يواقيت الأرض – سعد الدين خضر

  ميسلون هادي.. ثنائيات التضاد في يواقيت الأرض
خيال سردي ينصاع لسحر أمكنة واقعية
سعد الدين خضر
جريدة (الزمان)، لندن، 14/7/2006
تغرف ميسلون هادي من مخزون الذاكرة لتقدم لنا هذه المرة رواية لذيذة بعد أن عودتنا علي قصصها القصيرة محكمة البناء، عالية الفن، (يواقيت الأرض) رواية الكاتبة التي ربما سبقت عملها الآخر (العيون السود).
في الرواية ما يمكن ان نصفه بـ (تضاد الحنين) وبرغم ان الكاتبة اجتهدت في ان (تغزل) خيطا رفيعاً يفصل بين (الاغتراب) و(التشرد) بين (الغربة) و(الضياع).. الحالة التي جسدها بطل الرواية (ناجي عبد السلام مقصود) لكن مجريات الحدث تدلنا علي انه مجرد انسان حائر يصطنع احيانا الرغبة في الضياع والسفر: غواية الروح.. الهرب من واقع وصل اليه بكهولته منذ ان سمع من يناديه: (عمو)، كما وصل اليه بما يحيطه من ظرف. وهو في اغترابه لم ينصت لصوت العقل ولا لرأي زوجته: (أتتصعلك وتتغرب اخر ايامك)!!؟؟ ربما بدافع الملل او اليأس من الحياة ورتابتها وهمومها..
في الرواية نسيج شفيف مثل وجع مكتوم لا يصح الافصاح عنه بالشكوي والأنين، لقد تركت الساردة لحالات الانسان ــ انسان الرواية ــ ان تعبر عنه تارة هنا وتارة هناك، وناجي عبد السلام في حوار دائم مع نفسه ــ حد الهلوسة ــ ومع الآخرين! معبراً عن حالات الاغتراب العراقي: “الي أين ؟؟ لا أدري بعد، ربما الي اليمن ربما ليبيا … بلاد العرب أوطاني”.
ومثلما حركت الكاتبة امكنة الرواية كذلك حركت أزمنتها.. اختزلت احياناً ــ بالتداعيات والاحلام ــ ومدت احياناً، ولكن التقويم التاريخي كان في الرواية مطابقاً دائماً لصيرورة احداثها ووقائعها، مما يؤكد مهارة الروائية وحسن هندستها.

الامال والأمنيات
هل نقول ان الرواية مثلت خلاصة جدل الانسان مع واقعه!؟ ذلك الجدل الذي يخص الوجود الراهن والماضي والمستقبل، مثل الحوار حول (الطب العدلي) وهل أن الطب للأحياء أم للأموات ؟! وكما يخص الامال والأمنيات وتلك الرغبات السرية التي يضمرها المرء لحياته.. كانت الكاتبة حذرة في فضح تلك الرغبات لم تقل ماذا يريد ناجي عبدالسلام من الرغبات السرية الخاصة.. ماذا ؟؟
وربما كان (قارب النجاة) الذي توهمه ناجي عبدالسلام هو الذي تحول في ذهنه الي ذلك (المركب) الذي أخذه الي التلاشي واللاوجود.. ذلك هو الخلاص!؟ وكم كنت اود ــ كقارئ ــ ان تقف الرواية عند نهاية المقطع (22) منها.. بدلا من ان تتصل بمقطعين اثنين آخرين، فالرواية انتهت عندما غادرت السفينة (المركب) الجزيرة وتركت ناجي عبدالسلام وحيداً، نسوه عندما ذهب لقضاء حاجة، فعاد ولم يجد السفينة، وبهذا (الضياع) حققت الرواية الذروة في دراما الحدث.. فماذا بعد!؟ لقد عاد ناجي عبدالسلام وحيداً ولكأنه كلكامش او أنكيدو يبحث عن عشبة الخلود او انه (روبنصن كروز) يبحث عن (جمعه ــ فرايداي) في جزيرة موحشة مقفرة خالية، ولكن ناجي عبدالسلام ظل يحلم في منامه علي ظهر المركب او في مكان آخر بين الصخور.. او حطام المركب!! والحسنة التي اراها في المقاطع الزائدة ــ برأيي ــ رقم 23 و24 انها صورت بؤس وضياع تلك الاعداد من البشر المغامرين والمهاجرين غير الشرعيين ــ كما يوصفون ــ ووقوعهم في شراك القراصنة..، ولكأني بها تقول: من اضاع وطنه.. اضاع كل شيء..، لن يصلوا أبداً الي (ميناء السرور العظيم)!!؟؟.

قاموسية جامدة
(يواقيت الارض) رواية مكتوبة في العراء.! ومطروحة كذلك، رواية ليست مخبوءة او مموهة، كل الاسماء فيها بمسمياتها الحقيقية البغدادية (همبركر أبو يونان، جبار أبو الشربت، الهام المدفعي، أجنحة معرض بغداد الدولي …الخ)، ولكن القارئ الذي يبحث عن رواية انثوية (رومانتيكية) لن يجدها في (يواقيت الارض) ولا عند ميسلون هادي.
لقد نجحت ميسلون هادي في تجنب حشو السرد بالفاظ وكلمات قاموسية جامدة، بل علي العكس من ذلك فقد خففت صرامة النحو ببعض المفردات من اللغة الدارجة المفهومة علي نطاق واسع، لقد ألجأت وطأة العمر، وقسوة الحياة بطلنا ناجي عبدالسلام الي نحت بعض (الحكم) كمسلمات اوردتها الكاتبة في مواقع من الرواية تدل علي (خبرة) و(ذكاء) منها مثلا: (نظريات الغربة) و(نظريات ما قبل الالف) و(نظريات ما بعد الالف) و(ليس لسنن النساء تبديلا) و(الشيخوخة نهاية كالموت) و(ان العمر يتقدم بالحواس).. الخ كما اوردت الرواية بعض الالفاظ الدارجة مثل (اختفت الخردة من الجزادين) ] والخردة معناها (الفكة) أما الجزادين فهي محفظات النقود [ و(الهبطة) و(أبعد أن شاب ودوه الكُتّابْ).. الخ.
ولا تخلو الرواية من (فانتازيا) في السرد واللغة اذ استخدمت الكاتبة عبارات تتفق مع نهج (اللامعقول) في الكتابة وفي القص: (نظر من النافذة فكان الظلام الاخوي قد لف الكون بورق هدايا اسود اللون تزينه نقاط لامعات مرسومة علي شكل نجوم) وكذلك نقرأ: (اذا اخرج يديه من جيبي صدريته فان الكفين ستبقيان في مكانهما)…، ولكن هذا لاينفي موضوعية الرواية التي تؤكدها حقيقة ماورد فيها من احداث واسماء واغنيات وحشرات واثمار واشجار ونجوم سياسية واذاعة وسينما ومسرح ومطاعم وقنوات فضائية وريموت كونترول حي.. بل ان الكاتبة تعقبت حتي حركات المودة النسائية من (الكيمونة) الي (الحجاب) الي (الخمار)..!؟ ان رواية (يواقيت الارض) كرست تجربة الكاتبة وعززت ثقة القارئ والناقد بها ومنحتها مرة اخري خصوصيتها الابداعية فضلا علي ما تتميز به قصصها القصيرة من ايقاعات فنية تستدعي رغبة القارئ وتثير اعجابه.


عن fatimahassann23

شاهد أيضاً

ميسلون هادئ……غزارة الإنتاج وبراعة الأداء.

ميسلون هادئ……غزارة الإنتاج وبراعة الأداءمن الأحداث الفارقة والمائزة في حياتي،هو اللقاء بالروائية المبدعة ميسلون هادي، …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *