قبل ذلك سأكون
ميسلون هادي
بعد أن انفض الجميع عن المكان.. تركوني وحدي بدون كيان تقريباً.. وحيد بدون سبب محدد…. والسماء بيضاء منذ أن أغلقوا الباب ولحد الآن…. لا أستطيع أن أنصرف مثلهم ولا أن أسمع حفيف الأشجار مطلقاً.. ولا مواء القطط أبداً… وإنما أستمع بين الحين والآخر لخرير بخار كثيف يتحول إلى قطرات ماء تسقط من حافة نافذة بعيدة. لست على مايرام .. ولا شئ ينتظرني.. وأنا كمن يحيا في كل وقت .. كيفما كان ذلك أو يكون.. أنفي لايزال في مكانه وكذلك عيوني وأطرافي الأربعة ولكن أذني فقط هي التي تعمل.. ورأسي قريب من مقبض العارضة الطويلة التي تصلصل عند سحبها إلى الخارج.. والجميع بانتظار النتيجة…أو سماع خبر جديد.
في بداية النهار سمعتصرير البابالمضعضع تبعته أحذيةتدخل وتخرج.. لا أستطيع التمييز بينها أياً كانت المسافة إلى الباب أوحيث تذهب أو تكون.. ماعدا حذاء ثقيل لرجل تقلقل المفاتيح في جيبه ثم تخرخشعند ارتطامها مع بعض الأقلام.. وحذاء خفيف لامرأة توسوس عروة الحقيبة قرب رجلهاوتخشخش بعض الأوراق في يدها..الكل يتساءلون من أنا؟ هل أنا حيدر أم خطاب؟وبخصوص ذلك يجيبون أو لا يجيبون.. وقد يتحركون بخطوات خافتة تدب مثل فرشاة تدغدغ أقدامي.. أو يقفون قريباً مني بلا أزيز ولا همهمات.. طالما تحدثوا فإني أسمع مايقولون.. أما إذا هزوا رؤوسهم أو أشاروا لبعضهم البعض بالإيماءات فلا أستطيع أن أعرف عم يتساءلون. أمي قالت إنه ابني.. وزوجتي قالت لا..ليس بزوجي..إنه شخص آخر.. وكذلك ابنتي الكبرى نفت أن أكون أباها، كما لم تستطع الصغرى المكوث في المكان لأكثر من دقيقة.بكتْ وتعثرت خطواتها إلى خارج الغرفة، ولم يلحق بها أحد.أما أخواني فأكدواأني أخاهم، ثم نفوا ذلك بعد قليل.. كبيرهممكث أطول مما مكثت ابنتي.. وصغيرهم تقيأ في وعاء النفايات فأعاقني عن عد الدقائق التي تتكتكها ساعة قريبة يبدو أنها معلقة على الجدار.. لا أدري إن كانت صحيحة أم خاطئة، ولكني أسمعها تمشي بلا توقف فأستطيع حساب عدد الدقائق والثواني لكل من جاء وأمضى الوقت واقفاً أو جالساً بقربي.. هذا كل ماأستطيع فعله.. أن أسمع ضجيج الأقدام.. وكذلك أسمع بين الحين والآخر حركة اليد التي تمسك بمقبض الدرج الحديدي وتسحبه إلى الخارج مصحوباً بصلصلة تتصاعد..أو طقطقة الأصابع التي تفصل تيارالكهرباء عن المقبس.
لا أدري من هو أبعد واحد فيهم عن العالم، أو كم هو عددهم بالضبط؟.. ولكني سمعتهم يسألون عن (أل) التعريف ويقولون إنها.. ولم اسمع التكملة..لأن لغطهم طغى على كل شيء.. وبالتالي لم أفهم مايرمون إليه. ماعدا ذلك سمعتهم يتنقلون من جانب إلى آخر، ويحوقلون بطبقات صوت مختلفة.. ولا يبعثرون خطواتهم في أكثر من اتجاه، وإنما باتجاه واحد هو الخروج.
جاء أهل خطاب سوياً مع أهل حيدر، فترنّح أخي الأوسط وتلعثم.. واقترب أحدهم بصوت أكثر همساً وقال بأني خطاب.. فارتفعت نبرة الآخر بالاعتراض وارتجف صوته وقال بأني أشبهه كثيراً ولكني لست هو. حل الصمت دفعة واحدة بعد تلك الجملة.. وبعد الصمت زفرت زوجتي آهةً طويلة ثمعمّ الغرفة ضجيج عال غطى على تكتكات الساعة الجدارية…….. جاء كثيرون وغادروا المكانعلى عجل بسبب ما اعتقدوا إنها رائحة مزعجة…. وواحدة من النسوة كانت ترتدي حذاء بكعب عال آنسَ وحدتي بالرغم من البرد الشديد.. والأخرى كان هسيس ثوبها ناعماً ويدل على أنه يهفهف فوق قميص خفيف… على أية حال اختفى ذلك كله بعدصوت عال ومتذمر لرجل فظطالب بإخلاء الغرفة لكل عائلة على حدة. معه حق في ذلك.. قالت أمي بصوت باك فهدأت الضوضاء بعد قليل.
يبدوأن الجميع ينسحبون واحداً بعد آخر.. ولكن كلماتهم تدل على أنهم مرتبكون لا يدرون ماذا يفعلون؟ أو أن كل واحد منهم يأخذ معه نصيبه من الهم ويختلس نظرة واحدة إلى وجهي قبل خروجه من الغرفة.. بدأتْ الأصوات تهدأ شيئاً فشيئاً فأصبحتُ أفهمها بعد أن كانت مختلطة مع بعضها البعض. آخر هذه الأصوات كانت لمن يعرفني أفضل من غيره.. لم يكن ذلك الصوت مع الأسف لصاحبة الثوب المهفهف.. وإنما لزوجتي التي قالت بحزم بأنها لا تستطيع الجزم بمن أكون، لهذا فإنها لن ترتدي السواد حداداً على رجل ميت قد لا يكون زوجها…..أما أمي فقبّلتني على جبهتي وقالت إنها ستلبس الأسود وتقيم العزاء لأنها لا يمكن أن تتوه عن ابنها حتى مع عدم وجود نيشان أو علامة فارقة. فقطْ إخواني هم الذين لم يحسموا الأمر وقالوا بأنهم بانتظار نتيجة تحليل اسمه الدي إن أي. ما هذا ياترى؟ يالها من ورطة؟
تأوهت في مكاني تحت السماء البيضاء.. أردت إخبارهم بأني أنا فقط أستطيع القول من هم أهلي.. أنا أعرف..فتعالوا يا إخوتي.. تعالي يازوجتي.. هيا تعالوا.. ولكن لم يسمعني أحد.. ولا سمعت نفسي منذ ذلك الحين.. لا شيء سوى جورابات صوفية خشنة تتحرك فوق جلود قاسية.. وكأن كل واحد منهم يجب أن يغادرني على عجل من أجل شيء آخر.