ولا يخبر أباه بما حدث
ميسلون هادي
يمكن القول إن لا أحد يمكنه التنبؤ بمستقبل التغيير الذي ستنجم عنه ثورات الربيع العربي، ولكن من المؤكد إن نهاية العقد الثاني من القرن العشرين ستشهد تغيراً جذريا في مجرى التاريخ بعد أن تكتمل تلك الثورات، وتبدأ الديموقرطيات بالظهور تباعاً وتقوم الحركات الدينية بمراجعة نفسها للتأقلم مع هذا الواقع الجديد عساه أن يكون ربيعاً بجد ولا يتحول إلى خريف. يحدث هذا بينما الغرب يعيش أزمة طاحنة سببها الواقع الاقتصادي المضطرب الذي تسببت به البنوك الكبرى وآليات السوق الحرة.
الثورات العظمى عادة تقوم بها الجماهير ويصفق لها الفلاسفة والمفكرون الكبار بله يمهدون لها، إذ أن هذا التغيير يبقى ناقصاً بدون لوجست ثقافي فكري يلم الليل ويفرش النهار، وهذا ماتحاول فعله النخبة في مصر عندما تهرع لاحتضان ثورة يناير. ولكن ماحدث في العراق لم يكن ثورة كبرى ولا ساهم المثقفون فيه بشكل حاسم، ولا انطلق من ميدان من ميادين التحرير، إنما كان تغييرا نحو الديموقراطية، كما نأمل، قامت به دوله عظمى عن طريق الحرب وإنقسم حوله الناس بشكل كبير.
ومما يحسب للثقافة العراقية الآن وبقوة أنها تحول تصحيح المسار الخاطئ للعملية السياسية والكثير من الأقلام الشجاعة والنبيلة لم تصمت لحظة واحدة في مواجهة موجات التجهيل ومظاهر الفوضى. إلا أن هناك من (المثقفين) من صدق نفسه ثائراً من الثوار، وقام بالنظر إلى المرآة فكره صورة أبيه التي وجدها في وجهه فأراد قتل الأب المزعوم.. لعله لا يعلم إن الثورة تبدأ من النفس وإن التمرد والرفض للقيم العتيقة والمتخلفة يكون بكيفية النظر إلى حقوق الإنسان بشكل عام… وقديماً قال ابن رشد إن المرأة مرآة للمجتمع فإذا نظرنا إلى حال المرأة عرفنا حال المجتمع. وفيما نرى من حولنا فإن بعض المثقفين من هذا الجيل ممن يريدون قتل آبائهم، هم ممن يقمعون زوجاتهم وأخواتهم وربما يحجبون بناتهم منذ سن الثامنة، وهذا يعني أنهم لا يجدون في مركزيتهم وهامشية المرأة ضيراً كبيراً، ولكنهم يتطرفون في الاستخفاف بمركزيات أخرى هيمنت على المشهد الثقافي، وبدلاً من دراسة أسبابها واكتشاف إزاحاتها الجديدة، يعلكون قتل الأب مثل ورقة خس عالية الضجيج.
إن تدمير الآخر الكبير وإقصائه وتهميشه هو ليس من أجل التمرد عليه وتحديث أفكاره، كما حدث في انتفاضة الطلاب الفرنسية عام 1968 والتي عارضها اليمين وصفق لها اليسار، وإنما هي من أجل النكوص عن الذاكرة المحرجة التي كونتها الصورة النمطية لثنائيات الهامش والمركز. وهكذا صارت الحرب الطبقية حرباً فكرية، وأصبحت العنصرية والطبقية والطائفية تجد لها اليوم متنفساً عبر فكرة قتل الذاكرة. تهميش الماضي وتحقيره.. ثم اختزال التغيير إلى لغة التهميش والاقصاء، فيصبح بعيداً عن الثورية التقدمية في الشكل مثلما كان بعيداً عنها في المضمون.
إن جيل الشباب العراقي الذي عاش طفولته سنوات الحرب العراقية الايرانية وصباه أيام الحصار كان سيجد فعلاً، بعد التغيير، ذاته وأنوار طاقته المكبوتة. ولكن هذا الجيل أصابته اللامبالاة الرهيبة بعد خيبة الحلم الذي انتظره طويلاً، فهاجر من هاجر وتحوسم من تحوسم وتدروش من تدروش ومن بقي مخلصاً لوطنيته سيكون من البطرين أو من سكان المريخ في عهد الإقصاء والتهميش الذي نزع عن الناس جلودههم وحمل مصباحاً للبحث عن وشم الماضي.
جريدة لناس 2011