هزّاع البراري، أعالي الخوف

أزمة الوجود والفرد والعلاقة بالآخر
في رواية “أعالي الخوف” لهزّاع البراري
منشور
د. نجم عبدالله كاظم
( 1 )
يجمع الروائي الأردني هزاع البراري في روايته “أعالي الخوف”(*) ثلاثة أصدقاء، في عمّان، (الدكتور فارس) وهو أستاذ جامعي تقدمي يقترب ظاهرياً من أن يكون زير نساء؛ و(بطرس) وهو تقدمي أيضاً، وهو طبيب أسنان مسيحي شبه سكّير؛ و(الشيخ إبراهيم) وهو شيخ جامع متأرجح بين الدين والحياة. وإذا ما كان مثل هذا اللقاء أو الالتمام بين هكذا ثلاثة مختلفين حد التباين وربما التناقض، فإنّ ما سيأتي سيبرّر ذلك ويقنعنا، كما سنأتي. فمن الفصول القليلة الأولى نجد أن ما يجمعهم يشبهُ حالة ضياع وغرق في هموم قد يستطيعون ونستطيع معهم وضع اليد عليها وقد لا نستطيع تماماً. في كل الأحوال هم جميعاً قد يجسّدون، كلٌّ بدرجة ما، أزمة وجودية، هي أزمةَ الإنسان المطلق وأزمة الفرد في بلد أو مكان بعينه. وحين تعيش هذه الشخصيات هكذا أوضاعاً داخلية، فليس غريباً أنها جميعاً تبدو وكأنها تبحث عن الحزن بحثاً، فتراه يأتيها من دواخلها، كما يأتيها من خارجها وتحديداً من خلال ما يدعو إلى الحزن من أفكار وأحداث وأناس وعلاقات. هي جميعاً تختزن هموماً وأزمات وتوترات ومعاناة تجعل كلّاً واحدة من هذه الشخصيات أشبه بقنبلة، مع أنها ليست موقوتة، فإنها مقدّرٌ لها أن تنفجر بأقل مسّ خارجي لأي سلك فيها، لا لتكتسح الآخرين بل لتكتسح صاحبها. والأهم أنها في ذلك تنعزل عن الآخرين ليجل ذلك كلاً منها بحاجة إلى الأخريين.
إزاء تعدد أبعاد هذه الأزمات الإنسانية وما تقود إليه من انقطاع عن الآخرين وعدم القدرة على التواصل الطبيعي معهم من جهة، وانكفاء الشخصيات الثلاث على أنفسها من جهة أخرى، تبرز هذه الشخصيات، في كثير من تمظهراتها، ضحايا للوجود، بل قد نحس وكأنّ لعنةً سقطت عليها وعلى حيواتها. وحين نتحول من هذا البعد الإنساني وربما الكوني والوجودي إلى الفرد أو الإنسان في مكان أو بلد بعينه هو عمّان أو الأردن نجدها ضحايا أنفسها والمجتمع، وضمن ذلك نجد أبرز ما يتحرك، في حيوات هذه الشخصيات وسلوكياتها وأطر تفكيراتها، هو الماضي وعوالم الماضي وتجاربه وبعض أناسه والعلاقة بهم.
وإذا ما كانت الصداقة، وما يترتّب عليها من جلسات بين الثلاثة جميلة وربما مثيرة، فهي، في طبائع أطرافها وخلفياتها، بحاجة إلى المبرر أو المسوّغ وصولاً إلى تحقيق الإقناع، فكانت أزماتها هي التي تجعل كل واحدة منها بحاجة إلى الاثنتين الآخرَييْن.

( 2 )
(الدكتور فارس) شخص مهووس بالنساء بل يكاد يكون زير نساء إلى درجة إقامة علاقات حب متتالية مع طالبات، مما ينتقص من أستاذيته، حتى وهو ادعاءً تقدمي. ولأن حياته تكاد تتمحور حول المرأة، فإن حياته تسير وفق علاقاته بالنساء وهن كثيرات أهمهن: (إيناس)، و(ديمة)، و(هديل) و(نور). والأولى زوجة سابقة له، وهي شركسية يطلّقها بعد إصابتها بالسرطان، استجابةً لإصرارها على ذلك، قبل أن تموت. وإذ تشكل جزءاً من حياته، فإنه يفتقدها ويحنّ إليها باستمرار، فيقول:
“إنني من بعد إيناس لا علاقة لي بالأبد، فحياتي كلّها مقامرة خاسرة”، ص163.
أما (ديمة) فهي التي يجد فيها، أو يحسّها البديل، أو ربما هي، بعد فقدان (إيناس)، التعويض. لكنه يكسر قلبها حين يتركها، وبعد وقت، يقول:
“كانت المرأة الوحيدة التي تستطيع لملمتي بعد إيناس. لكني تركتها تبتعد وتضيع”. ص202.
ولهذا لم يكن للنساء الأخريات اللائي يقيم علاقات معهن، ليعنين شيئاً له حين يغادرهن أو تغادرنه.
أما (الشيخ إبراهيم) فجل أزمته تعود إلى ارتباطه بالماضي وأناسه في قرية (بشرى). فيُقدم على التمرد على أرث العائلة الديني، الأمر الذي يُربك الأهل والأب، ويُدخلهم في ألم مما يرونه عدم هداية الابن، ويُدخله في أزمة حين يجد نفسه ينقطع عن أهله، ولهذا هو يستذكر أمه بعد موت أبيه وهو صغير:
“أخذتْ تبكي بحرقة وتلطم وجهها، ولم أُدرك أنها كانت تبكي عليّ وليس على أبي الميت، إلا بعد أن كبرت، ومزّقتني الدنيا بأنيابها المسعورة”. ص65.
ولأنه يبقى يعيش الأزمة حتى حين يصير شيخاً وإمام جامع، ولا يستطيع أن ينزع نفسه نزعاً تاماً من الماضي، يحضر الرابط المعلن بينه وبين ذلك الماضي والأهل متمثّلاً بـ(خليل) الذي يأتي من بلدة (بشرى) ليصير مؤذناً معه، وفي الوقت نفسه خيطاً يحاول أن يربطه ليعيده إلى أهله الذين يتركهم بكل ما يمثلونه من أساس وتاريخ وحياة ومُثل وقيم، بمعزل عن صحتها أو خطئها، خصوصاً وهو غالباً ما يبدو، في ظهوره واختفائه وكلامه، أشبه بشبح، وهو يقول له:
“- اذهب إليها، زينب تناديك.
“تسمّرتً مكاني، كلمات خليل شظايا زجاج تنغرز في قلبي، تأملته يختفي مثل عفريت أسود… وصلتُ الباب واتّكأتُ حيث كان خليل، ليتني أبكي، لكني بلا دمع منذ مات أبي، وبكتني أمي طفلاً مشدوهاً على باب البيت مثل غريب تائه”، ص104-105.
أما (ديانا) فكأنها قد أُريد لها أو أراد (إبراهيم) نفسه لها أن تكون بديلاً عما يشعر بأنه أضاعه من ماضٍ وأهل بكلّ ما يشتملان عليه، بوصفها (آخر) ينفتح عليه، فهي مسيحية شيوعية زميلة في الدراسة يرتبط معها ببدايات حب لا يستمر، فتسافر بعد إنهاء دراستها إلى كندا، وفي بحث (الشيخ إبراهيم) عن هوية، لا يكاد يستدلّ عليها، بعد إضاعة الأهل والماضي ثم (ديانا)، تتعمق أزمته ولا يبقى أمامه إلا الانفتاح على (آخر) من نوع خاص يتمثل في (فراس) و(بطرس)، حين تجمعه بهما الأزمات.
ثالث الأًصدقاء هو طبيب الأٍسنان المسيحي (بطرس) وهو ثمرة زواج أبيه (نيقولا) وأمه الإيطالية، الذين يقول عنهما:
“كنت أنا ثمرة هذا الزواج، ثمرة جوز قاسية لم تصمد طويلاً، سرعان ما فسدت وصارت غير صالحة إلا للموت، الثمرة التي لا حياة فيها، هي موت مؤجل برسم العفن”، ص141.
تخطف قلبَ (بطرس) البدوية (عليا) حين يعمل طبيبَ أسنانٍ في مادبا، فيقتلها أهلها أو تنتحر بسببهم- لا أحد يعرف تماماً- ويخصونه. هذا يزرع في نفس (بطرس) ألماً عميقاً، فيعتزل الحياة في ما حوله، ويعتكف في عيادته أو بيته، حتى يلتم على الصديقين الآخرين، ليقول لهما:
“أريد أن… أستلقي على هذا الكرسي وأموت، سيكون ذلك لذيذاً ومدهشاً”. ص47.
نتيجةً هذا كلّه، تفتقد الشخصيات الثلاث القدرة على التواصل مع الآخرين وإقامة علاقات سليمة وصحية ومتعافية معهم، ليكون البديل توثيق العلاقة فيما بينها حتى وهي مختلفة الطبائع والخلفيات، كما قلنا.

( 3 )
في الجانب الآخر من جانبي الرواية، نعني جانبَي الموضوع والفن، توزّعت فصول الرواية على شخصياتها. ولأنها مروية بضمير الـ(أنا) على لسان (فارس)، ولكن بعضها يدور حول الشخصيتين الأخريين أو إحداهما، فقد تأتي الرواية بضمير الـ(أنا) وكأنها رواية بضمير الـ(هو)، مع هيمنة (فارس) في كل الأحوال حضوراً وروايةً ووجهةَ نظر. ولهذا أعتقد لفتة مقنعة ومبررة أنْ يقدِّم الفصل الأول عن لقاء (فارس) و(ديمة)، وإنهاء علاقته بها. فهو فصل يمكن أن نعدّه بكليته عتبة إذ يخط بعض طبيعة الرواية من جهة أولى، ويمهّد لكلّ الآتي فيها، من جهة ثانية، ويقدّم ملامح أولى نتوقع أن يرسّخها القادم من الرواية للشخصية المهيمنة من جهة ثالثة، وكل ذلك بدون تكلّف أو اصطناع ولا بتقليدية التمهيد الممجوج. فما ينطلق منه هذا الفصل وما سيكون جزءاً كبيراً من أزمات الشخصيات وربما أزمة الإنسان الذي يمثلونه، هو العلاقة بالآخر، وهو ما يتأكد لنا مع مسار الرواية، بل بنيتها في التيجة.
فالرواية تسير إلى الأمام، نتيجةً لشخصياتها وعلاقاتها بالآخر، وفقاً لإيجابية العلاقة أو سلبيتها، ولوصلها أو قطعها، وللحرص عليها أو التعالي عليها. ولأن الشخصيات، في ذلك كله، ليست وليدة اللحظة بل الحياة والماضي، تحضر استرجاعات من الماضي والتاريخ لتكون تلك الاسترجاعات مفسّرة غالباً لبعض ما يجري أو إضاءات لها.
في النهاية، قد يُؤخذ على الروية أنها، مع وجود تصاعدات آنية ومؤقتة في مسارها السردي، تفتقد عموماً التصاعد الذي يجب أن يكون عليه خطّها فمالت إلى الأفقية، لكن ما خفّف من الوقع السلبي لهذه الأفقية وربما برّرها أنها ليست رواية حدث، بل رواية شخصيات وأفكار. وإزاء هذا، هناك الكثير مما يحسب للرواية، وأهمُّه أولاً إنها تقدّم موضوعها ببعدين منصهرين ببعضهما، عادة ما نبحث عنهما في العمل الروائي، هما البعد المحلي والبعد الإنساني لشخصياتها وأزماتها؛ وثانياً الأسلوب الذي اعتمد بشكل أساس لغةً سردية، كما قلنا، تستجيب لمتطلبات السرد بأحداثه؛ وثالثاً توفُّرها على الإمتاع الذي يتعالى عليه الكثير من الكتّاب، غافلين عن أنه يبقى إحدى غايات الأدب.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*) هزّاع البراري: أعالي الخوف، رواية، الأهلية للنشر والتوزيع، عمّان، 2014.

عن fatimahassann23

شاهد أيضاً

دراسة عن دروب وحشية

تشكلات البناء السردي في رواية دروب وحشية للناقد نجم عبد الله كاظم أنفال_كاظم جريدة اوروك …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *