وليد سليمان، على سور المحطة

على سور القصة
قراءة لمجموعة ((على سور المحطة)) لوليد سليمان
منشور
د. نجم عبدالله كاظم
( 1 )
مما لا شك فيه أن عمر القصة الأردنية ليس طويلاً، لكن هذا لا يعني خلو الساحة الأدبية الأردنية من العطاءات القصصية والروائية الجيدة، بل المتميزة التي يمكن أن تحتل مكانة في صرح القصة العربية، إضافة الى تسجيل نتاجات أخرى بعض التجاوزات الفنية مقارنةً بالموجود السابق. إن هذا الذي قد يبدو مفارقة أو تناقضاً في الموقف النقدي الذي نوحي به هنا– وما هو في حقيقته بتناقض– هو وراء ما يمكن أن نسميه الواقع الـدبي الثنائي القيمة، والقائم على أن لأي عمل قصصي أو روائي– كما هو شأن كل عمل أدبي بشكل عام– قيمةً غير مطلقة تتيح لنا شيئاً من النسبية في الموقف منه نقدياً، وهو ما قد يكون وراء بعض مواقفنا من العمل الذي نتناوله هنا، ولكن مع التأكيد على عدم تجاوزنا، في هذا، للمتطلبات الأساسية للفن التي يجب أن يتوافر عليها أي عمل أدبي.
تضم مجموعة وليد سليمان القصصية “على سور المحطة”– الصادرة سنة 1997([1])– إحدى عشرة قصة، نعتقد أنها تفرض مثل هذه الثنائية في الموقف النقدي التي قد يلاحظها القارئ في بعض قراءتنا، الأمر الذي كان وراء طرحنا لها ابتداءً. فنجد التجربة عموماً، وتجربة كاتب هذه المجموعة خصوصاً، على ما تبدو لنا، تبرّر لنا ذلك كله. ولعل ميل غالبية قصص المجموعة إلى أن تكون قصصاً قصيرة جداً أكثر منها قصصاً قصيرة اعتيادية، هو نتيجة لمثل هذه الجدة في التجربة. فالقصة القصيرة جداً شكلٌ أو نوعٌ– ولا نقول جنساً، لأنها ليست كذلك– كثيراً ما يتواءم مع جدّة تجربة الكاتب، مع أن هذا لا ينتقص من هذا الشكل فنياً حين يعي الكاتب خصوصيته ومتطلباته الفنية ويستطيع التعامل معه بالفنية التي تمكنه من الخروج منه بالمتميز من النماذج، كما فعل أبرز كتّابها العرب، من أمثال زكريا تامر وخالد حبيب الراوي وعبد الرحمن مجيد الربيعي وياسين رفاعية وإبراهيم أحمد وعلي خيون وآخرين. لكن عيب هذا الشكل القصصي– إن كان هذا عيبه فعلاً– هو أنه صهوة يتوقف التوفيق أو الإخفاق في التعامل معها، لا عليها هي ذاتها، بل على ممتطيها الذين كثيراً ما يستسهلونها فيسقطون منها، والحقيقة أن تسعاً من الإحدى عشرة قصة التي ضمتها مجموعة وليد سليمان هي قصص قصيرة جداً بمعزل عن مدى توفيق القاص فيها أو عدمه. هنا نتوقف عند ملمح فني، لعله الأول الذي يجابهنا في قراءة المجموعة، مما يناسب هذا الشكل من الكتابة، ذلك هو اللغة الخاصة، في شفافيتها ونوعية مفرداتها وتعبيراتها المنتقاة بعناية وإقناع غالباً، للتعبير عن لقطات عُرفت بها القصة القصيرة جدا، وتكوّن الملمح الآخر لها، حين لا تكون- نعني هذه اللقطات- موضوعاتٍ تماماً. إنها ملامح إنسانية وأحاسيس وأفكار وخواطر تبدو عارضة، وما هي بارضة، هي مما قد ينمو في دواخلنا وإنْ كنّا لا نراها أو نحسها فينا، كما لا نراها أو نحسها فيمن هم حولنا، وعليه فنحن لا نلتفت إليها إلا حين ينقلها إلينا آخر، ولا يفعل ذلك في الواقع إلا من امتلك إحساساً مرهفاً خاصاً مثل وليد سليمان. ولعل من طريف ما يمكن أن نقوله عن ارتباط هذه الملامح والأحاسيس والأفكار والخواطر بدواخلنا أو بالدواخل الإنسانية عموماً، أن هذا الارتباط يتحقق بذاتية واضحة مع أن قصص المجموعة قد جاءت بضمير الغائب، باستثناء ثلاث، ربما صح القول إنها رُويت بتجرد من الضمائر، أو لنقل بوصف حيادي، وليس بضمير الغائب.

( 2 )
انطلاقاً من هذه الذاتية في (الموضوع) و(السرد)، واعتماد الدواخل والأحاسيس، لم يكن غريباً أن تحلّق معظم القصص في أجواء الخيال، وتغرق أحياناً في التعبيرات الرومانسية، كما يتمثّل ذلك بشكل واضح في قصص “مملكتي”، و”أبيض وأحمر وفيكا”، و”على سور المحطة”:
“تخرج سعاد من بيتها… بجانب المحطة… تقترب بخطواتها الغزالية… بشعرها النهري… بوجهها الشمسي… بوجهها المنمش بنقاط مشمش صغيرة… تبدأ الشرارة تسري بجانب القلب… أخاف توقدها أكثر… لا أخاف من حريق قلبي… أخاف أن تشتعل المحطة بكل بنزينها وكازها وسولارها… لكنها الشرارة… كما النسيم تصبح…”- المجموعة، ص14.
لكن ذلك جرّ القاص أحياناً إلى الإغراق في رومانسية اللغة والموقف وشعريتهما، ليكون على حساب الطبيعة السردية للقصة، كما هو في قصة “مثل رذاذ المطر”، إذ لم يبقَ من الحدثية فيها إلاّ لمحة يقتنصها الشعر عادةً أكثر مما تفعله القصة، الأمر الذي قرب القصة من النفس الإنشائي:
“… آه… فرح يأتي… ويستقر في ذرات جسمي… ردن قميصي الأبيض يهمس لغصن شجيرة تقف بشوق عند حافة الرصيف… آه… عفواً… تضحك لي الشجيرة بكل أغصانها وأوراقها الناعمة… إنها تضحك كطفل.. من أعماق فؤاده الحديث”- المجموعة، ص19.
هل هذا يعني أن الرومانسية تقتل القصة؟ لا بكل تأكيد، ولكن بحدود الكلام عما قد يسمى بالواقعية الرومانسية، يبدو أن الانطلاق في كتابة القصة من الواقع متظافراً مع الرومانسية، وليس على حسابها، مما يمنح القصة جمالية شعرية، مع عدم سلبها قصصيتها، خصوصاً حين يكون التعامل مع موضوعات أو أحداث– وفي النتيجة مع شخصيات بالطبع– مفعمة بالتفرد والخصوصية المنبعثين من رؤية الإنسان الفرد الخاصة للموضوع أو الفكرة أو الحدث، مقرونةً بما تثيره من انفعالات وعواطف في المتلقين الذين يكونون، بدورهم في هذه الحالة، فاعلين لا متلقّين فقط. وهكذا وجدنا بعض القصص مفعمة بعاطفية وتفاعل أحاسيس مقترنةً بأحداث وموضوعات بعينها هي أقرب، بطبيعتها، إلى الرومانسية منها إلى الواقعية، كموضوعات الطفولة والصبا وما يقترن بها من وقائع البراءة والأحلام ذوات الخصوصية التي ميزت عدة قصص من المجموعة. فقصة “مملكتي” مثلاً هي حلم ينمو في دواخل صبي، وهو يستكشف عوالم لم يكن قد ألِفها بعد:
“وبدأت اكتشف لماذا يجب أن يعيش الإنسان… وبالذات أنا… ليس للأكل والشرب والتعلم فقط… فأنا على استعداد أن التزم رغيف ساندوتش في اليوم عند اللزوم… لزوم حبي للفتاة السكرية… ولكن مملكة حبي، بعد مرور زمن بسيط جاء من أوقف بناءها وأخذ يشحذ أنياب جرافته كي يهدّمها فوق رأسي…
إانه قائد بيتنا… إنه أبي… افتتح أبي الجلسة قائلاً: أنت ممنوع من السهر… ممنوع من الضحك… ممنوع من النظر… ممنوع من العشق… ممنوع… ممنوع”- المجموعة، ص12-13.
لينهار حلمه بقسوة الآخر– الكبير– بقوانينه ووعظه وقيوده وضوابطه وبوليسياته، وفوق ذلك بتطفّله على عالمٍ ما هو بعالمه. ولأنه تطفّل واعتداء، وإزاء عدم القدرة على المقاومة الجسدية أو ربما عدم الرغبة في مثل هذه المقاومة، مع الرغبة في الوقت نفسه في المحافظة على عالمه وعلى ما بناه، يكون الفعل المناسب:
“وبدأت من جديد أعيد بناء مملكتي حجراً حجراً، ولكن بسرّيّة هذه المرة”- المجموعة، ص13.
تلتقي مع هذه القصة، إلى حد كبير، قصة “على سور المحطة”، إذ هي تدور حول انهيار الحلم ببراءته وبامتلائه بالحب، بسبب قسوة الواقع والآخرين وقوانينهم. أما قصة (الرصيف الخفيف) فهي قصة الفرح حين يجتاح الإنسان، فيبدأ برؤية كل شيء، لا على حقيقته تماماً، بل حلواً وحلواً فقط، يبتسم له، لأنه إنسان لا ينظر إلى الآخرين والأشياء إلا بفرح وانفتاح وترحيب وحب. ووسط هذا الفضاء الممتد بلا حدود من الحب والتخيّلات الرومانسية، وربما الفنطازية والبراءة والصفاء ونبضات الطفولة، حتى حين لا تكون لأطفالٍ فعلاً، نجدنا نعيش برضا حتى حين تكون أحداث بعض القصص غريبة، أو غير مألوفة، وربما غير مقنعة واقعيا، مثل “روبي يا روبي”، و”شوارب كثيفة”.

( 3 )
عموما يمكن القول، مع أن الأحلام والتخيّلات والآمال مرتبطة ظاهرياً بالحب وعلاقات الحب التي تكاد تهيمن على القصص، فإننا نحسها تعبر عما هو أبعد وأعم من ذلك، عن الحلم المشروع مهما كان نوعه، بوصفه من استحقاقات الإنسان، وعن الأمل في ذلك وفي المستقبل، وإنْ كان ذلك عبر الإيحاء والإيماء أكثر منه عبر التصريح. ولعل ذلك هو بالتحديد ما يخرج الحب وعلاقات الحب والحلم به، من ان يكون وتكون ذاتياً وذاتية فقط. بعبارة أخرى، إن القاص لا يكتفي بالعلاقة، حيث تكون هناك علاقة، بل بما يكمن خلفها من أحلام تصطدم بمن يهدّدها بالتهديم أو ربما يهدمها فعلاً. لكنه لا يقف عادة عند هذا الحد، وهنا يكون الإيماء والايحاء، اللذان تتبناهما القصة القصيرة جداً، وربما مع بعض التصريح بالبديل والعلاج والمقاومة، فيندفع القاص بأبطاله إلى ما بعد الحلم، حيث تكون النهاية، أو بقاء الحلم، أو الثورة، أو بناء الحلم من جديد، أو بناء حلم آخر مع تراكم التجربة، وهذا في الواقع ما يحدث كله أو بعضه لحبّنا وآمالنا وأحلامنا حين تصطدم، في الواقع، بما يمنعها من التحقق أو الاستمرار والتواصل. إن (الحلم والامل) هما الموضوعة الرئيسة او المركزية لقصص وليد سليمان، بل يصح القول أيضاً إن قصص المجموعة هي قصص (الحلم والامل). ولعل مثل هكذا ثيمة أو موضوعة، بما تشتمل عليه من أفكار، هي، على عكس ظاهرها هنا، الأصعب لا في وضع اليد عليها أو التقاطها أو التعبير عنها في حياتنا اليومية، بل في جعلها مادة الكتابة الأدبية، خصوصاً حين لا يكون هذا الذي نكتبه شعرياً. ولذا لنا أن نفهم ونتقبل أن تخفق بعض القصص في أن تكون قصصاً فعلاً، كما هو حال “الوطن يا عيني”، و “ابتسم البحر”، بينما تغرق أخرى في عوالم الشعر وفضاءاته، وفي إنشائية قد تهدّدها، مثل قصة “مثل رذاذ المطر”، حتى وإنْ امتلكتْ لغتها جمالية، الأمر الذي جعلها تقف على سور القصة فلا تدخلها تماماً. لكن هذا يجب أن لا يُنسينا الإبداع– مع أنه واعد أكثر منه منجز– في قصص أخرى. ولعل قصة “مملكتي” هي الاكثر تجسيدا لهذا الابداع، الذي يتمثل أيضاً في “على سور المحطة”، و”الرصيف الخفيف”، بينما تشترك القصص الأخرى في منح القاص مشروعية َلا يكتفي بالوقوف على سور الفن القصصي– كما فعل في بعض قصص المجموعة– بل بالنزول من فوقه وولوج هذا الفن بثقة وتسلح بكل متطلباته الأساسية، لاسيما بعد إثراء التجربة والحِرفيّة اللتين تبدوان لنا أنهما لما يزالا غضّين، ولكنهما موجودان.

( 4 )
نموذج من قصص المجموعة القصيرة جداً
مملكتي
أنا.. أتشاجر مع هبّة هواء.. باردة.. ساخنة.. مع قمصاني الحمر.. والزرق.. والصفر.. والمخططة.. مع البلوز والبنطال.. مع حذائي إنْ لم يكن لامعاً.. مع جواربي المثقوبة.. وغير المثقوبة.
أتشاجر مع وجبات الطعام.. إلاّ وجبة رغيف الساندوتش الذي أبتاعه بعشق من المطعم الكائن أمام بيت الفتاة السكريةِ الروح.. العنبيّة الملامح.. فتاتي.
كان شُبّاكي صديقي الروح بالروح.. لأنه يطل على شبّاكها.. مرة أقترب أخي الكبير من خلفي وهمس في أذني: البنت مثل السكّر ودمها شربات.. لكن لا تنس أنكَ صغير! ثم اختفى أخي كالحلم.. عندها وضعتُ في رأسي بعض علامات الاستفهام والتعجّب.. لكنني بعد لحظات عدتُ فألصقتُ صدري ويديّ على أخشاب الشبّاك كالأُم تحتضن طفلها.
وبدأت أكتشف لماذا يحب أن يعيش الإنسان.. والذات أنا.. ليس للأكل والشرب والتعلّم فقط.. فأنا على استعداد أن ألتزم بنصف رغيف ساندوتش في اليوم عند اللزوم.. لزوم حبي للفتاة السكرية.. لكن مملكة حبي.. وبعد مرور زمن بسيط جاء من أوقف بناءها وأخذَ يشحذ أنياب جرّافته كي يهدّمها فوق راسي.. رأسي الصغير.. لقد بنيتُ مملكتي حجراً حجراً.
إنه قائد بيتنا.. إنه أبي.. وخلال ذلك حمل أبي ميكروفون بسماعة صراخية وبدأ ينذرني بالخروج من مملكتي.. من جنتي.. رافعاً يديَّ إلى الأعلى.. وإلاّ.. وعندما أصبحتُ وحيداً أمامه قال منتصراً: ها.. ها.. أيها الأغرّ.. تعال سوف نعقد مؤتمراً بيني وبينك.. ويمكن لنا أنْ ندعو أخاك الكبير كمراقب فقط.. افتتحَ أبي الجلسة قائلاً: أنت ممنوع من السهر.. ممنوع من الضحك.. ممنوع من النظر.. ممنوع من العشق.. ممنوع.. ممنوع.. لكنني قاطعت المؤتمر قبل أن ينتهي مغشياً عليّ.
أفقت بعد فترة على كلمات منعشة.. كان أخي الكبير يرشّها على وجهي.. وفي أُذنيَّ.. لا تحزن يا أخي.. أخي الصغير.. وداعبني كذلك قائلاً: مهما يكن فالبنت دمها شربات.. ثم شدّني من ذراعي.. فنهضت واقفاً.
وبدأتُ من جديد أُعيد بناء مملكتي حجراً حجراً.. ولكن بسرّيّةٍ هذه المرة. – ص12-13.


[1]) وليد سليمان: على سور المحطة، دار الكرمل ورابطة الكتّاب الأردنيين، عمان، 1997.

عن fatimahassann23

شاهد أيضاً

دراسة عن دروب وحشية

تشكلات البناء السردي في رواية دروب وحشية للناقد نجم عبد الله كاظم أنفال_كاظم جريدة اوروك …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *