وقفة مع القاص والروائي السوري
طالب عمران
وقصص الخيال العلمي
د.نجم عبدالله كاظم
تسعى هذه المقالة القصيرة إلى تقديم قراءة أو استقراء مكثف يقترب من أن نصفه بالوقفة القصيرة كما يعبر عنوانها عن ذلك أكثر منه القراءة التحليلية عند ثلاث من قصص القاص السوري طالب عمران. هذه القصص هي: “الغفلة، والحلبة ولذة المشنقة” وقد قرأناها واستمعنا إلى القاص وهو يقرأها في أحد المنتديات. هذا يعني أن اختيار هذه القصص إذ ينطوي على شيء من العشوائية فإنه يمثل أيضاً بدرجة ما القاص وفنه، لأنه انطوى أيضاً على اختيار واع كونه تم من القاص نفسه. وأياً كان أمر هذا الاختيار فإن التوقف عند أي من نتاج طالب عمران سيعني توقفاً صراحة وضمناً عند القصة العلمية، أو قصة الخيال العلمي. فالقاص طالب عمران هو من أبرز كتاب الخيال العلمي في الأدب العربي الحديث قصةً وروايةً وأدبَ أطفال، إن لم يكن الأبرز على الإطلاق. ولكن يجب أن نقول إننا وجدنا القصص المختارة إنما تتحرش بالعلم والخيال العلمي والفكرة العلمية أكثر من أن تقوم عليها. فإذا كانت قصة الخيال العلمي “تدور حول حدث علمي، وتهدف إلى بناء الشخصية ونشر الحقائق والقوانين العلمية” فإن قصص عمران التي قرأها لنا لا تتفق كلياً مع ذلك . ولكن الكاتب على أية حال لم يكن ليبتعد عن ذلك كثيراً، ومن هنا قلنا إن هذه القصص تتحرش بالعلم والخيال العلمي.
لعل أكثر عناصر القصة العلمية حضوراً في القصص التي بين أيدينا هو الخيال الأدبي/ العلمي إذا جاز لنا التعبير، بمعنى أن الكاتب إذ يشغّل طبيعياً الخيال بوصفه عنصراً من عناصر الأدب الإبداعي فإنه ينطلق مع ذلك أو ضمنه مما تحركه ثقافته ودراسته ومعرفته العلمية التي لها خيالها وتخيلاتها الخاصة. في هذه القصص تحضر التحولات والمتغيرات التي قد تحدث لبعض الكائنات بفعل عوامل مختلفة، كما في قصة “الغفلة” التي نرى فيها النمل وقد صار في سلوكه وحشاً مخيفاً، ويحضر المستقبل في قصة “الحلبة” التي نجد أنفسنا فيها ننظر إلى الأرض ونتعامل معها من خلال إنسان المستقبل. وإذا كانت هاتان القصتان قد التقتا في هذا، مع أن القصة الثانية كانت أكثر انتماءً إلى القصة العلمية أو اقتراباً منها، فإنهما قد التقتا أيضاً في انطلاقهما مما نرى أن بعضنا قد يعيشها من كوابيس، وتحديداً كوابيس المستقبل المتخيّل التي يُطلقها واقع الحاضر المتعب وربما المرعب في تناقضاته وفي اضطهاد أسياده ونخبته للإنسان فرداً ومجتمعاً وللبيئة. وليس مهماً أن يكون هذا الواقع واقعنا نحن هنا حيث نعيش أم الواقع المطلق، أعني واقع الإنسان في كل مكان من الأرض، ما دامت النتيجة التي تصلنا من القصة واحدة إذ تمثل في أنه معرض للدمار حياةً وبيئةً وإنساناً. فقصة “الغفلة” تصور نملاً يزحف على المدينة ويهاجم الناس، وتحيداً عائلة البطل ويقتلها دون أن يتمكن هذا البطل من فعل شيء حيالها. أما قصة “الحلبة” فتقدم بطلها من أناس المستقبل الذين سيعيشون، لسبب أو لآخر في كواكب أخرى، وهو يعود إلى الأرض ليرى كيف صارت، فيجدها وقد سادها الطغيان الذي سرعان ما يطول في فعله وتأثيره البطلَ نفسه، مع أنه غريب إلى حد ما عن العالم الذي تهيمن عليه أدوات هذا الطغيان إذ هو يأتي من الماضي. ولما كانت أحداث القصة تقع في المستقبل المتخيَّل فإن مجيء بطلها من الماضي يعني أنه تعلقاً بأرض الواقع قادمٌ من الزمن الحاضر، حاضرنا نحن بالطبع. وهكذا تجسد لنا القصة الرعب الذي ينتظرنا، رعب المستقبل ونحن نعيش حاضراً ترى القصة أنه يقودنا إليه.
ولعل حالة الرعب والخوف والعذاب التي تقدمها قصتا “الغفلة، والحلبة” هي تحديداً التي تلتقي فيها القصتان مع القصة الثالثة “لذة المشنقة”، وفيها تصل حالة الرعب والعذاب التي يعيشها البطل الدرجة التي يصير معه حلمُه المريح المتمنَّى هو الحلم بالموت، ويصير بها المصير المريح المتمنَّى والبديل عن واقعه المعذِّب والمرعب هو الموت. حالة الرعب والعذاب والخوف هذه هي تحديداً موضوعة طالب عمران، بمعزل عن التوصيف أو التصنيف الفني لقصصه.
وتعلقاً بالتصنيف الفني نسأل: إن لم تنتمِ قصص عمران إلى قصص الخيال العلمي فإلى أي شكل أو نوع قصصي إذن؟ برأينا هي تنتمي إلى ما يسمى القصص الفنطازيا، وعلى أية حال تكاد تكون قصص الفنطازيا في بعض أشكالها أو نماذجها حلقة ما بين القصص الاعتيادية وقصص الخيال العلمي. ولعل أكثر قصص الكاتب التي استمعنا إليها تجسيداً لهذا الانتماء هي قصة “الغفلة” التي تذكرنا بقصص واحد من أبرز كتاب قصص الفنطازيا، نعني فرانز كافكا، وخاصة في روايته القصيرة “المسخ” وبعض قصصه القصيرة، وإلى حد بعيد رواية “المحاكمة”. بقي أن القاص، ومرة أخرى بمعزل عن التوصيف والتصنيف قد عبر بعمق ذي تأثير يبقى بظني في نفس القارئ بعد الانتهاء من قراءة أي قصة لمدة طويلة.. وذلك إنما هو من شأن الأدب الحي.
نختم قراءتنا بتجاوز نسبي لوقفتنا عند القصص المختارة لنذهب إلى طالب عمران في بعض ما قرأناه له من قبل من قصص الخيال العلمي. فقد سبق لنا أن قرأنا للكاتب روايات نشرت في السنوات الأخيرة، ولأننا رأينا فيها العلم مهيمناً ومؤثراً (سلبياً) في أدبيتها مقارنة بالقصص المختارة، فقد حاولنا أن نتحرى سبب هذا الاختلاف فثار في ذهننا سؤال وجدنا أن الإجابة عليه قد تحدد هذا السبب: هل قصص الخيال العلمي هي علم في الأدب، أم هي أدب في العلم؟ فوجدنا الافتراض الأكثر إقناعاً هو أنها علم في الأدب، ولهذا فإنها عندما كانت كذلك، كما في قصة “الحلبة”، فإنا جاءت مستوفية لأدبيتها إن صح التعبير، وعندما انعكست المعادلة فكانت أدباً في العلم كما في بعض الروايات الأخيرة فإنها قد قصّرت في أدبيتها. ومن هنا فإننا لنتمنى أخيراً من القاص الصديق أن يُبقي على التعامل الأصح برأينا مع قصص الخيال العلمي والأكثر إبقاءً على الفن فيما يكتب من قصص علمية.
القاص والروائي السوري
طالب عمران