واسيني الأعرج، مملكة الفراشة

تناغم الفن والموضوع
في رواية “مملكة الفراشة” لواسيني الأعرج
منشور
د. نجم عبدالله كاظم
ناقد وأكاديمي/ العراق
( 1 )
تتصدر رواية واسيني الأعرج “مملكة الفراشة”([1]) كلمة للمؤلف يقول فيها الحرب ثلاثة أنواع: (حرب معلنة ومميتة) “نهايتها خراب كلّي وأبطال…”، و(حرب أهلية) “تحرق الأخضر واليابس، يكيد فيها الأخ لأخيه…”، و(حرب أخيرة هي الحرب الصامتة)، “التي لا أحد يستطيع توصيفها، لأنها من غير ضجيج ولا ملامح، وعمياء…”، ص6. الرواية تستوحي موضوعها وأحداثها من المجتمع الجزائري في ظل النوع الأخير من الحرب، وواضح أن الكاتب يتمثّل وجهة نظر خاصة تجاهها، من البداية لتتعزّر في الرواية. فكما في غالبية روايات واسيني الأعرج، تُروى هذه الرواية بضمير المتكلّم الذي نحسه يخرج من أعماق شخص حقيقي هو، عندنا، المؤلف نفسه، وعليه فهو في هذا كأنه يتكلم عن نفسه، حتى وإن كان الراوي متكلمة، وهي بطلة الرواية (ياما)، ألم يقل فلوبير “أنا مدام بوفاري”؟. أما حين يحضر ضمير المخاطب، وتحديداً من خلال الرسائل التي تكتبها البطلة الراوية لحبيبها، ولا ترسلها، فإن حالة خطاب هذه الرسائل، بهذا، تلتقي بالحالة الأخرى التي يحضر فيها هذا الضمير، وهي المناجاة المعززة عادة لالذات والذاتية، وفي النتيجة يتعزز حضور الـ(أنا).
ربما يتفق هذا كله ابتداءً مع بوادر أن تكون الرواية رواية أفكار، حيث تهيمن الفكرة أو الأفكار على الشخصيات كما تتخطى هذه الأفكار مكانةَ الأحداث وفعّاليتها، لتكون هي الرواية. بل إن الفصل الأول ينتهي بعد أكثر من خمسين صفحة، دون أن يكون هناك من أحداث حقيقية، بل هي أفكار وتداعيات ومنلوغات وعوالم داخلية. يتفق مع هذا الذي نذهب إليه، أن قضية الرواية، ورغم انحسار الجانب الحدثي فيها، تتضح في نهاية هذا الفصل، وهي: الفرد أو الإنسان، الجزائري تحديداً هنا، في مرحلة ما بعد التسعينيات التي وضعتْ مع الحرب الأهلية التي سبقتها (الجزائرَ) على كفّ عفريت، أم هل نقول على جناح فراشة؟ ولعل أكثر ما يبدو لنا أن الرواية أو الكاتب يريدانه من العنوان (مملكة الفراشة) طبيعة الفراشة واجتماع الجمال بألوانها وتنوعاتها المبهرة، والرقة حدّ أن تكون على شفا الموت دائماً، وهو ما ينطبق فعلاً مع حال الجزائر التي صارت في تلك المرحلة عالمَ صراع ما بين من يريد الموت لها، أو على الأقل هو في رعونته يقودها إليه، ومن يريد لها الحياة، كما تجسده بشكل خاص (ياما) في كل حياتها وسلوكها داخل العائلة وفي العالم من حولها وحولهم ومع حبيبها المفترض على شاشة الفيسبوك، وفي دواخلها وتداعياتها وكتابتها:
“كنت على يقين بأن القتلة لن ينجحوا في مسعاهم الدموي، ولن يفلحوا في بسط الظلمة على البلاد لسبب ساذج وحقيقي، هو أن الحياة في هذه البلاد مثل الفراشة، لا تقبل أن تعيش في سكينة الوحدة القاتلة، بلا لون ولا سماء ولا بحر”. الرواية، ص80.
وهو مما ينطبق على البلاد الجميلة التي لا ترضى أن تعيش بدون ألوانها وتنوّعها وألقها، على الأقل كما يراها المؤلف وفي زمن بعينه، ومن خلال عيون بطلته ووعيها:
“حساسيتي المفرطة كانت تجاه الفراشات. لا أدري من أين جاءني هذا؟ ربما من أمي لأن جدتي لم تكن مصابة بهذا الجنون مثل أمي. حكتْ لي فيرجي مرة أنها في مرة من المرات ضاعت وهي تركض في ضيعة جدّها وراء الفراشات التي منحها الربيع يومها كلّ الألوان الزاهية، وأنها كانت تحزن على موتها السريع أو انكسار أجنحتها أو احتراقها على القناديل القوية.. كلما حاولت إسعاف بعضها تطايرتْ ألوانها في شكل غبار، ليتحول بعد ذلك جناحاها الأبيضان إلى كفن صغير يلفّ في بياضه جسدها العاري بعد أن تنسحب كل الألوان… تأكدَ لي مع الزمن أن الفراشة لا تتحمل العيش بلا ألوانها الأصلية، لأني حتى عندما حاولتُ في صغري أن ألوّن أجنحتها البيضاء ماتت بين يديّ”. الرواية، ص80.
لكن الأجزاء الأخيرة من الرواية قد تطرح بعداً أو معنىً أو دلالة أخرى لمملكة الفراشة، وهي ما يقال عما يمكن أن يسببه رفيف الفراشة، نظرياً، من كوارث وأعاصير، ومما يعني أن موقف شخص واحد أو فعله أو حتى محاولته، وهو في الرواية بطلتها (ياما) بالتأكيد التي تجمع ما بين رقة الفراشة وقوة فعلها وصمودها، يستطيع أن يغير وأن يبدل أي شيء أو مصير من حال إلى حال بفعل ما يقوده تأثيره تسارعه من نتائج. أيّاً كان الأرجح من هذين الاحتمالين، فإنه يتماشى مع موضوع الرواية وعالمها، كما أنهما قد يكونان مكمّلين لبعضهما.

( 2 )
تتمركز الرواية حول عائلة جزائرية، وبشكل خاص الإبنة الكبيرة فيها (ياما) الصيدلانية وعاشقة الموسيقى والرواية والوطن، وهي تعيش أجواء ما يسميها الكاتب (الحرب الصامتة)، وهي الأوضاع التي تلت الحرب الأهلية في عقد التسعينيات ويسمّيها الجزائريون العشرية السوداء وقد تركت آثارها على كل شيء في الجزائر وعلى الجيل الذي عاصرها وتواصل بعدها. تتلقى (ياما) جميع آثار الحرب الأهلية السابقة و(الحرب) الحالية، مباشرةً من جهة وعبر من يحيطون بها من جهة أخرى. فكما تتجسد في الناس والمجتمع، تتجسد في جميع أفراد عائلتها، فأبوها (زبير/ زوربا) يُغتال لأنه يعرف عن الفساد في المؤسسة التي يعمل فيها (أكثر مما يجب) ويرفض السكوت، وأخوها (رايان) يقع ضحية المخدرات التي توصله إلى القتل فالسجن، وأختها (ماريا/ كوزيت) تجرّدها الحرب وظروفها من كل العواطف والالتزام والانشداد إلى العائلة والوطن، لتختار الزواج والاستقرار في كندا، وأمها (فيرجي) تتهاوى تحت طرق الظروف وتأثيرات الحرب لتنتهي إلى ما يقترب من فقدان العقل فالموت. أما (ياما) نفسها، فبعد أن تكون قد فقدت من قبل حبيبها السابق (ديفيد/ ديف) الذي يُقتل في ظروف غامضة، لا تكاد تحظى بحبيبها الحالي (فادي/ فاوست) الذي تتواصل معه على الفيسبوك، ويبدو وكأنه (غودو) الذي تنتظر أن يعود من موطن إقامته في أسبانيا، ولا يأتي. وسط ذلك كله تجد (ياما) نفسها تعيش الظرف الدموي والقاسي، وتحاول في الوقت نفسه، وبصمود غير عادي، أن تنجو هي وبلدها، مملكة الفراشة، وكل ذلك بالحب، وبالتشبث بالحياة، وبالتمسك بالوطن من خلال مبادئها التي تنتقل إليها من أبيها بشكل خاص. فمع أن الحرب الأهلية منتهية، قبل أكثر من عشر سنوات من وقوع أحداث الرواية، هي باقية في ذيولها التي تتمثل في الاغتيالات والحوادث المتفرقة والأمراض، لتغتال الآلاف سنوياً، إضافة إلى تأثيراتها العميقة في المجتمع والأفراد. وهو ما ترسسخ في وعي (ياما) عبر تجربة الحرب الأهلية المريرة والمؤلمة:
“… الحروب التقليدية عندما تنتهي، نفرح لها، ونرفع الأعلام الوطنية عالياً ونغنّي، ونخصص لها يوماً سنوياً نستعيدها فيه ونفرح ونحتفل. الحرب الأهلية شيء آخر. عندما تنتهي لا تنتهي، وعندما تتضاءل تخرج من أعماقها حرب أخرى. فيتوجّه كل واحد نحو موتاه ليدفنهم واحداً واحداً ويشحذ سيفه، ويهيّئ سكاكينه في الخفاء لتبدأ الحرب الصامتة، حرب الانتقامات السرية. جيش من المنتقمين المؤهّلين لذلك: اللي اغتصبوا أخته، اللي قتلوا أبوه وأمه، اللي سرقوا أرضه. اللي طردوه من عمله، اللي أهانوه. اللي.. الانتقام هو دائماً أعنف من العنف ذاته”. الرواية، ص220.
وإذا كان هذا هو على أرض الواقع من جهة أولى، مما يمكن للرجوع للتاريخ والوثيقة أن يكشف تفاصيله المرعبة لنا، وفي خلفيات الرواية من جهة ثانية، كما يتمثل في هجمة الأعمال الإرهابية والفساد الإداري والمالي وبعض أشكال السقوط من جهة ثالثة، فإن الأعمق حقيقةً إنما يحضر تأثيراً في يعض وقائع مسار الرواية وفي الشخصيات من جهة رابعة. باختصار كأن الرواية، ومن خلالها الكاتب، يريدان أن يقولا لنا: في عالم ما بعد الحرب الأهلية، عالم (الحرب الصامتة)، وربما عالم مملكة الفراشات، ليس من إنسان بخير، وليس من إنسان طبيعي.. الكل يؤثّر ويتأثر، والكل تعرّض عقله لشيء ما، والكل ينتظر ولا ينتظر، في الوقت نفسه، لأنه إما أن لا يعرف ما الذي ينتظره أو ما القادم، أو أنه ينتظر شيئاً يبدو أنه لا يأتي.. فحين يسعى الأب (زبير) إلى فضح من هم وراء بعض ذلك، يقول له صديقه مدير الأمن المركزي:
“- يا عزيزي زبير. أنت تنطح حائطاً صلباً.. لا تلعب بحياتك، لك من ينتظرك، زوجة وأبناء. الزمن الذي نعيشه مجهول وملتبس. لا نعرف أبداً من يفعل ماذا؟ ما تعرف من وين تجيك الضربة؟”. الرواية، ص55.
وبين ليلة وضحاها، يتحول كل شيء إلى شيء وحشي، العالم والأشياء والأحلام والناس، بمن فيهم أقرب الناس، كما هو حال (رايان) أخي البطلة:
“في ليلة من الليالي لم يعد رايان هو رايان. وضع سكينته الحادة في عينيّ لكي يجبرني على إعطائه النقود… لم يكن في حاجة إلى ذلك كله. لو طلب منّي النقود بحبّ، كنت أعطيه تلقائياً كل ما أملك. كنت أحبه، وأحب شخصيته الحنونة والجادة التي لا تريد أن ترتهن أو تستسلم لأيًّ كان. لم أعرف إلاّ لاحقاً أنه كان في دوامة المخدرات والأقراص الملوّنة… كان رايان يموت أمام أعيننا بدون أن نتمكن من فعل أي شيء من أجله”. الرواية، ص74-75.
ولا تجد (ياما) تحوّل أختها (كوزيت) بأقل قسوة:
“تذكّرتُ فجأة أختي كوزيت التي لم تحضر الجنازة، ولكنها أوصتني بأن أهتم جيداً بذهب أمها، لأن لديها حقّاً فيه. لا أدري ماذا حدث لي فجأة، ولكني وجدتني أتقيّأ بعض الدم وهي تتحدث معي… وعندما عادت، نست أن تقف على قبر [أمنا] فيرجي”. الرواية، ص211.
وسط ذلك كله تكافح (ياما) على كل الجهات والجبهات: الذات، والعالم، والناس، والبيت، والحب والحبيب. وهي لا تبقى صامتة أمام فعلته الحرب بالإنسان والمجتمع من التشظية بين الفرد والفرد، أيّاً كانت طبيعة العلاقة أو القرب بينهما، وتراجع الثقافة والكتّابة والفنون والمثقفين أمام الحرب ومشعلي الحروب، والعنف، بل تحارب الحرب بطرقها الخاصة، من خلال ممارسة كل ما يُبقيها على قيد الحياة، وتتعاطى كلّ ما يرسّخ الجوهر والروح والنقاء، فتشكل مع مجموعة أصدقاء فرقة (ديبو- جاز) الموسيقية، وكأنها وإيّاهم يبنون حياةً أخرى غير حياة العنف والموت، حتى إذا ما فهم قارئ أنهم يهربون من ذلك العالم إلى عالم الموسيقى، بما ينطوي عليه من رقة وحب وأمل وربما عالم وردي، في مقابل ما ينطوي عليه عالم الواقع من عنف وكراهية وحقد وموت. هو فعل إيجابي، أيّاً كان الدافع إلى ذلك، التعويض عن العنف بالحب، أو مقاومة العنف بالحب، أو الهروب من العنف إلى الحب والحلم بل ربما حتى حلم اليقظة، وهو ما قد يتماشى مع الشغف غير العادي من البطلة- وربما قبل ذلك من المؤلف- بأنْ تسمّي كل شخصية تقريباً من الشخصيات باسم آخر غير اسمها الحقيقي، بمن في ذلك والداها، فقد يعني الاسم الأصلي الواقع والموجود، بينما يعني الاسم الذي توجده البطلة لها الحلم والتخيل والأمل، وربما الهرب من الواقع إلى الحلم، الذي قد يكون أهم ما انطوى عليه هو حب (ياما) لحبيبها (فادي)، الذي قد لا يكون حقيقياً، وهو ما قد يؤكده مثلاً كتابة البطلة رسائل لحبيبها المزعوم ولا تُرسلها، بل تحتفظ بها، وكأنْ ليس من وجود لمن تُرسل إليه، وليس من حبيب إلا في الحلم والخيال.
بما يشبه موقفاً مبدئياً أو إنسانياً أو ذاتياً، تعيش (ياما) عزلة هرباً مما حولها في ظل واقع مرحلة ما بعد الحرب الأهلية، ولكي تكتمل عزلتها أو تستطيع أن تعيشها تدخل العالم الافتراضي بالتواصل مع (حبيبها)، الذي لا ندري أهو حقيقي أم ليس له من وجود إلا في هذا العالم الافتراضي. في كل الأحوال، تبدو (ياما) في مراحل مبكرة من الرواية وكأنها تعيش لا علاقة حب مع إنسان اسمه (فادي) وتسمّيه هي (فاوست)، بل انتظاراً له يبدو أحياناً دائمياً، ليكون كانتظار غودو، وكأنها بذلك تعيش توزّعاً ما بين حبيب اليوم الذي تقيم علاقة معه عبر العالم الافتراضي- الفيسبوك على النتّ- وحبيب الأمس الذي يُقتل في ظروف قبل ذلك. ربما هو توزّع ما بين زيف اليوم الذي نتج عن الحرب الأهلية في ظل (الحرب الصامتة)، وجوهر أو حقيقة أو أصالة أمس التي كادت تغتالها تلك الحرب التي مزّقت، في الحالين، المجتمع والإنسان، وكما مزّقت ماضياً قريباً، وتمزّق الحاضر المعاش، يبدو وكأنها في طريقها لتمزيق المستقبل، ولعل هذا ما تكافح (ياما) من أجل أنْ لا يجري، لها على الأقل. هل وسائلها من أجل تحقيق هذا صحيحة؟ ليس مهماً جداً بقدر أهمية أن تفعل شيئاً وأن تكون مؤمنة بهذا الذي تفعله. وهل هي تفعل ذلك على أرض الواقع، أم هي تعيش حلماً؟ ربما هذا أيضاً ليس مهماً بقدر أهمية أن تعيش الأمر في داخلها، حقيقةً أو حلمياً، فكم من أمر نحققه يبدأ بحلم. وفي كل ذلك، ربما أمران يجعلان من (مايا) تصمد: الحب وسط الكراهية أو على الأقل وسط تلاشي الحب تدريحياً من الناس، والتشبّث بالحياة، ليس لها فحسب، كما من العادي أن نجدها عند الكثيرين، بل لغيرها ممن يحيطون بها أيضاً. ولا يوقفها استمرار واقع الحرب الصامتة، حتى حين يصل بها إلى ذروة المأساة بمقتل أبيها وقدوتها وملهمها.

( 3 )
هل العالم الافتراضي أو مساحة التواصل بين (ياما) و(فادي) على الفيسبوك هو مملكة الفراشة؟ وبما يعني أنه متهاوٍ؟ يبدو ذلك، ولكن على أن يكون عالمَ هروبٍ وتعويض عن العالم الخارجي، عالم الوطن، وفي الوقت نفسه صورة أخرى للوطن الذي وجدنا من قبل أنه مملكة الفراشة. في الواقع، هذا كلّه معبَّر عنه معاً في حوار ما بينها وبين أبيها، حين يقول لها أبوها:
“- ياما حبيبتي. قلّلي من الغرق في الفيسبوك… يمكن أن يصبح إدمانها خطيراً.
“- هي مملكته يا بابا، ونحن فراشاته ونحله ههه. طيّب قل أي خطر تراه في ذلك.
“- الأقدار المرتسمة فيه تلحق بنا بسرعة. خلّي الحياة متوازنة، بين حياة ملموسة، وحياة تصنعها بخيالاتنا…
“أكون جدّية معك.. الحياة الافتراضية يا بابا ليست سيئة أمام حياة معطّرة بالموت والدم والأشلاء ومعطوبة في الصميم. جميلة لأنها تشعرني بأننا ما زلنا على قيد الحياة وأن قابليتنا للحلم لم تمت”. الرواية، ص101.
فيما بعد تكشف (فيرجي) لـ(ياما) أنها، في حبها لـ(فاوست) على النت، إنما تحب صورة، وهي في هذا تشبهها هي في حبها لـ(بوريس). ولعل هذه من اقسى ما تُضطرّ (ياما) لمواجهته ونزع نفسها من حلم أو أحلام تعيشها، ومنها حبها هذا، الأمر الذي يجعلها ترى الحقيقة متمثّلة في ما تراه أمها من أن (فادي/ فاوست) إنما هو (رجل الغياب)، تقول:
“لكن ألم تكن أمي محقّة عندما نصحتني بالابتعاد عن وهم فاوست.
“- أنتِ أسوء منّي ياما حبيبتي. تحبين صورة. مجرد صورة لا طعم لها ولا عطر.
“- أحب رجلاً بطوله وعرضه يا يمّا.
“- لا طول ولا عرض له. صورة ملصقة في ذهنك، وأنتِ من يعطيها كل أبعادها. مجرد وَهْم… في رأسك. اليقين الوحيد هو أنه رجل الغياب لا أكثر. ظل لون. ولا شيء آخر.
“بيني وبين نفس أُعطيها حق. حقيقة كان فاوست رجل الغياب لا أكثر”. الرواية، ص321.
ولعلنا لا نستغرب هذا ونحن نتذكر (ياما) وهي تقول:
“الحلم كان دائماً منقذي، أعيش به عندما تنغلق في وجهي كل الأبواب القاسية. أُحاول أحياناً أن أُطيل في عمر الحلم وأقصّر من الكوابيس في لحظة غفوة تقع ما بين النوم واليقظة، ولكنّ الأمر لا يخضع دائماً لإرادتي ولمزاجي. أنجح قليلاً، وأخفق في أغلب الحالات”. الرواية، ص319.
تدعم هذا، الذي يبدو حقيقةً في حياة (ياما)، حقيقة أخرى عنها تكشفها هي، حين تخبرنا بأنها التقت (فادي) على النت بالصدفة، وفي ظل انكسار كانت تعيشه من فقدان (ديف)، وهذا أمر مهم جداً معرفته لمعرفة أكثر عن علاقتها بالحبيب المزعوم، وفوق ذلك هي تستذكر أن (ديف) فضّل صداقتها على حبها، قبل مقتله، حين واجهها بهذه الحقيقة التي يُعبّر لها عنها بالقول:
“- أنت مثالية جداً، وهذا من حقك. أنا شيء آخر لا يصلح لك مطلقاً. أنت تصاحبين أشباحاً وليس بشراً”. الرواية، ص322.
في النهاية، تعي (ياما) ما هي فيه، من حب وهمي، تقرر انتزاعه من قلبها ووعيها:
“فجأة تذكّرتُ مخطوطة 777 رسالة إلى فاوست التي كانت معي. لم تعد تصلح لأي شيء. أخرجتُها. نظرت إليها للمرة الأخيرة. ثم وبلا أدنى تردّد، رميتها في عمق النار. وقفتُ بجانبها حتى امتدّت ألسنة اللهب إلى المخطوطة، فصعدتْ منها أدخنة سوداء ورماد كثيف… شعرتُ فجأة بخفة في وزني وروحي وثقلِ كل ما كان يحبط بي”. الرواية، ص 412.

( 4 )
تقوم الرواية، كما هو واضح، على عالم واسع يشتمل بدوره على عوالم ضمنية تتوزعها شخصيات عديدة، وينفرش على الحاضر مع استدعاءات لوقائع وأحداث تسترجعها (ياما) غاباً بفلاش باك خارجي وداخلي، كما هو حال ما يتعلّق بحبيبها الراحل (ديفيد) وما يكون قد مرّ قبل بدء السرد من علاقتها مع الحبيب الحالي، وقد تُحكى لها كما هو حال بعض ماضي أمها وأبيها. هي في كل الأحوال تمركزت أساساً حول حبكة رئيسة التمّت الرواية فيها من خلال حركة بطلتها ومسار حياتها وسيل تداعياتها وتذكراتها وأحلامها. ولم تُخلّ بهذه الحبكة أو تُربكها تفرعاتها وفقاً للشخصيات الثانوية، وهي تفرّعات ما كان لرواية بهذه السعة أن تخلو منها. مع هذا، يُخيّل لي أن الكاتب قد أضاف الكثير من الأفكار والرؤى والأحداث، بل الشخصيات أيضاً، مما هو ليس من صلب الرواية، بل وجدها هكذا تحضر أثناء كتابة الرواية أو حتى بعدها، ومثل هذا كثيراً ما يقع للأدباء وغير الأدباء حين يستفيض الكلام عندهم وتتطور الأحداث ويستطيل التعبير لتكون النتيجة زيادات وربما ترهّلاً في ما يكتبون، حتى وإنْ كان جميلاً. وضمن ذلك أو معه هناك إطالة وبقاء مع الفكرة أو النقطة الواحدة أحياناً أكثر مما يحتاجه السرد، وكأنْ ليس هناك من أحداث يسير بها ويطوّرها بدلاً من ذلك. وربما لهذا علاقة بما نرصده من كثرة في الشخصيات، وفي تفرععات الحبكة، بل اختلاق أحداث وثيمات فرعية وأفكار طارئة لا تصبّ جميعاً في صلب الخط الرئيس. والمفارقة كأني بواسيني الأعرج يفطن إلى كل هذا أو بعضه، لكنه يقع في ما يقع فيه كتاب كثيرون من عدم امتلاك القوة والإرادة والجرأة لحذفه، حتى حين لا يكون من مبرر أو حاجة له، فيلجأ بدلاً من ذلك إلى التبرير الضمني والصريح من خلال راويته البطلة، وقد يشبه بعض هذه التبرير لعبة، وتحديداً حين يبدأ الفصل السابع بجملة على لسان (ياما)، تقول: “لا أدري كيف تذكرتها”- ص347. فهي برأيي تبرير لصفحات من الوقائع والأفكار التي جاءت متأخرة ولم تمتلك مبرر ورودها، ولم يجرؤ على حذفها، فقال ذلك على لسان بطلته وكأنه يجيب بها على قارئ يسأله: لماذا تذكرْ هذا وتحكيه الآن، ولم تحكِه من قبل؟ ومثل ذلك، حادثة صدام (ياما) بـ(ماسة) التي تظنها تنافسها على حبيبها (فاوست) في ص274-283، واكتشافها فجأة لموهبة الرسم لديها في ص299-301، وغير ذلك
وترتبط بهذا كله تفصيلية في الوصف وفي الغور في بواطن الشخصيات. فمع ملاءمة هذا للرواية خصوصاً حين تكون مبرّرة، وهي كانت كذلك في كثير من الحالات، فإنها قد لا تكون كذلك أحياناً. ولامتلاك واسيني الأعرج ناصية الأسلوب العاطفي والمثير والعميق، بحيث لا يمكن لأي قارئ إلا أن يلمسه في عموم أعماله، فإنه قد يقع أسير التدفق في الأفكار والغرق في هذا الأسلوب وقد يجنح إلى إنشائية لا تخدم السرد كثيراً. لكنّ هذا، وكما يشير كلامنا، لا يهيمن على الرواية، وفي النتيجة لا ينتفص من شيء منها مضموناً ومسار أحداث وبناءً، بل هو أسلوب غالباً ما يتناغم مع حساسية الموضوع، وتحديداً ما بتعلق منه بما يسمى بالعشرية السوداء، والحرب الأهلية في عقد التسعينيات في الجزائر، وما تلاها مما سماه المؤلف الحرب الصامتة، وانعكاس ذلك كله على الإنسان الجزائري، وأكثر ما تمثّل في الرواية وبحدّة في بطلتها (ياما) خصوصاً، وعائلتها عموماً لتسير الرواية بهذا التناغم حتى النهاية بانسيابية وإقناع، لتُملِ في النتيجة ما تريد أن تقوله أو حتى لما يمكن أن نفهم أنها تريد أن تقوله، وتجيب عن الكثير، وهو ما ينطبق على المفاجأة وما قادت (ياما) إليه في النهاية، لأننا كنا من حيث نعي وقد ولا نعي أحياناً نُهيّئ لها على امتداد الرواية. ففي اللقاء الذي يتم بين (ياما) و(فادي/ فاوست) في عرض مسرحيته، نُفاجأ بأنه لا يتعرف عليها، وهي تمدّ له بنسخة من نص المسرحية ليوقّعها لها، لنفهم في النتيجة أن كل العلاقة التي بينهما في العالم الأزرق- شاشة الفيس بوك- إنْ هي إلاّ عالم لا افتراضي فحسب، بل متخيّل. وهذا يفسّر لنا بالضرورة كل ما لم نقتنع به في تلك العلاقة، من طول وديمومة وتفاصيل وطبيعة حوارات وغير ذلك. بل نحن نُفاجأ بأنْ (حبيبها) هذا ليس لديه حساب على الفيسبوك أصلاً، وبان المرأة التي تصحبه مساء عرض المسرحية وتقف إلى جانبه والطفل الذي معهما هما زوجته وابنهما. ويكتمل المشهد النهائي لحقيقة هذه العلاقة الافتراضية أو المتخيّلة بإشارة (فادي) إلى أن ابن عمه (رحيم) هو الذي يقوم بالتواصل مع المعجبات نيابة ًعنه. في النهاية، وهي عائدة شبه تائهة من المسرح حيث يحدث ما يحدث وينكشف لها ما ينكشف، وتحت المطر الذي كان يغسلها، وبعد أن تيأس تقريباً في العثور على سيارة أجرة لتأخذها إلى حيث تركت سيارتها، تتوقف بجانبها سيارة شعبية صغيرة لتجد فيها (نور الدين) أو (ديدي) أو (ديدالوس)، فتصعد معه وكأنها تنتقبل بذلك من عالم الوهم إلى عالم الواقع ، لأن (نور الدين) هذا مثقف واع، وهو ما يكتسب دلالة، تلتقيه وتتعرف عليه في المسرح ليلةَ انكشاف الأمور والحقائق نفسها.

( 5 )
في وقفة قصيرة أخيرة مع الرواية، نرى إذا كانت الجزائر قد شهدت ما تُسمّى بالعشرية السوداء وهي العقد العاشر من القرن الماضي الذي شهد حرباً أهلية وأعمال عنف كادت تأكل الأخضر واليابس، فإن العراق قد مر ولا يزال بما يشبه ذالك، عدا أنه أكثر سوداوية ومأساوية وعنفاً ودماً، خلال المدة الممتدة من الاحتلال الأمريكي الغربي للعراق عام 2003 إلى الوقت الحاضر. وإذا ما استوحى واسيني الأعرج روايته “مملكة الفراشة”، وبالتأكيد هناك غيره، من عشرية الجزائر السوداء وما تلاها، فإن العديد من الروائيين العراقيين قد استوحوا العشرات من الروايات، من (عشرية العراق السوداء)- إذا جاز لنا أن نستعير هذا المصطلح- الأمر الذي يجب أن يجعلنا لا نستغرب، في النتيجة، أن تلتقي بعض الروايات الجزائرية، ومنها رواية الأعرج، مع روايات عراقية عديدة، وهو تماماً ما رصدنا بعضه في روايته إذ هي تذكّرنا بروايات روائيين عراقيين عديدين منهم ميسلون هادي، وفؤاد التكرلي، وأحمد سعداوي، وزهير الهيتي، ولطفية الدليمي، وسنان أنطون وغيرهم. ولعل أكثر ما يلتقي بعض رواية الأعرج معها من روايات عراقية هي رواية (يا مريم) لسنان أنطون في بعض تفاصيل الحرب الأهلية الطائفية، وتشظّي العائلة العراقية، وكنيسية (مريم)، وتشبّث بطلها بالوطن، والعنف والموت، وغير ذلك كثير. لكن أطرف ما يحيلنا إلى هذا الالتقاء هو تجربة (ياما) في كنيسة (أمّنا مريم العذراء) شبه المدمّرة في رواية واسيني الأعرج، مقابل تجربة (مها) في كنيسة (سيدة النجاة) مريم العذراء في رواية سنان أنطون.([2]) ماذا يعني هذا؟ هو توارد خواطر ووقوع الحافر على الحافر، كما يقولون؟ أم هو تشابه التجربتين الجزائرة والعراقية؟ أم هو صدى لبعض قراءات الأعرج للرواية العراقية؟ أسئلة يصعب الإجابة عليها، لكنها، في كل الأحوال، لا تمسّ تفرّد هذا العمل منجزاً روائياً عربياً ليكون أحد أبرز روايات السنوات الثلاث الأخيرة.


[1] ) واسيني الأعرج: مملكة الفراشة، رواية، دار الآداب، بيروت، 2013.
[2] ) انظر: الفقرة (4) من الفصل (4) من رواية واسيني الأعرج “مملكة الفراشة”، ص222-232، والفصل (الذبيحة الإلهية) من رواية سنان أنطون: يا مريم، منشورات الجمل، بيروت، 2012، ص145-156.

عن fatimahassann23

شاهد أيضاً

دراسة عن دروب وحشية

تشكلات البناء السردي في رواية دروب وحشية للناقد نجم عبد الله كاظم أنفال_كاظم جريدة اوروك …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *