، تنظر إليها من خلال لحظات عابرة، وكأنها عابر سبيل: «عن أي أرض يتحدث؟ ظلت لوهلة لا تعرف أين هي بالضبط؟ أعلى الأرض أم تحت البحر أم فوق السماء؟» (ص 410).
استحالت حياة «يمامة» جحيماً لا يطاق، وأضحت علاقتها بالأرض من خلال سرد حكايا المجتمع الذي نعيش فيه، كأنها ترصد ذاكرة المجتمع الذي يحيط بها، الذي يبدو غير معني إلا بالقيم التي يؤمن بها: «وقالت له إن أعظم المخترعين في العالم هم الطهاة.. وإنه ليس الكهرباء ولا السيارة ولا الهيلوكبتر ولا الصاروخ ولا الطائرة ولا الكمبيوتر ولا الفاليوم ولا الأسبرين ولا الباثايين ولا الراديو ولا التلفزيون ولا موس الحلاقة ولا فرشاة الأسنان ولا المكواة ولا السشوار ولا آلة حفر الأسنان ولا الدبوس ولا أحمر الشفاه ولا الهاتف ولا الكاميرا ولا الفيديو هي أعظم الاختراعات في العالم.. أعظم المخترعين في العالم مجهول.. مجهول أضاف النعناع إلى فطيرة الجبن، مجهول أضاف الزعتر إلى المعكرونة» (ص 10-11).
هذا السرد يبدو مثقلاً بهموم المرأة، يكشف طبيعة النّظم القيمية الحاكمة المتحكمة في مصير المرأة، منددّة بقمعها وعسفها. لذا تكون الكتابة بلغة حزينة مضرّجة بتهميش المرأة، لغة منغمسة في عالم الأنين والمعاناة والانكسارات والخيبات: «في غيبوبة عن العالم. هكذا هي دائماً عندما تشعر أنها واقعة في الجحيم» (ص 14).
تلك هي صورة هذه البطلة كما صاغتها الكاتبة. فقد حكمت على «يمامة» بأن تعيش مهمشة في كل مراحل حياتها، إذ تعيش على هامش الدورة الاقتصادية، وتتبنّى الفوضوية بالسرد، وتتميز بالعفوية المدمّرة أثناء سردها للأحداث العنيفة.
إن الروائي مدعوّ إلى تنويع أساليب الكتابة من قبيل الإيحاء والمزاوجة بين الواقع والخيال حتى يجد القارئ متعة تفتقر إليها النّصوص التي تقوم على التّصريح والتفصيل والإسهاب. لكن عندما تتقيد الكاتبة بأسلوب قوامه المباشرة والخطابة باسم الواقعية، فإن الجانب الإبداعي قد يبدو ضعيفاً ويحوّل النص إلى نص خالٍ من الطرافة.
وقارئ «العيون السود»، يلاحظ أن الخطاب المباشر هو الخطاب المهيمن على نسيج السّرد والطّاغي على مظانّ النّص، مما قرب هذا الأثر من الكتابات الاجتماعية المباشرة، إذ يندر أن نجد مقاطع سردية تنقل القارئ إلى عالم الخيال وتحثه على قراءة ما بين السطور وتدفعه إلى التأمل في ظاهر العبارة وباطنها.
وهناك مقاطع سردية في الرواية تحولت إلى خطب اجتماعية مباشرة، وتمتد أحياناً على أكثر من صفحة: «أنا لا أكاد أذكر شيئاً من طفولتي معها سوى حادثة القطار. لا أعرف، على وجه الدقة، إن كانت هي التي روتها لي أم جدتي أم إنني أنا الذي شاهدتها بأم عيني. فقد كنا أنا وإياها وأبي عائدين من البصرة والقطار» (ص 130).
تتكرر مثل هذه الفقرات التي كُتبت بأسلوب مباشر خالٍ من المجاز والتّورية. فالنّص الرّوائي هو نص تخيلي في الأساس. وعندما ينتفي عنصر التخيل يفقد النّص مشروعية انتمائه إلى عالم القصّ ويصبح ارتباطه بالنصوص الرّوائية واهياً جداً بل يقترب كثيراً من أشكال الكتابة الأخرى. والمباشرة تضعف المقوّمات الفنيّة للنص، لأنها تستجيب للفظ فكري أيديولوجي وتجسّد الواقعية الدّاعية إلى إيصال الفكرة على حساب المستوى الفني.
لقد استطاعت ميسلون هادي تحصيل وعي كاف أتاح لها فضح المستور وكشف الخلل الاجتماعي، بهدف تغيير وضعية اجتماعية متجدّرة. وبهذا الاختراق الواعي للنّسق المعرفي، تحوّل مفهوم «المرأة» في رواية «العيون السود» ليصبح قائماً على إلغاء كل الفروق الحاصلة بين الرجل والمرأة ورفضها رفضاً تاماً سواء كانت فروقاً بيولوجية أو فروقاً روّجت لها الثقافة لتوزيع أدوار الحياة.
الجمعة 2013-08-23