أخوة محمد – الدكتور عمر الخواجا

د. عمر الخواجا: ثلاث روائيات ورواية في (أخوة محمد) لميسلون هادي

د. عمر الخواجا

الرأي اليوم، لندن،12-11-2022

الروائية الكاتبة العراقية ميسلون هادي والروائية المشهورة ( الأستاذة ) القادمة الجديدة الى الزقاق والروائية الشابة اورشينا، ثلاث روائيات يتشاركن في سرد حكاية تتحدّث عن  سكان زقاق يمثّل حالة اجتماعية تحمل في تفاصيلها المختلفة مفارقات وصور تعبيريّة لما أحدثته الحرب من تغيرات اجتماعية  وثقافية وسياسيّة ،المؤلفة ميسلون هادي تكتب  روايتها ( اخوة محمد ) مستخدمة شخصية الروائية الكاتبة الصحفية المعروفة  التي تلتقى فور قدومها للحيّ بالفتاة اورشينا والتي بدورها  تكتب حكاية سكان الزقاق من خلال عمل روائي يصوّر معاناتهم ويرسم حكاياتهم المليئة بالآلام والأحزان ويحمل كثيرا من الأسئلة الصعبة والمشاهد الواقعية والتناقضات الغريبة … لقد استخدمت الكاتبة عنوانا مميزا لروايتها وحمّلته كثيرا من الأبعاد والمعاني والأفكار والتي وردت في بحث بعنوان ( عتبتا العنوان والغلاف في رواية أخوة محمد لميسلون هادي ) نُشر في  مجلة بابل للعلوم الإنسانية العدد 12 سنة 2021 للباحث نبيل شاكر كواز حيث يقول  ( …وقد أكدت الكاتبة على هذا العنوان كونها أعادت تسميته في مكان آخر داخل الرواية ضمن العناوين الفرعية وأكد القرآن الكريم في آياته على الاخوة ومضمونها وحقيقتها في قوله تعالى (انما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقو الله لعلكم ترحمون ) الحجرات آية 110 اذ أرادت الكاتبة وانطلاقا من هذه الآية الكريمة ان توضح الحياة التي يعيشها الشعب العراقي بأنهم أخوة في كل شيء بالدم والقومية والأرض والدين والوطن لذلك أوضحت مدى توحدهم تحت راية محمد واختيارهم لهذ الاسم المقدس الذي من يحمله يكون في امان من القتل والإرهاب ، اذ لجوء الكاتبة الى هذا العنوان اختزلت فيه أطياف المجتمع وجعلت له آصرة أقوى هي الدين والأخوة … ص 122 )  … إن استخدام أكثر من راو  مكّن الكاتبة ميسلون هادي من ممارسة لعبتها في الاختباء خلف قناع الروائية الأستاذة والفتاة اورشينا ولكنّها رغم ذلك بقيت قادرة على الإمساك بخيوط الرواية والتنقل بين شـخوصها بسلاسة وحرية، لقد كان للغة المحكية  دورا في استخدام مصطلحات عراقية شعبية مُحددة ضمن سياق روائي يحمل كثيرا من الأفكار والاهداف بعيدا عن الدخول في المحلية  المغرقة فجاءت أحداث الرواية قابلة للتأويل وللاشتباك مع الماضي والحاضر  بحيث يستطيع القارئ  مهما كان بعيدا عن واقع المجتمع العراقي استيعاب العديد من المقارنات المباشرة التي أدخلتها الكاتبة ضمن سياق الحدث الروائي والتي جاءت ضمن قالب اجتماعي واقعي دون مبالغة أو تهويل ، ولا بدّ من الإشارة أن ميسلون هادي كمؤلفة للرواية وصانعة لشخوصها وأحداثها نجحت في تضمين الحدث الروائي بعضا من الآراء الأدبية حول الفنّ الروائي وعناصره وقضاياه المختلفة وذلك من خلال شخصية الروائية الأستاذة  فها هي تتحدث عن قضية الشكل والمعني حيث تقول ( … الشكل هو الصورة والصورة عند تصورها تكون فكرة خاما لا وجود لها في الابجديات ، ثم تأتي الكتابة من اجل تصويرها على شكل كلمات وهذا سيتطلب ان نكون ماهرين في استخدام عدة التصوير وتراكيبها من الالفاظ والعبارات والايقاعات الموسيقية أنا اتحدث طبعا عن الروائي الذي سيطالبه الناس بالصورة وليس المؤرخ او الموثق أو المؤرشف الذي سيطالبه الناس بالصدق ص 44 )  استطاعت ميسلون هادي توظيف أسماء شخصيات روايتها توظيفا فنيا واجتماعيا وسياسيا فاختيار أسماء ابطال الرواية لم يكن عشوائيا بل حمل كثيرا من الأفكار والتساؤلات والاهداف والتي ظهر كثيرا منها للقارئ عبر المرور على أسماء ابطال الحكاية وسكان الزقاق ( اورشينا ، ايلانا ، أنابيل ، ماريا ، عبدالملك ، الشيخ محمد ، محمد الكردي ، سفيان ، عباس … )  لقد استخدمت الكاتبة ميسلون هادي ضمير المتكلم وضمير الغائب وتنّقلت بينهما عدة مرات معتمدة على قدرة القارئ على متابعة النّص وتسلسل الأحدث ومعرفة الشخصيات بما في ذلك استخدامها أسلوبا يتضمن سرد رواية داخل الرواية مما جعل من الرواية مسرحا لتداخل الحكايات والشخصيات والأحداث.

تظهر الروائية المشهورة كسارد رئيس  للحكاية  منذ الصفحات الأولى للرواية بعد أن تنتقل حديثا للسكن في هذا الحي البسيط دون ضجة أو بهرجة إعلامية ولكنّها تصطدم بالفتاة الفضولية اورشينا لكي تبدأ حكايتها  بالحديث عن انتقالها لهذا الزقاق وبداية تعرفها على سكانه وحكاياتهم ولكنها في البداية تخبر القارئ عن هواجسها وحديثها الداخلي ( … المرآة أظهرت بشكل قاطع باني شمطاء بوجه لا ينتبه إليه أحد …احمد الله أن تقدمي في السن لا يمكن نكرانه وإن كبرت سينفض الجمع المذكر السالم عني وعن كلّ من لفّ لفي من الشاعرات والكاتبات .. الحمد لله أني أكبر من جهة غير أني من جهة أخرى أفكر بأن أغطي بعض عيوب وجهي بخصلات الشعر وأن أعدل بها تلك المناطق التي تتقعر في الصدغين وحول الخدين .. فلتقدم العمر علامة واحدة لا غير .. ينسحب الجلد كله من مكانه ويحتاج إلى منفاخ يعيده إلى شكله الأولاني … ص 8) لقد تعودت ألا يعرفها الناس بملابسها العادية البسيطة واعتادت أن تمارس حياتها بحرية تامة في العيادة وفي المطار وفي القطار وفي الشارع وفي المكتب (…. لهذا وجدت من الغريب أن تستقبلني تلك الفتاة الثلاثينية المحجبة بوجه متهلل وهي تزغرد أستاذة أستاذة أستاذة …   ص 9 )  لقد أدركت الأستاذة أن هذه الفتاة الغريبة والتي استقبلتها بفرح غامر وأخذت تقفز حولها  لن تتركها تمارس هوايتها في العزلة والابتعاد عن الضجيج فهي تلحّ عليها بأن تقرأ  روايتها الأولى المسماة اخوة محمد والتي تحدثت فيها عن سكان الزقاق وأن تعطيها رأيا أدبيا فيها  ونتيجة للإلحاح الشديد الذي مارسته الفتاة الشابة  توافق الروائية أخيرا على ذلك  بعد أن أعجبت بشخصية الفتاة وقوة إرادتها وحبّها الشديد للأدب وفن الرواية بشكل خاص وسرعان ما تشدها أحداث الحكاية  وتأسرها قدرة هذه الفتاة على تحليل شخصيات  الحي ومتابعة معاناتهم ووصف مشاعرهم وأحاسيسهم ولكنها في نفس الوقت تعقّب على بعض فصول الرواية من خلال بعض التوجيهات التي تكتبها ( … ماريا في فقرة تتحدث بضمير المتكلم ، وفي فقرة أخرى بضمير الغائب ..وجدت هذا مربكا في البداية يا أورشينا ، وسأرى كيف سيتكرر في باقي فصول الرواية ، قلت إن ماريا أحست ببرودة خفيفة بالرغم من كوننا في شهر أيلول وبعد قليل قلت إنه الخريف ، هل يبدأ الخريف بشهر أيلول عندنا في العراق ؟؟ ص 72) تواصل الروائية قراءة رواية اورشينا وكتابة الملاحظات الفنيّة حولها فهي تنتقد طريقة حديث بعض شخصيات الرواية والتي لا تتوافق مع ثقافة أو عمر بعض الشخوص مما يؤثر على مصداقية وواقعية الحدث ( .. لغة سفيان في هذا الفصل تحديدا تحتاج إلى تبسيط يا أورشينا يجعله متوافقا مع شخصيته .. فهل يتحدث سفيان بلسانك؟ وظيفتك ككاتبة تحتم عليك أن لا تكوني في مكان ليس لك. وأن لا تحلي مكان أحد .. فيعلو صوتك فوق أصوات الشخصيات ص 94) وفي بعض ملاحظاتها تقسو الروائية الأستاذة على اورشينا فتطلب منها حذف بعض العبارات والمواقف والأحداث والشخصيات لأنها لا تتوافق مع زمن الرواية وفكرتها العامة وطبيعة ابطالها ولكنها تضع لها بعض المبررات الأدبية لهذه التناقضات ( .. قامت أورشينا بتحويل سفيان وعباس إلى صورتين من البراءة للتعبير عما يحدث في العراق، فهل أطالبها بإصلاح اضطراب الزمان في بعض الفصول، أو أطالبها بتعميق شخصيتي سفيان وعباس مما يعني التضحية ببساطتهما وعفويتهما ص 199)

لقد رسمت ميسلون هادي صورة الفتاة أورشينا كشخصية محورية في الرواية تتجمع وتتقاطع في روايتها حكايات السكان وقصصهم وأحاديثهم وهي تبدو كفتاة مثقفة تخرجت في تخصص علم النفس من الجامعة المستنصرية تراقب ما حولها وما يجري في الزقاق ولكنّها لا تفعل شيئا سوى انتظار المجهول فهي تعيش وحيدة مع أمها بعد ان توفي والدها وتزوجت اختها ايلانا ثم اختها انابيل ولذلك وجدت في الكتابة عالما من الحرية والمتعة والخيال مما يفسر هذا الشغف والانبهار الذي شعرت به حينما قابلت روائيتها المفضلة وجها لوجه ( .. أنهي أغلب فصول الرواية من هنا، وبعد دقائق تسكن في البيت الذي يقابلني تماما أستاذتي الغالية التي قرأت لها كل كلمة كتبتها منذ ثمانينيات القرن الماضي ولحد الآن، أقسم بالله بأني قرأت كل رواياتك وحفظت كل حواراتك .. ص 31) اما الروائية الأستاذة فتصف حب اورشينا لعالم الرواية من خلال الكلمات التالية ( ..طلبت مني أن أكتب لها إهداء على جميع رواياتي التي كانت معها، وحاولت التقاط صورة لي معها وكأننا في حفل توقيع ص 28)

لاسم الرواية مدلول عميق فسكان هذا الشارع مسرح الرواية ومكانها الرئيس يتسمون باسم محمد ( .. نعم نعم أستاذة هذا الشارع قلبته رأسا على عقب ثم عدلته مرة أخرى فاكتشفت بأن أولاد ورجال شارعنا كلهم يحملون اسم محمد .. ما عدا عبد الملك زوج ماريا، أمامك مثلا يسكن محمد الصباغ .. والبيت الملاصق لبيتك هو بيت رجل المخابرات محمد يقابله بيت الصيدلانية أم محمد، وبيت الأستاذ محمد مدرس الرياضيات وبيت صاحب محل السجاد أبو محمد وطبيب المشرحة أيضا اسمه الدكتور محمد .. ص 18)

أخوة محمد يشكّلون نسيجا مختلطا من الأحزان والمعاناة والألم فسرعان ما يكتشف القارئ مزيجا من الغرائب والعجائب والتي تطلّ برأسها منذ الفصل الذي أطلقت عليه ميسلون هادي بيت المخابيل حيث تبدأ مع الغروب طقوسه الممتزجة بالصراخ والعويل والظلام والصمت.

لماذا تصرخ هذه الصبية الثلاثينة ؟ ولماذا تندفع فجأة راكضة وكأنها تهرب من أشباح مخيفة ؟ ولماذا يشاركها أخوها هذه الحفلة من الصراخ الغريب ؟ … تطرح الرواية مجموعة من التساؤلات التي تتركها ميسلون هادي مشرعة في وجه القاريء دون إجابات محددة وكأنها تكتب عناوينا مصغرة لمجموعة كبيرة من المآسي الاجتماعية  ( … قصة هذا البيت أعادتها لي أورشينا أكثر من مرة وقالت لي ستسمعين صراخ هذه الفتاة دائما وقت الغروب .. هذه علياء وأخوها الذي لا نعرف اسمه على وجه الدقة .. فنحن لا نراهم في النهار ولا نشعر بوجودهم وكأنهم موتى أو أشباح ص 34) بعد هذه الضوضاء والتصرفات الغريبة نهارا ينقلب الوضع ليلا فيسيطر الصمت على الزقاق في حالة محملة بالتناقضات والدهشة والغموض (.. في الليل داهمتني رائحة الزقاق .. ولم يعد للصراخ وجود .. إنه يُسمع وقت الغروب فقط كما قالت أورشينا .. مثل دجاجة مريضة يصبح هذ الزقاق في الليل البهيم .. هناك حركة مسموعة للناس في النهار ..وفي الليل يفقد المكان ذاكرته ويصبح صامتا تقريبا من أصوات كائنات كثيرة ستقض مضجعي لو سمعتها ص 37 )

يتحدّث بعض سكان الزقاق عن انفسهم ويروون جزءا من الحكاية بكلماتهم فها هي ماريا تشرح معاناتها هي وزوجها عبد الملك وسط شارع متخم بالمعاناة والألم (  .. أنا ماريا أسكن البيت الذي يقابل بيت أورشينا وأمها أيسر .. أسماؤنا التي نعرف بها هي غير الأسماء التي يعرفنا بها أولاد الحدائق … ص 51 ) ويظهر أطفال الشارع كشخصيات رئيسية تمثل جانبا مهما من الحدث وتلعب دورا بطوليا معبرا ، فسفيان يروي بذاكرته القوية وطفولته البائسة حكايته مع المعاناة   ( ..أمي كانت تبخرنا بعد خروج خالي عدنان من بيتنا مع زوجته التي نطلق عليها ساخرين اسم لينا فهي تخاف من عيونها لئلا تحسدنا ولهذا تدور بالمبخرة في البيت وتصبح الرائحة لا تطاق ..ص 93 ) ويواصل سفيان الحديث عن تفاصيل حياته واصفا معاناة العائلات البسيطة في سبيل تأمين احياجياتها الحياتية الضرورية    (  … كنت في الخامسة من عمري تقريبا عندما وجد أبي نفسه لا يملك حتى ثمن البطاطا والباذنجان أيام الحصار لم أتوقع أن تقبل امي بما أراده منها أبي فهي لا تشبه باقي المكادي في شيء ولولا الجوع لما اضطرت للتسول بدون أن تنطق بكلمة واحدة …  ص 95 ) وتبدو كلمات الطفل معبرة عن حالة المعاناة التي تجتاح هذه العائلة الفقيرة والتي لم تسلم من نظرات الحسد من زوجة الخال التي لم تنجب ورغم هذا البؤس فإنّ حبّ الأم وحنانها وتقديرها ينتصر دائما ويمكن لنا أن نستخلص لمحات عامة عن التّحولات التي اصابت هذا الحي وسكانه من خلال ذاكرة ماريا ام يوسف  ( ماريا ام يوسف تعرف كل شيء وذاكرتها قوية جدا الجديدة والقديمة وقالت لي انها تعرف أصحاب البيوت واحدا واحدا وشهدت انطلاق هذا الشارع ثم ازدهار حدائقه الغناء ثم اقتطاعها من اليوت وتحويلها الى مشتملات ، حتى انها تتذكر متى تحولت الأسعار من مئات الفلوس إلى مئات الدنانير .. أي متى تحول سعر الصمونة من 10 فلوس إلى 100 دينار وسعر البيت من 50 الف دينار الى 50 مليون دينار .. حصل هذا بالتدريج كما تقول مع تحول الدينار العراقي من الطبع السويسري إلى الطبع المحلي ومن ثم انحداره باستمرار امام الدولار أثناء فترة الحصار في التسعينيات حتى انقلبت الآية ووصل سعر الدولار إلى 3000 دينار عراقي بعد ان كان سعر الدينار 3 دولارات …. ص 107 )  ان هذه التحولات التي أدت الى ان تكون أسعار البيوت واللحوم والدجاج والخضروات وكافة سبل الحياة ضمن مستويات مرتفعة وبعيدة عن تناول الشرائح الاجتماعية البسيطة من سكان الاحياء الشعبية بشوارعها المتداخلة وازقتها الغريبة تُثقل كاهل معظم سكان الحيّ وتجعل من حياتهم اليومية صراعا دائما من أجل البقاء

ويتعرض الصديقان عباس وسفيان لعملية اختطاف طائفية ولكنهما اتفقا على أن يحمل كلاهما الاسم محمد كي لا يتم احتسابهما على اية طائفة أو جماعة محددة ومن هنا يكمن تتضح الغاية من كون رواية اورشينا تحمل هذا العنوان ( اخوة محمد ) بحيث يبقى مصير الصديقين  مجهولا ضمن صفحات الرواية ولكن الاحتمالات التي تتم مناقشتها بين الروائية الأستاذة والشابة اورشينا تفتح أبوابا أخرى لمصائر بعض شخصيات الرواية مما يجعل من رواية ميسلون هادي ( اخوة محمد ) مستودعا لكثير من الأسئلة وإشارات عديدة تفتح أمام قارئها مزيدا من الاحتمالات والتوقعات والأحلام .

عن fatimahassann23

شاهد أيضاً

ميسلون هادئ……غزارة الإنتاج وبراعة الأداء.

ميسلون هادئ……غزارة الإنتاج وبراعة الأداءمن الأحداث الفارقة والمائزة في حياتي،هو اللقاء بالروائية المبدعة ميسلون هادي، …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *