12 عن التعليم العالي

التعليم العالي في العراق إلى أين؟
( 12 )
هل للحلم أن يعود؟

د. نجم عبدالله كاظم
بواقع مقالين كل شهر، نواصل من أكثر من ستة أشهر الكتابة عن واقع التعليم العالي في العراق، في ظلّ سؤال مركزي وهو (إلى أين)، قد يأتي بعض الإجابة عليه ضمن المقالات نفسها، وربما يأتي بعض آخر منها في نهاية المقالات التي لم يتبقّ منها أكثر من ثلاث، وقد يُترك بعض ثالث من الإجابة، وهو الأهم، للمسؤولين وزراءَ وقياداتٍ إداريةً وأكاديميةً ورؤساءَ جامعات وعمداء. وكما يعرف من يتابعنا، فإننا كنّا ولا نزال، وعلى خلاف المسؤولين ومن (يُهوّس) لهم، نركّز على سلبيات واقع هذا التعليم في ظل معاناة جُلّ منتسبيه، ولا سيما الأساتذة وطلبة الدراسات العليا، وحين نقول لاسيما التدريسيين وطلبة الدراسات العليا، ولم نقل طلبة الدراسات الأولية، ببساطة لأن الأخيرين هم أقوى، بظهيريهم السياسيين والدينيين والطائفيين، من أن يتحرش بهم مسؤول. وعلى أية حال، نحن حين نفعل ذلك فإننا نبغي استفزاز المسؤول، وزيراً كان أم قيادياً إدارياً، أم رئيسَ جامعةٍ، أم عميداً، أم غيرَهم، ليتحرك بالاتجاه الآخر، نعني نحو الإصلاح والتحسين ومراعاة السياقات الأكاديمية أكثر من السياسية والدينية والطائفية والحزبية، وتجاوز السلبي وتعزيز الإيجابي، وصولاً إلى تحقيق الأفضل للجامعة وللتعليم العالي والبحث العلمي بشكل عام، وكلها تعاني، من حوالي خمس سنوات على الأقل، من التخبط والتجاوز والخروج على السياقات الأكاديمية. ولأن هذا هو هدفنا وليس الإساءة والتشهير والإضعاف، فإننا كنا حين نتناول السلبيات لا نتردد في التنويه وإن بشكل هامشي بالإيجابي أيّاً كان حجمه وأيّاً كانت طبيعته وفي أي مرفق ومن أي مسؤول كبير أو صغير. من ذلك الذي ذكرناه ونوّهنا به نستحضر الإنجاز المحدود الذي حققته جامعة الكوفة تصنيفاً مقارنة بالجامعات العراقية الأخرى، والتغييرات التي بدأ بها الوزير الجديد، على تواضعها ومحدوديتها، والوجود المحدود للمسؤولين الأكاديميين الذين، على خلاف الأغلبية، ضحوا بكراسي السلطة والمسؤولية لحساب أكاديميتم، وغير ذلك قليل مقارنة بالظواهر السلبية.
وتوافقاً مع هذا، يأتي مقالنا الحالي لا ليعزز هذا التنويه بالإيجابي فقط، بل ليخرجنا عن المسار العام لمقالاتنا التي استهدفت، كما قلنا رصد سلبيات واقع التعليم العالي، فيشيد بما يجب أن يُشاد به، قبل العودة إلى تناول السلبيات الذي لا نُنكر أنه مسارنا، بل هدفنا ونحن نرى هذه السلبيات طوفاناً يكاد يُغرق التعليم العالي ويغرقنا معه. وحين نقول إننا نخرج هنا عن المسار من خلال الإشادة بإيجابيات، وبما يعني إنجازات، فإن ذلك يأتي في ضوء تلمّس نقاط ضوء في نهاية النفق تتراءى لنا، وقد يكون بعضها قد أطل علينا توّاً، ويتحقق لأول مرة خلال خمس سنوات تقريباً. وعموماً تتوزع هذه الإيجابيات على أربعة مستويات هي: الأول مستوى التعليم العالي وجامعاته عموماً؛ والثاني مستوى جامعتنا، نعني جامعة بغداد؛ والثالث مستوى كليتنا، نعني كلية الآداب، ولكن بوصفها، هنا، نموذجاً للمؤسسة الأصغر التي لا بد لإنجازاتها وإيجابياتها من أن تصب في المصبّ العام، نعني الجامعة فالتعليم العالي عموماً، ليكون لها في النتيجة، خصوصاً إذا ما عزّزتها تغيّرات وإنجازات مماثلة في كليات أخرى، تأثيرٌ في التغيير المطلوب؛ والرابع المستوى الشخصي، نعني على مستوى المتكلم. أما هذه الإيجابيات فهي الآتية:
المستوى الأول: ويتمثل في استمارة التقويم السنوي المركزية.. وهنا يجب أن أعترف بأنني كدتُ أقع في ما أتّهم بعض المثقفين به، وهو الكلام عن أمر أو ظاهرة أو فعالية أو ما أشبه، استناداً لا على معرفة وتماس مباشر بهذا الأمر أو الظاهرة أو الفعالية، بل على السماع عنها من الآخرين، أقول كدتُ أقع في ما أتّهم بعض المثففين به، حين (سمعتُ) ما سمعت من سلبيات عن (استمارة التقويم السنوي المركزية) الجديدة قبل أن اطلع عليها، والحمد لله أنني لم أفعل بل عمَدتُ إلى الاطلاع عليها، لا من منطلق الشك بما وصلني سماعاً عنها، ولأعترف بأني لم أكن أشكّ أصلاً، بل لألمّ بكل تفصيلاتها قبل الكتابة عنها، فماذا كانت المفاجأة؟ حسناً لقد وجدتها لا مختلفة عمّا صُوّر لي فقط، بل تقترب من أن تكون نموذجية، مع ما عليها من ملاحظات أعتقد من الطبيعي لأي إنجاز أو نموذج أو إنجاز أن يخلو من أشباهها. ولعل أهم ما نأخذه على هذا الاستمارة مما يمكن تفاديه وتصويبه، أولاً مقدار الدرجة الكبير المخصص لتقييم المسؤول المباشر التي يصعب تحييد المشاعر والعلاقات والرأي الشخصي فيها؛ وثانياً مقدار الدرجة الصغير المخصص للتأليف؛ وثالثاً ما يتعلق بالدرجة المضافة، إلى المئة الأصلية، التي تسجّل للأستاذ مما ينطبق في الغالب على التخصصات العلمية ولاسيما ما يتعلق من ذلك ببراءات الاختراع التي نعرف أن تحقيقها في التخصصات الإنسانية صعبٌ بل يقترب من أن يكون مستحيلاً، وقد فات مصمّم الاستمارة أن هناك إنجازات كان من الضروري إدخالها وإلى جانب براءات الاختراع، إذ هي تُتيح فرص حصول ذوي التخصصات الإنسانية على تقويم مضاف، مع أنها لا تقتصر عليهم بل تشمل التخصصات العلمية أيضاً، وهي في كل الأحوال علمية وأكاديمية. نعني بهذه الجوائز الثقافية والعلمية والأكاديمية العالمية والعربية والمحلية، والحضور، أعضاءَ ومشاركين ومحكّمين وخبراءَ ومقوّمين، في الجمعيات والمؤسسات الثقافية والعلمية والأكاديمية العالمية والعربية والمحلية. فبسبب خلوّ الاستمارة من هذه يفقد التدريسيون الذين يحققون إنجازات فيها من الحصول على درجات وتقويمات يستحقونها.
المستوى الثاني: يتمثل هذا الإنجاز الإيجابي في ما حققته جامعة بغداد على تصنيف المتركس الأسباني الدولي، حين تقدمت من المركز (5570) إلى المركز (1350) عالمياً، إضافة إلى دخولها ضمن أفضل (100) جامعة عربية، وهو إنجاز لا يمكن إنكار أنه كبير، لكن من المهم هنا عدم المبالغة في الرقص لهذا، فحين نفرح بتقدمنا على أكثر من عشرة آلاف جامعة، يجب أن لا ننسبى أن ما يقارب (1500) جامعة تتقدم علينا، وهذا عدد ليس بقليل، إضافة إلى أن التصنيف يتعلق بجانب بعينه، تهني الويبس. وعليه فالأصح أن تقدمنا على العدد الأول من الجامعات يجب أن يدفعنا إلى العمل على تجاوز عدد آخر من الجامعات التي تتقدم علينا، وحين نتقدم في جانب أو جوانب معينة فإن هذا يجب أن يدفعنا للعمل على التقدم في جوانب أخرى.
المستوى الثالث: ويتعلق هذا بما يتطور من حولي مباشرة وتحديداً من نشاط غير عادي في كلية الاداب، وأنا حين أتكلم عن هذه الكلية هنا، فإنما أتكلم عما يجري بها بوصفها نموذجاً مما يمكن أن يجري في الكليات الآخرى. فإذا كان الإنجاز والتغيير والتطوير على مستوى الأنظمة والسياقات الأكاديمية والإدارية مكبّلة ببعض أنظمة التعليم العالي وتعليماته غير الصحيحة مما تناولناها في المقالات السابقة وبسلطات مسؤولين غير كفوئين في ظل مركزية الإدارة والقرار، فإن هناك ما يمكن للكليات أن تتصرف به أو فيه كونه لا يخضع لمثل هذه الأنظمة والتعليمات والسياقات ولمثل هؤلاء المسؤولين، ومن ذلك مثلاً الأنشطة الثقافية غير النمطية. فالواقع أن كلية الآداب الأم في الجامعة الأم، وبخلاف سنوات عديدة سابقة، تبدو وكأنها تنتفض على نفسها، على الأقل في هذه الجوانب، نعني الأنشطة الثقافية، لتبدو الكلية، في النتيجة، ولاسيما في القسم الأم، قسم اللغة العربية، كخلية نحل لا تكلّ ولا تهدأ، فلا يكاد أسبوع يمضي دون محاضرة، أو ندوة، أو تكريم، بمشاركة أساتذة الكلية وطلبتها والعديد من ضيوفها، وهو ما نعتقد أنه جعل الطلبة في حركة دؤوب لا تهدأ، وأخذهم نحو آفاق أوسع من أن يضيّقها المسؤول الاعلى والتعليمات والنُظم التقليدية من خلال الدرس والمحاضرة والكتاب والأستاذ، مع أهمية هذه الأخيرة بالطبع.
المستوى الرابع: وأعني به المستوى الشخصي، الذي يخصّني، ولكن مما يمكن أن ينطبق على غيري. فمع ما سمعته، مع البدء بنشر سلسلة مقالاتي التي تتناول، كما قلنا، سلبيات التعليم العالي في العراق، من تحذيرات من أصدقاء من احتمال التعرّض لي من جهات معينة أو مسؤولين معينين، نقول باعتزاز إن أي مسؤول لم يتعرض لي بكلمة تهديد، ولا بكلمة لوم، بل لا بكلمة عتاب واحدة رغم حدّة ما كتبته عن التعليم العالي وزارة ووزيراً، ومؤسسات ومسؤولين ورؤساء جامعات وعمداء. وهذا بصراحة أمر يجب أن يعني الكثير لي ولغيري.
إذن، في ظل هذه المنجزات والتجاوز والتغيير والظواهر الإيجابية، على قلّتها، من الممكن للتعليم العالي أن يتجاوز السلبي وأن يحقق ما لم يحققه، ولكن أولاً بشرط الاعتراف بوجود هذا السلبي، وثانياً بتهيُّؤ النية والعزيمة، وثالثاً بالتوفّر على العناصر والأدوات اللازمة لتحقيق المطلوب وبشكل خاص العنصر البشري، نعني المسؤول القادر والكفء، ثم رابعاً وأخيراً بالشروع لتحقيق المطلوب إنجازاً وإصلاحاً وتجاوزاً وبناءً. فهل هذا كله موجود؟ وهل للحلم بجامعة عراقية عصرية أن يعود؟ بصراحة نشك، ولكننا مع هذا نأمل أن يتهيأ لنا فيحقق المطلوب..

عن fatimahassann23

شاهد أيضاً

رعب كافكوي في قصص يحيى جواد

رعب كافكوي في قصص يحيى جوادقراءة لمجموعة “الرعب والرجال” في ضوء المنهج النفسيمنشورةأ د. نجم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *