هيسه

هيسه في سيرته الذاتية
حواس حادة واستغناء عن الآخرين
في سيرته الذاتية، لا يبتعد هيسه كثيراً عن أسلوبه في الكتابة الروائية، وفي شخصياته التي يبتكرها نستطيع أن نلمس تشابهاً بيوغرافياً بين حيوات تلكم الشخصيات وبين حياة هيسه. فهو نافر من الواقع مستغرق في ذاته يربأ بها عن السير إلا في الاتجاه المعاكس، ويأنف من أهداف وقوانين البشر الجمعية، ويتخذها دائماً ذريعة للمخالفة والتمرد لا بدعوى التبشير باتجاه أيديولوجي مغاير، وإنما إمعاناً في تأليه ذاتيته وتفرده، حتى وإن عرّضه ذلك للمشاكل أو سوء الفهم كما حدث معه إبان الحرب العالمية الأولى.. تلك الفترة التي يقول عنها:
“كل تلك السنوات لم ألحظ أي شيء على الإطلاق! كنت ملاحقاً، يتنصتون عليّ، ويراقبونني، وكنت موضوعاً لريبة الأعداء تارةً، وتارةً للمحايدين، وأخرى لأبناء موطني، ولم ألحظ أياً من ذلك، وقد عرفت القليل عن هذا الأمر بعد مضي فترة طويلة، ولم أستطع أن أفهم كيف تمكنت من العيش مطوقاً بهذا الجو، بدون أن أُمس بسوء أو أُصاب بأذى، إلا أن هذا ما حصل”.
يتحدث هيسه في هذه السيرة عن طفولته كما لو أنه قد عاش في الجنة. فقد كان حلمه الطفولي مفعماً بالخيال والسحر، وقد جعله ذلك يشعر بأن العالم ملكه، وإن كل شيء من حوله قدر ليكون جميلاً وبهيجاً، ولو حدث وإن حوصر بالكآبة أو الحزن، فإنه سرعان ما ينفذ إلى عالم الخيال.. “وحين أعود منه… أجد عندئذ العالم الخارجي جذاباً من جديد وجديراً بحبي. لقد عشت طويلاً في الجنة”.
لقد نفر هيسه من الواقع في وقت مبكر، إذ تراءى له هذا الواقع مجرد مؤامرة سخيفة من فعل البالغين. وقد شعر، في وقت مبكر أيضاً، برفض قاطع له، وفي وقت آخر بتهيب منه أو احتقاره. لذلك تملكته رغبة ملحّة في تعلم السحر واتخاذه وسيلة لتغيير هذا الواقع السخيف. يقول هيسه:
“اعتبرت قدرة المرء على إخفاء نفسه أكثر القدرات أهمية وتقت لامتلاكها بشدة، وقد رافقتني هذه الرغبة وجميع قوى السحر الأخرى طيلة حياتي، متخذةً أشكالاً عدة، ما كنت في الغالب لأستطيع إدراكها فوراً، وقد حدث ذلك فيما بعد، بعد أن كبرت بمدة طويلة وزاولت مهنة الكتابة. لقد حاولت مراراً أنْ أتوارى خلف مخلوقاتي وأُعيد تعميد نفسي، متخفياً بمرح خلف أسماء مبتكرة. وقد جعلت هذه المحاولات زملائي الكتّاب كثيراً ما يسيئون فهمي على نحو غريب ويعتبرونها مأخذاً عليّ”.
يحيل هيسه كل شيء جميل في طفولته إلى جده بدرجة كبيرة وإلى أمه بدرجة ثانية، فالجد يحتل منزلة مطلقة القدسية في نفس الحفيد ويصفه هيسه بأنه كان ساحراً أيضاً ورجلاً حكيماً راجح العقل، يفهم جميع لغات الجنس البشري وتفيض من عينيه الحكمة من الحزن. وكان الناس يزورونه من بلاد عديدة ويحترمونه ثم يغادرونه بعد حوارات طويلة دون أن يتركوا دليلاً لهوياتهم. كان هذا الرجل، والد أمه، غابة من الألغاز بالنسبة للحفيد، ومنه جاء السر الذي يلف الأم ايضاً.. فقد عاشت هي أيضاً فترة طويلة في الهند، وكان في مقدورها أن تتبادل مع والدها الشيخ العبارات والأمثال بلغات سحرية غريبة، وكان لها، مثله، ابتسامة الحكمة الخفية.
لقد حلت الحرب، وهيسه يسعى بيأس لحماية نفسه من سوء الحظ الذي حل به فجأة. فبينما كان الجميع من حوله يتصرفون بحماسة تجاه المأساة ويشيدون بالحرب بقصائد عصماء تصدر عن مكاتب الشعراء المشهورين، لم يكن هو يشعر بسعادة ذلك “الزمن العظيم”، بل كان بائساً أشد البؤس لما يكتبه زملاؤه من الكتّاب حول الحرب. وما أن اشتكى هيسه وعبّر عن أسفه، في مقال نشره، حتى اتهمته صحف البلاد بالخيانة ووصلته أكداس من الرسائل البذيئة من أشخاص بعضهم غرباء والبعض الآخر أصدقاء قدماء. لقد اعتبر هيسه سوء الفهم هذا ثاني تحول هام في حياته. أما التحول الأول فكان قد حدث في اللحظة التي أدرك فيها عزمه على أن يصبح شاعراً وما جر ذلك العزم على والديه من ويلات وما تلاه من وحدة وتعاسة وسوء فهم هو نفسه الذي أصبح الآخرون يحسونه تجاهه بشكل متعمد في التحول الثاني من حياته، ومرة ثانية رأى هيسه بين الواقع وبما يرغب به حقاً هوة سحيقة لا رجاء فيها. مع ذلك احتفظ دوماً بالأمل الخفي في أن يجتاز شعبه أيضاً اختباراً مماثلاً للمحنة التي مر بها لكي يتطهر ويستعيد براءته من جديد. وعن ذلك يقول:
“من الممكن دائماً أن يستعيد المرء براءته لو أدرك معاناته وآثامه وعانى حتى النهاية بدلاً من محاولة إلقاء اللوم على الآخرين”.
وسواء تسلق هيسه قمة (بيدورو تالاكالا) في سيلان، أو نزل في منتجع لمرضى الرومانتزم في (بادن) فإنه يقع أسيراً لسحر الأمكنة، على شرط أن توفر له تلك الأمكنة هبة الاستغراق العميق وسكينة الروح اللامتناهية، وهو شرط يتحقق كلما تواضعت تلك الأمكنة في تحضرها واقتربت من براءة الطبيعة البكر. إن هذه الحساسية تجاه المكان ترافق الشاعر حتى في أبسط تفاصير حياته، “فاختيار غرفة في فندق للشخص السوي عمل تافه مبتذل ليس له صلة على الإطلاق بالمشاعر، ومن الممكن أن يتم خلال دقيقتين. أما الذي على شاكلتنا، نحن العصابيين المصابين بالأرق والمضطربين، فإن هذا العمل العادي مثقل بشكل لا يصدق بالذكريات والمشاعر والفزع من المجهول إلى حد الاستشهاد”(ص126-127)، “وبما أن التجارب قد اثبتت أنه لا توجد غرفة واحدة في العالم يمكن أن يضمن فيها الإنسان توقه للسكون والنوم الهادئ… إذن، ألا يكون من الأجدر بالمرء في آخر الأمر أن يكف عن الاختيار كله، وبكل بساطة يسلم أمره منذ البداية إلى القدر تاركاً الحظ يتحكم فيه؟”(ص128).
إن اللافت للنظر هو أن هيرمان هيسه على مدى 12 قطعة أدبية جُمعت لتشكل هذه السيرة الذاتية لا يذكر إساءة الأشخاص الذين يلتقي بهم إلا لماماً. بل إنه، فيما عدا جده واخته، لا يتوقف عند أحد ولا يشير إلى أحد ولا يسمي أحداً، وكأن الآخرين ليسا إلا أشباحاً تمر في المكان ولا تستحق منه الالتفات أو التوقف.. فهذا جاره، وذاك طبيبه أو صديقه، أو مدير فندقه أو نزيله أو منتجعه، أو زوجته.. إلخ. ولكن أيّاً منهم لا يحتل المكان الذي يحتله إلا بما يشبه انعكاساً لصورته في نفس الشاعر. إنها سيرة تكاد تخلو من الأسماء بقدر خلوها من الإشارات العاطفية.. وهي محتفية بالذات محتدمة بملذات الروح، ذلك أن هيسه سيرتد إلى نفسه في كل مرة يكتشف فيها خيبة أمله بالآخرين ليستطيع أن يكون شاهداً على نفسه بحكمة عميقة لا تتأتى بسهولة لأي إنسان. فهو ينفر من الآخرين، لأنه يعتبرهم في مستوى يفتقر، في نظره إلى الواقع الزماني والمكاني. وحتى إذا ما ترك نفسه تنساق في الانغمار مع رفقة المرضى والانغماس في ملذاتهم، فإن الحزن على ذلك سرعان ما يتملكه فتنتفض روحه فجأة مثل حيوان السهوب الذي يصح فجأة ليجد نفسه في الأسر، ولكنه ما يلبث أن يميل نفسه وينام مواصلاً الحلم سراَّ. إذن يحدث أن يصبح هيسه جزءاً من الحشر ونزيلاً عادياً من نزلاء المنتج وشخصاً فاقداً للحس، يهتم بالقيل والقال، ويجلس في قاعة السينما، ويستهلك الموسيقى الشعبية بنفس الطريقة التي يستهلك بها الناس الجعة. ولكنه سرعان ما يشعر بحزن شبيه بالموت، لأن الخمول يصبح أقوى من نفاذ بصيرته، والبطن السمينة المتراخية أقوى من روحه المتمردة..فيقول:
“كلا، فالتفاهم مع هذا العالم، والانتماء إليه، وإيجاد مكان لي فيه، وتذوق الراحة بين أحضانه، لم يُخلق لي”.
لقد لعبت الحواس دوراً حيوياً في عالم هيرمان هيسه الفكري، ومع أنه قد يستسلم أحياناً لما يسميه (إغراءات العالم الغبي)، ويهمل حواسه الحادة المرهقة المتطوره والمدربة بشك ممتاز، خصوصاً فيمايتعلق بالسمع والبصر، إلا أنه سرعان ما يعود ليجلو هذه الحواس ويثق بها ويستمد منها متعة هائلة. إذن فهو يناقض نفسه باستمرار ويعثر في سيرته على الكاتب الذي يشبّه علاقته بالفكر بعلاقته بالمأكل والمشرب. فهو يقول عن ذلك:
“من الممكن، بعد فترة من المشي النشيط في وقت الصيف، أن تتملكني كلياً رغبة في شرب كوب من الماء لأعلن أن الماء هو أروع الأشياء في العالم، وما أن تمضي ربع ساعة من الزمن حتى يُصبح الماء أقل الأشياء أهمية بالنسبة لي في العالم”.
نقلت هذا الكتاب إلى العربية المترجمة القديرة محاسن عبد القادر، وقد وظفت لغتها الأنيقة وأسلوبها الممتع في الحفاظ على خصائص هذه السيرة، وتقديمها بشكل مؤثر وغني وجدير بالقراءة.

عن fatimahassann23

شاهد أيضاً

الأحلام لا تتقاعد

لو أنَّ حدّاداً تعب وهجر مهنته أو نجّاراً شاخ فتوقف عن العمل أو محاسباً بارعاً …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *