رواية “أعداد المدفع 106” لهشام الركابي
منشورة
د. نجم عبد الله كاظم
تبرز صعوبة اساسية امام كتاب رواية الحرب، وهي الكتابة في مضوع لا تملك له تراثا محقبا، ولا نريد ان نبالغ في تضخيم هذه الصعوبة امام حقيقة وجود تراث عالمي وعربي – والاخير محدود نسبيا – في هذا المجال. الى جانب هذا تبرز صعوبة ثانية امام الروائي الذي يريد ان يعالج موضوعا يتصل بالحرب الدائرة الآن، الا وهي ان هذه الحرب لا تزال تجربة معاشة وغير منتهية، وهي كموضوع يتناوله الكاتب تكون محل تحكم عاطفته وردود افعاله التي كثيرا ما تكون سريعة او غير موضوعية طالما انه يكتب عنها وهي لما تزل مستمرة وتمسه بكل صغائرها وؤثرعليه وعلى كل ما حوله، وبالمقابل يؤثر هو بدوره – كفرد ن مجموع الجماهير وربما كمقاتل – عليها. واذا كان الجانب الثاني غير ملموس بشكل واضح فانه يكطون كذلك حين يمارس الكاتب عمليا فعل الكتابة في ها الموضوع وهو واع لعملية التأثير، ذلك ان العمل الروائي بطبيعته يحتاج الى فترة استقرار طويلة وتفكير متواصل والى امكانية تامة لرصد التجربة من الخارج ليمكنه بذلك السيطرة على خارطة العالم الذي يريد رسمه في روايته، والذي يفترض ان يكون الواقع او الاصل الذي يخرج منه متضحا وغير متغير، وأنى يتحقق ذلك بغير ان تنتهي التجربة، وتبتعد قليلا او كثيرا عن زمن كتابة الرواية، ولذا نقول ان الرواية الانضج فنيا ستظهر بعد الحرب، مع وجود الاعمال الناضجة الآن لكتاب مثل عادل عبد الجبار، عبد الخالق الركابي، وهشام الركابي، وخضير عبد الامير.
وهشام الركابي يقف بين هؤلاء متميزا متخلصا ببراعة من السقوط في كتابة عمل عادي حين كتب ((اعداد المدفع 106))، بعد مرور اكثر من خمس سنوات على ظهور روايته الاولى (المبعدون)، في الواقع ان الركابي لا يبتعد نفسا وفنا في عمله الاخير عن تجربته الاولى، مع فارق ان الاجزاء الاولى من روايته الثانية تفتقد عنصر الشد الذي عرفناه في (المبعدون)، وهذا – على اية حال – لا يصل حد ان يكون عيبا، اضافة الكاتب الى تخلص في حوار (اعداد المدفع 106) من المأخذ الوحيد الذي يجسل على الرواية الاولى، وهو عدم انسجام الحوار لغة وفكرا واسلوبا مع طبيعة الشخصية ومستواها وهذه – كما هو واضح – حسنة تضاف الى الرواية الجديدة.
موضوع الرواية اذن هو حربنا مع العدو الايراني معوكسة من خلال اربع شخصيات محورية تبتدئ الرواية وتنتهي بهم. واذا تبتدئ الرواية بدايتها الهادئة البعيدة حدثا عن الحر حين يتوجه اربعة جنود لاستلام واجبهم الجديد كمفرزة في موقع مدفع 106 في الخطوط المتقدمة من الجبهة، فان الحرب كانت حركة لفية تتنبئ بانها قادمة.. ((ومن مكان ما، بعيد وغامض، كان صوت انفجار قذائف المدفعية الثقيلة يصل ضعيفا واهنا مجردا من كل رعب او دمار، وكأنه مجرد لطمة كف بجدار رقيق))، ص8، واذ تتبدل الاحداث ومواقعها بحركات متقطعة ومتسلسلة ومتحولة من شخصية الى اخرى، كنتقل حركات السيمفونية المترابطة عضويا، فان الحركة الاولى – الحرب وصداها – حينلا تبرز كحركة اساسية، تبقى تدق بطبولها البعيدة خلف الوجه الظاهر لتطور الاحداث.
الشخصية الاولى التي تطالعنا من الشخصيات الاربع الرئيس هي شخصية الجندي الاول (عنيد دواس) الذي يستحوذ على المساحة الاكبر من الرواية، وهو آمر المفرزة، شاب في العشرين من عمره، مثالي في التزامه العسكري ودقيق في ااء أي عمل يوكل اليه، هذا المقاتل يعيش ازاء مثاليته هذه صراعا بين وعيه بضرورة الصرامة التي يجد نفسه مرغما على اتباعها في توزيع الواجبات العسكرية على جماعته وبين انسانيته التي تتداخل احيانا مع ضرورة الضبط العسكري لتلين من شدته مع زملائه الجنود؛ وكان هذا الصراع كثيرا ما ينتهي الى غير ما يتمنى عنيد ان يكون، كما في ذهاب المقاتل (عبدالله) الى مقر الفوج لمقابلة شخص يكتب له رسائل الى ابيه وعمه حول قضية زواجه رغم معارضة (عنيد) لذهابه، وكما في اصرار (لطيف) لنقل (ناظم) الجريح عاصيا بذلك آمر مفرزته بعدم الاقدام على ذل، لاحتمال المواجهة مع افراد العدو المتسللين المنتشرين في كل مكان. ان الكاتب هنا لم يكن عاطفيا ليغلب انسانية (عنيد) دائما، ولم يكن مثاليا ليبرمج الالتزام العسكري في كل الظروف، بل كان واقعيا، وترك شخصيته تتصرف بحرية ولم نكن لنرى اليد الذكية التي هي – في الواقع – وراء هذه التحركات.
(عبد الله حسين) – الشخصية الثانية – قروي وذو اصل بدوي. والواقع ان رسم الكاتب لهذه الشخصية يعكس شيئا من الاضطراب، فقد ابرزها الكاتب، في الفصل الاول، شخصا مترهلا متكاسال وموضع ممازحات – غير برئية احيانا – من قبل رفاقه [انظر الصفحات 19، 20، 38، مثلا]، بينما يعود ليظهره لنا، ومن خلال استخدام الفلاس باك التداعي، بدويا نقيا، بل وجادا وعصاميا في مراحل حياته الاخرى. وتعزز هذه الصورة الفصول الاخيرة من الرواية حين ينسى الكاتب الصورة التمهيدية للشخصية التي واجهنا بها في البداية حين تبدأ سلسلة سلوكيات عبد الله تتخذ طابعا آخر تماما: شخصية جادة، صادفة مخلصة ومدافعة عن قضية وعن وطن واصدقاء، وتتوج هذه الصورة بالاستشهاد الذي اقدم عليه (عبد الله) دونما أي تردد. واذا كان هناك ثمة تبرير لجانب من هذا الاضطراب في صورة هذه الشخصية فلربما يكمن في حقيقة ان العراقي قد ضحى باخلاص واستبسال حين تعرضت كرامته وارضه للخطر.
اما الشخصية الثالثة (لطيف منصور) فتحتل، وكما اراد لها الكاتب، موقع صدارة المجموعة، سلوكا وتعاونا مع البقية وتضحية في سبيل الرفاق. فلطيف الى جانب التزامه الاخلاقي وسلامة تصرفاته مع اصدقائه قبل خوض المعركة الفعلية، لم يتردد والمعركة محتدمة في الاقدام على تنفيذ محاولته الخطرة في نقل رفيقه المصاب (ناظم) في سيارة المدفع مغمضا عينيه – ولعل في ذلك عدم انضباط عسكري من جانبه – عن اخطار المواجهة مع افراد العدو المتسللة، وفعلا كانت هذه المواجهة او المحاولة نهايته، ولكنها لم تكن، على اية حال، نهاة سهلة وسريعة، اذا استشهد مقاتلا ومدافعا عن الوطن وعن رفيقه.
الشخصية الاخيرة هي شخصية (ناظم) الشهم وعاشق قريته (مشيميش) ونخيلها، وهل النهلة هنا الا الوطن؟! وكيف لا يعشقها وهو الذي ولد في ظل نخلة. ان عشق ناظم هذا للنخل يتسع ليشمل بدفئه الاهل والارض والاحبة والاصحاب حتى نرى ذلك العشق وقد وصل حد الاندفاع غير الصحيح احيانا فهو لا يتردد عن اداء مهمة ولا يتقاعس عن اداء أي خدمة لجماعته، حتى جاءت اصابته بشظايا قذيفة، وهو في اندفاعاته هذه، حين لم يكن محترزا بما فيه الكفاية، لقد انتهى هو الاخر شهيدا، ولكنه ابى ان ينتهي برصاص العدو فأصر على ان يأخذ مسدس (لطيف) حين حاصره الاعداء، لينهي حياته بنفسه.
ان الركابي يمتلك، ولا شك، مقدرة جيدة على التعامل مع شخصياته، وتبدو سيطرته شبه تامة على تحركات هذه الشخصيات وتطورها دون ان تظهر شخصية الكاتب الا بشكل طفيف ومحدود ولا يتحول الى تدخل مباشر الا في نقطة واحدة سنذكرها لاحقا. كما وانه ينجح في خلق التوازن المطلوب بين الشخصية في سلوكها وبين عالمها الداخلي الذي يتساوق في نموه وتطوره وتبدل مشاهده مع العالم الخارجي للشخصية ومجرى الاحداث. ولعل احالى ما يحضرنا هنا ذلك التصاعد الجميل لاحاسيس (عبد الله) – نهاية الفصل الثاني – وهو يتابع اصدقاءه في عزلتهم الجديدة المؤقتة وفي الضجر الذي بدأوا يحسونه وهم يتذكرون الاهل والاحبة والارض التي يبتعدون على وجوه رفاقه الثلاثة مقلصا فمه بضيق.. لقد انطبعت نظراته على حين غرة بذهول حالم اليم، واسبغ ذلك على وجهه حزنا قهارا.. ودون ان يعرف لماا، تنفس بعمق ثم فتح فمه لمرتين واطبقهما.. واخيرا وبدون ادراك كامل لما فعله، انفلت صوته من حنجرته قويا، ابح ولكنه حسن بعض الشيء.
((ثم فجأة، وكما بدأ منذ وقت قصير، توقف صوت عبد الله عن الغناء، سكن، بيد ان الملجأ ظل لفترة اخرى يرن، كما لو نسي نفسه. ظل الجنود الاربعة يطبق عليهم صمت غريب ثقيل، ويشدهم ذهول لا يقهر، وكانهم اسرى حالة خاصة لم يعتادوها على الاطلاق))، ص57-60.
ولعل في سخط المجموعة المنعكس في صرخة لطيف بناظم الذي دعاه للعب الدومينو ((اللعنة عليك وعلى الدومينو… وعلى هذه الحياة السخيفة))، ص60، شيئا من السلبية، ولكنها السلبية المبررة بعوامل موضوعية، نقول لعل في هذا السخط بذرة النمو والتحول بهذه المجموعة باحاسيسها اللمتاعة الى العنف الايجابي ضد العدو الذي ستلمسه في النصف الثاني من الرواية متمثلا في مبادرة كل واحد من المجموعة لعمل اقصى ما يستطبعه دفاعا عن الوطن ودحرا للعدو.
واذا ما تناولنا البناء والتكنيك الفني للرواية نجد ان الركابي – كعهد نابه في روايته الاولى – المبعدون – ذو عدة ومقدرة متميزة في بناء فني متكامل. لقد قسم الكاتب روايته الى ستة فصول كبيرة، كل فصل منها مقسم الى اقسام صغيرة- ومع ان كل فصل – باستثنا الفصل الخامس الذي له خصوصيته – يبدو مركسا باجمعه او في اغلب اقسامه لاحدى الشخصيات الأربع، فان هذه الشخصيات الرئيسة تبقى كمجموعة لا تفارقنا سواء كان ذلك من خلال الشخصية التي يجري التركيز عليها او من خلال الاقسام اتي تكون فيها الشخصيات الاربع باجمعها هي المحور. واذ تتابع الفصول الاربعة لتقدم لنا احداثا روائية من خلال حركة الشخصيات الرئيسة، فان الفصل الخامس يبدو في محله زائدا وغير مبرر الا بحدود كونه يقدم صورة بانورامية للمعارك الدائرة، وهذا ما كان بالامكان تقديمه من خلال تضمين اهم احداثه في الفصلين الرابع والسادس لتجنب ترك الكاتب المفاجئ لشخصياته المحورية بشكل كلي كما حدث فعلا. لقد ترك الكاتب الخط الحدثي – الدرامي لينقلنا الى مقر الفوج الذي يدير المعارك والذي يخلو من أي من شخصيات الرواية مما قطع التطور الدرامي لها ليعود فيما بعد ويستأنف ذلك في الفصل السادس الامر الذي اوقع الكاتب في خطأة فنية كان بامكانه تجنبها. نقول لك مع ان الفصل بحد ذاته كان جميلا ومحكم البناء، اضافة الى ان حسر مثل هذه الفصول الزائدة امر استعمله كتاب عالميون مثل شتاينبك، لكن كاتبا مثل شتاينبك كان يتعمد ذلك لخلق موانزة معينة هي موجودة في عمل الركابي، اضافة الى ان تجربة هذا الكاتب الامريكي كانت مصدر اعتراض الكثير من النقاد.
من الوسائل التكنيكية التي استخدمها الركابي في (اعداد المدفع 106) التداعي والفلاش باك. والتداعي لدى الكاتب يبدو لنا في اغلبه مرسوما ومخططا ومنظما مما يعني تهيئة الكاتب له، بمعنى انه لم يكن تداعيا حرا وتلقائيا، وذلك طبعا امر وارد جدا ومستخدم من قبل كتاب كثيرين. في اجزاء معينة من الرواية كانت حالة نفسية معينة تدفع الشخصية بتلقائية لايبدو فيها تأثير الكاتب واضحا، نحو التأمل والاستغراق في الماضي، وفي اجزاء اخرى كان الكاتب يلجا الى الفلاش باك (المباشر) لينقلنا الى ماضي للشخصية ضمن متوسما اتمام رسم الشخصية من جهة، وخلق معادل موضوعي للشخصية ضمن حالة معينة او اثناء وقوع حدث معن لها من جهة ثانية. ونسجل هنا اعتراضا على الحاح الكاتب احيانا في استخدام الفلاش باك ما يزيد على حاجة العمل فنا او موضوعا او حدثا او شخصيات، فنحن نعرف ان صورة الماضي وتاريخ الشخصية يكونان ضوريين حين بنيران اللحظة الحاضرة او يساهمان في رسم الشخصية او يكملان خط الاحداث الحاضرة او يكونان في موضوعيهما متجاوبين مع حالة نفسية معينة لتلك الشخصية، وهذا كله يعوز بعض حالات لجوء الكاتب الى الفلاش باك، كما اشرنا الى شيء من ذلك سابقا. لكن ذلك لا ينسينا طبعا تلك النقلات الجميلة بين الماضي والحاضر والتي نفذها الكاتب مع اغلب الشخصيات.
ان الكاتب يستخدم في ذلك كله، وفي عموم الرواية، لغة بسيطة وكلنها جميلة ومتماسكة، وهو ينمح كل شخصية ايضا اللغة المناسبة لها الامر الذي جنبه – كما اشرنا – عيب حوار الرواية الاولى. ولعل من المهم، فيما يتعلق بلغة الكاتب وبتداعياته، ان تشير الى مقدرة الكاتب الوصفية المتميزة. ان الركابي يكاد ان يرسم لوحات لما حول الاحداث، تعينه في ذلك هذه اللغة المطواعة الجميلة والمعايشة التي يبدو انه يمتلكها للمواقع الحقيقية التي استواحاها لاحداث الرواية، وهو في غالب صورة هذه ينجح في رسم توازن فني يساعد على تنوير الحدث الدرامي اولا، وتنوير دواخل الشخصية ثانيا ويقدم اضافة الى ذلك قيمة جمالية.
بقيت ملاحظات اخيرة تذكرها… اولاها ان العدو لا يظهر عمليا الا بشكل محدود وفي نهاية الرواية بالذات، ومع ان ذلك يقلل من عوامل خلق المواجهات التي تهيئ بدورها صراعات تزيد من عنصر الشد، فان الكاتب استطاع، وبنجاح ملحوظ، شدنا بشكل تدريجي من البداية الهادئة للرواية وتدرجا مع تنامي الاحداث وتصاعدها في الاقسام التالية وتتويجا بالمواجهات الاخيرة في الفصلين الرابع والسادس حين تقع المعارك الحقيققية وتتحقق المواجهات وتتصاعد احتمالات التعرض للخطر والاستشهاد والتصحية. كل ذلك يحدث مصحوبا بحالة الانتظار والتربص والخوف الذي نعيشه ونحن نتابع كل شخصية الى ان نجدنا والشخصية الوحيدة التي بقيت (عنيد دواس) بعد استشهاد بقية رفاق السلاح.
الملاحظة الثانية هي ان الكاتب قد خرج في مرات معدودة عن موضعيته التي حافظ عليها على امتداد روايته، وكان الخروج – بشكل خاص – في استخدام ضمير المتكلم مثلا مع بعض المفردات (جنودنا، قواتنا، جيشنا..الخ) مما سبب مأخذا فنيا حيث ان ذلك قد ادخل شخصية الكاتب المختفية اصلا والحيادية – كما يجب ان تكون – في عالم الرواية ليصبح طرفا معنيا، ان صوت الكاتب هو اصلا ليس من اصوات الرواية وعليه فكان يجب ان يختفي كلية.
عدا ذلك لابد ان نشيد بانجاز الكاتب لروايته التي تعد بحق واحدة من احسن روايات المعركة التي ظهرت خلال السنوات الثلاثة الاخيرة، ساعدت الكاتب في تحقيق ذلك مقدرته الواضحة، والتأني والصبر والنفس الطويل التي يفتقدها الكثير من كتابنا، والمعايشة الفعلية، على ما يبدو، لجبهات القتال. والرواية، بعد هذا، اضافة نوعية لجهود الكاتب الروائية والقصصية اولا وللتراث الروائي العراقي ثانيا.
شاهد أيضاً
دراسة عن دروب وحشية
تشكلات البناء السردي في رواية دروب وحشية للناقد نجم عبد الله كاظم أنفال_كاظم جريدة اوروك …