التعليم العالي في العراق إلى أين؟
( 20 )
كل الأكاديمية والتعليم العالي خط أحمر
إلا الرواتب
د. نجم عبدالله كاظم
( 1 )
من الواضح أن الأكاديميين، شأنهم شأن الآخرين، وعلى خلاف ما كنا نتوقع، قد دخلوا عالم الفوضى التي عليها البلد والحكومة والناس، فكان من أواخر هذا الدخول دعوة العديد منهم لانتخاب وزير للتعليم العالي، وهي دعوة طفولية غير ناضجة ولا تليق بالأساتذة والأكاديميين، ولا يبرّرها سوء الحكومة أو سوء الوزارة، ومن أواخره أيضاً الشعار غير اللائق الذي رفعوه: “رواتب الأساتذة خط أحمر”، ولا يبرره أنهم على حق في موقفهم المعترض على قرارات الحكومة الأكثر طفولية. أقول هذا مع أنني لست ضد موقف الأساتذة المضربين والمتظاهرين، كما حاول البعض أن يصوّرني، ولكني ضد أن يقتصر موقف الأساتذة والأكاديميين على هذا فقط، بل أنا مع هذا الموقف ولكن حين يكون ضمن مواقف من كل ما نال التعليم العالي والأستاذ الجامعي حكومياً وهو كثير. بل إني أرى أن نيل الحكومة بدرجة معينة من الرواتب كان سيُعدّ معقولاً ومتفهَّماً، لو كان هناك ولو شأن واحد بخير في واقع التعليم العالي. ولأن التعليم العالي هو أحد عمودين أو ثلاثة رئيسة يقوم عليها أي بلد، يكون كل ما يتعلق به أو يمسّه بضرر، من أستاذ وطالب ومناهج وسياقات وقيم وعلم وأكاديمية، خطوطاً حُمراً، إلا الرواتب، فيُفترض أن تكون هي الأهون وقعاً على الأكاديمي الحقيقي من كل ما يصيبه ويصيب التعليم العالي.
( 2 )
لقد انتقدني بعض الزملاء على وجهة نظري هذا وما ترتب عليها من موقف، وأنا أقول بكل رحابة صدر لأي من الزملاء، أصدقاءَ وغير أصدقاء، إن لهم كل الحق في أن يفعلوا هذا وينتقدوني حتى بقوة، ببساطة لأني أفعل ذلك معهم، ولكن أن تُستخدم كلمات وعبارات في تعليقاتهم وانتقاداتهم لا تليق حتى بإنسان الشارع البسيط، فهذا لعمري أمر جلل، وإنه ليعني أننا منحدرون إلى هاوية لا يعلم إلا الله نهايتها، والمصيبة أن من نبّهني عليها بعض تلاميذنا. فنحن من نعد أنفسنا ويعدّنا الآخرون نخبة النخبة، لأننا النخبة الأرقى علماً وتعليماً وتربيةً ضمن النخبة الثقافية الأوسع، وهو ما جعلني أقول إني سأتوقف عن مناقشة أمور التعليم العالي بعد هذه الكتابة الأخيرة. في الواقع أعادتني ردود أفعال أساتذة الجامعة الانفعالية على القرارات المالية ما كنت دائماً أراه وأُشخّصه في النخبة الثقافية العراقية من سلبية يؤكدها صمت النسبة العظمى من الأساتذة والأكاديميين على كل ما جرى للتعليم العالي طيلة أكثر من خمس سنوات، ثم انفجارهم المدوّي ضد القطع الذي طال رواتبهم، وهو بصراحة ما صار يشعرني بشيء من الإحراج، لاسيما حين أواجه الطلبة. فنحن لم نسمع من غالبية هؤلاء الزملاء يوماً كلمة احتجاج ترتفع بوجه وزراء التعليم العالي ومسؤوليه، رغم ما تعرض له هذا التعليم والجامعات من انهيار وخراب، بما في ذلك إذلال الأستاذ وتركيعه، وتسطيح العملية التعليمية، ومغادرة الأكاديمية من الكثير من سياقات العمل الجامعي، وهيمنة العناصر غير الكفوءة على غالبية مناصب ومسؤليات الإدارات العامة ورئاسات الجامعات وعمادات الكليات، والدليل على ذلك واضح تماماً في ما وصل إليه هذا التعليم، لكنهم ثاروا حين طال هذا السوء رواتبهم، ووفقاً لذلك لنا أن نتوقع أنهم سيسكتون ويحتفلون بمجرد تراجع الحكومة عن قراراتها، ليصمتوا عن كل ما عدا ذلك. أما أنا فصاحب موقف، واصطفافي مع (ثورة) الأساتذة الحالية على قطع الدينار سيسفّه موقفي هذا، أكثر من هذا أني كنت سأتقبل قطع نصف راتبي لو رأيت في هذه الحكومة ورئيسها ووزارة التعليم العالي أملاً بسيطاً في أنها ستحاول- تحاول فقط- الإصلاح. ولهذا تراني، حين تمادتْ رئاسة جامعة بغداد، وربما رئاسات جامعات أخرى، في مسّها للأستاذ الجامعي فهدّدتْ المشاركين في الإضراب والتظاهرات، التي هي من حقوقهم التي يكفلها الدستور، أعلنتُ انضمامي للمحتجين.
( 3 )
واضح جداً أن التعليم العالي في العراق في حالة تراجع، إن لم نقل انهيار وبوتيرة متسارعة طيلة أكثر من خمس سنوات، بدأت بحملة تجريد الأساتذة من جل الامتيازات التي تحققت لهم قبل ذلك- والمتواضعة مقارنةً بما يحصل عليه أقرانهم في العديد من البلدان- ثم (التخلّص) من عبء آلاف الكفاءات التي يفخر أي بلد آخر بامتلاكه لها، تحت مسمى التقاعد، واعتماد كل ما يمس العلمية، بحجة الظروف، من تخفيف العبء العلمي والدورين الثاني والثالث، وتسهيل القبول بشكل عام، واضطراب السياقات الأكاديمية في كل شيء، والاستهانة بالعلمية التي قادت إلى عدم اعتراف جل جامعات العالم بشهاداتنا، قبل اختبار أصحابها. ولأننا سبق لنا أن تطرقنا إلى جلّ ذلك في المقالات العشرين التي كتبناها خلال أكثر من سنة عن واقع التعليم العالي في العراق، سنتوقف هنا عند موضوع المسّ بالعلمية من خلال الكثير من الإجراءات والقرارات وتجاوز السياقات الأكاديمية، التي شجعت أحد أعضاء البرلمان مؤخراً ليدعو إلى: اعتبار سنة 2015 عدم رسوب، وإعادة المرقنة قيودهم، وتطبيق الدور الثالث لكافة المراحل في الجامعة وبدون شروط، فهي دعوة تأتي متوائمة تماماً مع مسيرة التردي العلمي والأكاديمي، في وقت كنتُ شخصياً سأفرح وسأهتف لمن يقترح، من النواب والمسؤولين، إن كان حريصاً على البلد وليس على كسب التأييد السياسي، إلغاء حتى الدور الثاني واعتماد الفصْل والإبعاد ومختلف العقوبات لمن لا يحقق من الطلبة حدوداً دنيا- تُحدّد مسبّقاً- فبدون ديمومة مثل هكذا قرارات لن تقوم قائمة للتعليم العالي في العراق. وبرأيي إن مَن يفعل أي شيء من هذا الذي يدعو إليه عضو البرلمان بحسن نية، ينسى أنه يفعله مع العلم ومع أناس يُعوَّل عليهم بناء وطن، وليس مع رعاية أيتام أو مسنّين وأرامل مثلاً، ولا مع توزيع غذاء وتموين على محتاجين، ولا مع موظفين مقصّرين فيُعفوْن من العقوبات، ولا مع توفير مأوى لنازحين أو مهجّرين، بل هو يعفي الطلبة من متطلبات العلم والمعرفة التي بدونها لا يكون إلا الجهل والتخلف والخراب. أما أنْ يتحجج بالدوافع الإنسانية، وهي ليست كذلك، فنقول حين يتعلق الأمر بالعلم والمعرفة، لا يكون للمواقف الإنسانية إلا هامش محدود جداً. فماذا يتوقع من يفعل ذلك أن يكون عليه المتخرجون من طلبتنا من أطباء ومهندسين ومعلمين وغيرهم؟. المصيبة الكبرى ليست في أن يأتي مثل هذا من نواب برلمان وجماعات سياسية لا يهمهم ويهمها غير كسب تأييد الناس البسطاء على حساب أي شيء، بل حين تأتي من أساتذة وأكاديميين، وهم كُثر.
( 4 )
نحن متأكدون من إن الكثير من الزملاء الذين ينجرفون مع هذا التيار غير العلمي، خصوصاً بمنح الدرجات التقديرات باستسهال لا حدود له، إنما يفعلون ذلك بحسن نية، أوصلتهم إلى مرحلتي الماجستير والدكتوراه، فراحوا يمنحون تقدير (امتياز) مثلاً وكأنهم يوزعون المأكل على الفقراء أو الهريسة على أرواح شهداء كربلاء ( عليهم السلام). وهم قد يظنون أنهم بذلك يساعدون الطلبة، أما الحقيقة فإنهم يدمرون الطلبة ويدمرون بهم البلد، وهو لا يعرفون أنهم لو فعلوا العكس وتشددوا بالشكل المعقول واعتمدوا العلمية فإنهم سيرسمون مستقبل الطالب كما يجب أن يكون وفي النتيجة يخدمون البلد، وهذا ما يدركه الأستاذ الأكاديمي الحقيقي والطالب الحقيقي. فأليس لغزاً أننا لا نكاد نجد رسالة أو اطروحة في الجامعات العراقية إلا ونجد النتيجة (امتياز)؟.. نعم هو لغز، فباحثو هكذا رسائل وأطاريح تحصل على نتيجة (امتياز)، وبشكل يكاد يكون جماعياً كان يجب أن يوصلوا العراق وجامعاته إلى مصاف البلدان المتقدمة وجامعاتها، بينما واقع الحال يقول غير هذا. فالعراق، بجامعاته وتعليمه العالي عموماً، لا زال يحافظ، وبإصرار وامتياز، على مواقع (الذيل) في كل شيء: الصحة، والتربية، والتعليم العالي، والجامعة، والأمان، وصلاحية العيش، وحرية الإعلام، والنظافة، والتلوّث، بل حتى في جاذبية المرأة، كما أُعلن فعلاً مؤخراً.
في هذا يقول أحد الزملاء إن جل المناقشات التي حصلت بعد 2003 تجري على وفق مبدأ شيلني وأشيلك وللأسف هناك مفهوم خاطئ متلبس أغلب الأساتذة ألا وهو أن عدم حصول طالبه أيا كان مستواه على درجة الامتياز يعد مثلبة عليه، وأنا أضيف على قول الزميل، أن الحصول على ما دون الامتياز من جيد جداً وجيد يكاد يقترب عند هؤلاء من الرسوب. بالطبع أنا أحترم من يأمل ويسعى من الأساتذة في إشرافه إلى أن يحصل تلميذه على الامتياز، لكني لا أحترم سعيَه إلى ذلك من خلال تشكيل اللجنة والاتفاق مع بعض أعضائها وتوصيتهم في المناقشة، وأنا أعرف الكثيرين يفعلون هذا. ولهذا ليس بعيداً عن الحقيقة إضافة زميل آخر القول إن اللجان صارت تشكَّل عشوائياً وليس وفق حاجة الاطروحة أو الرسالة. وإذا ما تساءل زميل ثان، تعليقاً على موقفي من المَنْح المجاني للدرجات والتقديرات، وكأني ضد المنح ذاته وقال: أين الضير في أن نمنح الامتياز للرسائل والاطاريح التي تستحق ذلك؟ فأُجيبه بالقول: بالطبع لا ضير في ذلك، فما دام هذا التقدير موضوعة فإنه يُمنح، وأنا شخصياً منحت العديد من الرسائل والأطاريح امتيازاً، بل منحت درجة (100) في إحدى المرات. ولكن أليس غريباً، كما قلت، أنْ يكون لدينا هذا العدد الكبير من جهابذة الباحثين الذين يحصلون على تقدير (امتياز) مما لا أظن بلداً آخر يمتلكه، ومع هذا يبقى العراق على حاله في ذيول التقديرات والتقييمات، ويبقى حال جامعاتنا على حالها المزري؟. وأفترض أن الزميل يعرف جيداً ما قصدتُه، وهو أن هذا (الامتاز) قد صار يُمنح حتى قبل أن تناقَش الرسالة والاطروحة، وأعني من تشكيل لجان المناقشة ومروراً بالعلاقات ووصولاً إلى المناقشات نفسها وعُرس الاحتفال بها. فأليس غريباً أن تُجاز اطروحة في أحد أقسام اللغة العربية بجيد جداً أو امتياز وهي لا ترقى إلا أن تكون بحثَ تخرجٍ؟ وأليس غريباً أن يُمنح أضعف طالب في إجدى الدورات في قسم آخر تقدير امتياز، بينما يُحرم أفضل طالب في الدورة ذاتها انطلاقاً من الموقف من المشرفين؟ وأليس غريباً أن تُجاز رسالة في قسم ثالث قام صاحبها بسرقة حتى الخاتمة؟ وأليس غريباً في قسم رابع، هو قسم الزميل الذي يتساءل نفسه، أنْ يترأس أستاذ متخصص في الشعر لجنةَ مناقشة اطروحة دكتوراه في الرواية والمقارنة، بينما على بعد بضع عشرات من الأمتار أستاذ متخصص في الرواية وفي الأدب المقارن، بل هو الوحيد في الأدب المقارن؟ ماذا نفسر هذا غير اتخاذ القرار المسبّق لمنح الطالب تقدير (امتياز)؟..
( 5 )
وإذا ما كانت مثل هذه المواقف السلبية للكثير من الأساتذة هي انخراط في تيار السلبية، فيجب أن نقول لا يجب للأستاذ أن يستجيب للسيّئ وللسوء. فمثل هذا هو امتحان يمرّ به كل أكاديمي حين يجد نفسه أمام خيار ما بين الأكاديمية وغيرها من مناصب ووجاهة زائفة وتمشية حال ومظاهر زائفة، ومع الأسف، ومن اطلاعي، يتبين أن الغالبية تسقط في هذا الامتحان، وترضى بأن تتخلى عن أكاديمتها ما دامت تحصل على البديل غير العلمي، وهو المنصب أو المكان أو التقدير الزائف أو الرضا. هذا يقودني إلى القول والاستنتاج بأن من يتحمل الواقع المزري للتعليم العالي طرفان الأول المؤسسة بما فيها من فساد ونخر وحزبيات وطائفيات وضعف كفاءات، والثاني الأستاذ الجامعي نفسه، نعم أعني تعميماً (نحن).
وفي العودة إلى مواقف الأساتذة والأكاديميين وثورتهم وإضراباتهم واحتجاجاتهم ضد القرارات المالية للحكومة، نعيد القول إن هذا حق دستوري، وحق لا غبار عليه نظرياً، ولكنه عملياً يفقد عندنا الكثير من مشروعيته واتزانه ومثاليته حين تقابله سلبية مواقف الأساتذة من كل شيء آخر مسَّ ويمسّ التعليم العالي والجامعات والأستاذ الجامعي وهو كثير. والخط الأحمر الذي يضعونه أمام الرواتب يفقد مشروعيته حين تُزال الخطوط الحمر من أمام كل قيم التعليم العالي ومُثله وسياقاته وأكاديميته. في الحقيقة إننا ما كنا لنحتاج إلى خط أحمر أمام الرواتب لو كنا قد وضعنا خطوطاً حُمراً أمام الجامعة والأكاديمية والتعليم العالي عموماً، فكل الأكاديمية خط أحمر إلا الرواتب.